أي طوفان يهدم ما يكون في طريقه وطوفان الأقصى ليس استثناءً. هل للأسف، أم أنه لحسنُ الحظ، أن الطوفان الذي كان الهدف منه الإطاحة بالكبرياء الصهيونية أزاح الغطاء كذلك بالكامل عن حالنا العربي؟ أول الضحايا كانت الخطوط الحمراء التي أشاعتها الجهات الرسمية العربية والإسلامية حول قدرتها الرد في المكان والزمان المناسبين على الاعتداءات الصهيونية. تهاوت هذه الخطوط و ادعاءات المقدرة خوفاً من الصهيونية وحلفائها. لم يوقظ الكيان العربي الإسلامي بكل راياته سيلُ الدماء في غزة فكأنه استطاب النوم الوثير على القيام والنفير. صحيح أن الصهيونية لم تهاجم سوى بعض الدول لكن هذا كان كافياً لكي “يضبعَ” الباقي. سيتذمر البعض من ذمِّ تلك الخطوط التي حددتها و كررتها دولٌ مستقلة وذات سيادة، المضروبة وغير المضروبة، لأن العديد تأخذهم العزة بالإثم. في عمق الهوان الذي نشعر به تسمع من إذاعاتهم الأناشيد المحتفية بالوطن والزعيم والإنجازات. لأنه من مخرجات العقل العربي والإسلامي الرسمي التغني بالسيادة و الإنجازات للتسكين الشعبي، وأكذبها استعراض قوة الجيوش دون استخدامها، إلا بيننا.
ثانيها، صحيحٌ أن معظم الحكومات فقد احترام الشعوب وثقتها بها منذ زمان، لكن غزة تؤكد هذا الفقد. عندما يعرض نتنياهو و سموتريتش خرائط إسرائيل العظمى لا يقول عربي مسؤول ولو نكايةً أن فلسطين محتلة. لكنهم حتى الفلسطينيين يصرخون لحل الدولتين الذي مسحته الصهيونية. من يقول بإزالة “إسرائيل” من الناس تعتبره دولنا العربية أحمقاً يستحق اللوم أو العقاب. حكوماتنا قويةٌ في الداخل لكنها وديعةٌ للخارج.
وثالث من سقط هو الانتماء للعالم الرسمي الذي معظمه نفاق. لم يعد لدينا الرغبة لسماع مواعظ القانون الدولي أو لقلق هذا وفزع ذاك. مع غزة المضيئة بالاستشهاد، صارت هذه الدنيا محض ظلام وظلم ونفاق وتمثيل. لا يغسل الطوفان شعورنا باليأس من العالم و من الضياع والذل العربي الإسلامي. بل يعززه. اليأس الطاغي بمعرفةِ أننا أبشعَ أمةٍّ في هذا الزمان. الله وصفَ من كانوا قبل قرون هجرية أنهم خير أمة، وربما ينطبق الوصف على القلة منا اليوم، لكن ليس نحن. نحن صرنا الغثاء الذي يتصنع المعاني السامية. الرمم التي تدور فوقها الهوام تلتقطها كيفما تشاء.
ثم في هذا الظلام، أَأَملٌ في النفس أنْ فعلاً سننتصر نصراً حاسماً؟ إنهُ شعورٌ وَجِلٌ وخائفٌ من النفيِّ. كلمعةِ ألمٍ نظنها أملاً تظهر وتختفي في الجسد العربي الإسلامي المشلول تقول أنه قد يعود للإحساس. لكن المرض العربي الإسلامي الشالَّ عُضالٌ، و تشخيصهُ بالدقة اللازمة لعلاجهِ مؤذيةٌ ومؤلمةٌ، بل قد يكون علاجه مستحيلاً بالموجود من عقول تقود الناس، إلاّٰ من رحمهُ الله.
إن كانت الدول العربية والإسلامية تختار مرض النوم هرباً من مواجهة الصهيونية والصحو بمواجهة الشعوب فالمقاومة التي اختارت القتال وتتحمل آلامه لديها مرض الفُرْقَة. المرض المذهبي الذي تغض المقاومة عنه النظر الآن سيعود للظهور، وهو في الحقيقة، لم يختف. تقول المقاومة بأصنافها أن ما يحركها هو قوة العقيدة والإيمان. لكنها مصابةٌ بعقيدةِ بعض توابعها ولا بد من معالجة المرض المذهبي المُتَغاضى عنه اليوم لأنه يبقى سبباً للضعف والتشرذم العربي والإسلامي على مر السنين. إنه الفالق الذي سيتسرب منه العدو مجدداً، وهو من صنع أيدينا، تُغَذِّيهِ جهالاتٌ لا يوقفها العقلاء مشيئةً أم عجزاً.
وتشكل صعوبة الحياة في غزة، من فقدان البيوت والمدارس والعلاج و موت الآلاف وإعاقة الآلاف وأسر الآلاف، عاملَ ضغطٍ سلبيٍّ على المقاومة. قد لا ينتقد الناس حماس و الجهاد علناً لكنهم ينتقدونهما لأن المقاومة التي مهما يحترمونها لم تبنِ مقدرات صمودهم المدنية بوجه التترية الصهيونية التي أحالت مدينتهم وحياتهم لركام. لكل حربِ مقاومةٍ ضحايا و ضحايا غزة يقفون دون سندٍ كافٍ لمعيشتهم سواء من مقاومةٍ أو عروبةٍ. ولا بد لذلك من توقع ردَّةَ فعلٍ عكسية للهدف الذي تبغاه المقاومة و الشعب قد يكون أدناها مستوىً النقد للمقاومة والابتعاد عنها. لكن أعتاها هو حين يتلقف هذه المشاعر من يتباحثون، فوق الجثث المدفونة في التراب والمتعفنة بالمنازل المحطمة والمسروقة من المقابر وهلع الضحايا، عن دولةٍ فلسطينية منزوعةَ المقام والمكان وكأن الذين ماتوا والآلاف غيرهم ممن ضحوا في غزة و باقي فلسطين سيريدون دولةً تحت الظل “الصهيو عربي فلسطيني”. وقد يكون. ليس لأنه الطموح الفلسطيني بدولةٍ مشلولة بل من أجل الهروب من الموت، واليأس من التحرير، وقبله اليأس من نُصرةِ العرب والمسلمين. دولةٌ بلديةٌ تعيش على الهبات نموذجاً للفشل العربي الإسلامي لتحرير فلسطين قد تقيهم الموتَ الصهيوني إلى أن يقضي اللهُ أمراً كان مفعولاً في هذا الاحتلال. وستفشل هذه المبادرة لرفض الصهاينة لها وإصرارهم على الفتك حتى الاستعباد بأهل غزة بل وكل فلسطيني. فما داموا بلا سندٍ مُسَلَّحٍ من العالم العربي الإسلامي العلماني يوقف الصهيونية فليس من يرغم الصهيونية علي شيء ولا يبقى للفلسطيني سوى الموت قتلاً أو الاستسلام والموت ذُلاًّ.
إن دمجَ إسرائيل في المنطقة، الذي كما يقول بلينكين هو مطلب العرب، إنْ أتى فسيأتي على أشلاء غزة والحلم الفلسطيني بالتحرير بل وحتى السيادة العربية التي ستلتهمها الصهيونية قضمةً قضمة. وكيف لا يأتي التطبيع الجامح والعرب في هذه الحالة المتردية المستسلمة. ولنفترض مقاومةً كالتي لحزب الله واليمن و هي كما يقولون في وحدة ساحات فإلى متى ولأي هدف يقاتلون لوحدهم في ساحةٍ رسميةٍ لها القول والفصل ولا تريدهم؟ هل الأمل هو استفاقة الشعوب والحكومات من الشلل والمذهبيات المتناحرة وتجييش المنطقة ضد الصهيونية؟ بعيدٌ هذا عند التمعن منطقياً بأمراضنا التي تنخر فينا والجهد العربي الرسمي الذي يفضل مجاورة “تسيبي ليفني” في ميونيخ وقول الزور معها لترضى الغانية اللعوب.
إن التمسك بأهداب الأمل مطلوب والإيمان بالمقاومة كذلك، ومشروعٌ أن نتساءلَ عن القادم ونحنُ في ظلامٍ يهاجم الآمال ويترك الشعوب لمصيرِ الموتِ والاستسلام للتطبيع، وفي ظرفٍ تتكالبُ فيه الضغائن العقائدية والتآمر الوجودي على من يقاوم ومن يحضنه. فمن عنده الإجابة؟
علي الزعتري دبلوماسي أُممي سابق
– الأردن –