فرض موضوع المقال القيم التنويه به لدرجة استعارة عنوانه أعلاه للكاتب العربي اليساري يوسف عبد الله محمود في دفاعه عن جمال عبد الناصر، وذلك لأكتب ليس للرد على الدكتور النفيسي، وإنما حصرا للكشف عن حالته النفسية التي يعاني منها.. لقد وصلني قبل أسبوع هجومه غير المبرر على قائد الأمة في وقت يعز فيه على العرب، و”المتأسلم” منهم من قادة فكر تيار الاسلام السياسي، أن لا يجد فكريا وهذا أضعف الإيمان، لاجتراح حل، له موقف مشرف لتدفع به الأمتين العربية، والإسلامية، هذه الإبادة الجماعية لابناء، ونساء، وأبرياء العرب الذين يتعرضون لتصفية قضية الأمة وهزيمتها لأكثر من مائتي سنة – عصر الاحتلال الصليبي – في فلسطين.. وهذا الواجب المتروك قهرا، ويجب على كل وطني، وعروبي، ومتأسلم، وانساني حر، أن يهتم به، أحرى إن كان عقلا أكاديميا، ويرفعه المعجبون بكتاباته الى مصاف المفكرين، وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر.
ومنذ سنوات خلت حين كثرت صوتيات النفيسي عن القضايا الجزئية، سألني البعض عن موقعها في التفكير السليم، وعرفت مغزى السؤال، فقلت للسائل، لعل الإجابة في استرجاعك لما قاله الفقهاء عن الفقيه، إنه يؤخذ بعلمه الشرعي، ولا يؤخذ بسلوكه إن كان مخالفا للشرع، بمعنى أن أقواله وسيلة لتوصيل المعرفة، وليس سلوكه معيارا للشرع إذا تناقض مع الأخير معياريا، لأنه في هذه الحالة تكون افعال الفقيه أسوأ من تلك التي تصدر من الجاهل بجهله..
وهل هذا يختلف عن معارف الدكتور النفيسي بالنظر إلى مواقفه السياسية التي تعبر عن افتقادها للمعيارية، وكشفها عن انفصام حاد في وعي الشخصية السوية أمام التحدي الكبير الذي يواجه بني قومه، ولا يواجهه شخصيا، وهذا في جانب منه اقرب الى الترف الفكري منه الى الالتزام، وتحمل المسؤولية..ومن ذلك موقفه ( كمفكر عربي اسلامي ) في اقواله عن المذهب الشيعي، والثورة الإيرانية، وتقوله لرجال في الحكم.. واختزان كل ذلك في ذهن النفيسي الى ما بعد ذلك بعمر .. والتشهير بالمذهب الديني بدلا من الحكم السياسي، جاهلا، او متجاهلا، وناكرا لمذهبهم الفقهي، وهو مخالف بذلك تصنيف شيوخ الأزهر الشريف قبل، أن يكون شيوخه من أتباع الحزب الوطني بقيادة ” سوزان مبارك .”.
وبالرجوع إلى موقف الدكتور النفيسي من جمال عبد الناصر، فالأول يجهل، او تجاهل المعايير التي تحدد القيادة الوطنية، والقومية، و وضرب بعرض الحائط الكارزمية للأبطال التاريخيين، لأنه حسب موقعه، وتقوقعه فيه غارق حتى الودجين.. وهذا واضح من الاعتراضات التي وجهت له، وعجزه الفاضح عن الرد عليها، كما طلب منه محاوره في الدعاية الموزعة، وبدلا من ذلك، راح يستحضر آثام تلك الشخصيات التي يمثل حضورها في وعي النفيسي، إشكالا يتعلق بعجزه عن مواجهة الأصنام التي يبعدها سياسيا، بعد ان ” تكيف ” معها طيلة حياته، ولكنه في حالة من محاكمة الضمير له، تنتابه هذه المغنصات الذهنية ، وهي من مظاهر سوء “التكيف” الذهني، لذلك يصعب، بل يستحيل عليه الاجابة على السؤال: لماذا الإسقاط الآثم من التاريخ لأشخاص يمثلون استثناء فيه.. على جمال عبد الناصر، بدلا من الحثالات التي يقصدها بهذا التقييم، ويعجز عن مواجهتها، لأنها هي التي تشكل حاضره الذي تأقلم معه ويصارعه للتخلص من مخادنته في محاكم الضمير.. ؟
وهنا افتقد النفيسي الشجاعة، والقيم الفكرية بمضامينها في أحكامه، وأقواله، واسقاطاته، بل سقطاته التنفيسية التي انقلبت عليه باحكامه الهزيلة ، كثقوب من الباب لعله احتفرها بضعف بصر، وبصيرة ليدخل إليه ضوء يخرجه من عالم النسيان، حين انتهى عصر التطبيل، والمديح التنظيري للمخلص الأمريكي واستحالته الى محتل، وهذا ما عجز عن اكتشافه قبل التطبيل له، كمحرر للكويت، وبعد تأييد النفيسي لفقاه السلاطين في فتاويهم الافتراضية بجواز الاستعانة بالمحتلين لاحتلال جميع إمارات العرب، وتحويلها الى مستعمرات امريكية في الخليج العربي..!
وليس جديدا على المواطن العربي في الكويت، أن جمال عبد الناصر، هدد بالتدخل العسكري، عبد الكريم قاسم، حين صرح الأخير بنيته لضم الكويت الى العراق..لكن النفسي يتجاهلها، بل يجهلها، لأنها لا تتساوق مع محمولاته الناقلة لكوابيسه في الواقع العربي الحالي التي يتدمر على غرار الأفعال الاجرامية في الصفات الهتلرية، والنيرونية على لسان النفيسي اللاذع في التقييم، علاوة على مكبوح أحقاده على جمال عبد الناصر رحمه الله الذي قاد ثورة ١٩٥٢م، وليس المقبور السادات، كما أخذ الظن بالنفيسي الى هذا الحد.. ولا حتى محمد نجيب الذي أعطيت له رئاسة، لا يستحقها، فحاول خداع قيادة الثورة باستقدامه لـ “لواء الخيالة” من حدود مصر مع السودان، وذلك للهجوم به على نادي الضباط في الإسكندرية، ولما فشلت المحاولة، اعتذر عنها، وطلب الصفح، ثم تحالف مع مشايخ، لا عهد لهم بالسياسة، وإلا ما كانوا وقعوا على منشور صادر عن السفارة الانجليزية برفضهم اخراج الاحتلال العسكري الانجليزي من مدن القنال..
وأكثر من ذلك رفض محمد نجيب الذي “تأخون”، أن يعلن قيام نظام الجمهورية، وزوال النظام الملكي، وفساده، وتحالفه مع المحتلين.. ومن هنا كان القاسم المشترك بين رؤية النفيسي التي ترفض النظام الجمهوري، وقبلت بالامريكان، ودافعت عن النظام الملكي، ومتعلقاته الأميرية التي هي كالنملة السليمانية المحطمة نفسيا وفكريا، ولا أحد من حثالات الحكم العربي اليوم، يستطيع أن يدافع عن الأمة نظرا لغياب القادة الجمهوريين..
ويمكن فهم الخلفية المختزنة في صدر النفيسي، و عنوانا يبصقه على مسامع الأحياء، قاصدا الأموات باعتبارهم أعداء يرافقونه ربما في أوقات الاسترخاء، وحين صرح بذاك – أثناء عجز الأمة عن مواجهة الصهاينة في تدمير الحاضر والمستقبل العربي العام – كان مصابا بهذا الاغتراب النفسي في مصارعته لأشباح الأموات من قادة الامة أثناء خرجاته الإعلامية، والدعاية الموزعة في وسائل التواصل الاجتماعي، كجزء من التنفيس، للنفيسي شفاه الله من أسقامه..
وهي من تداعيات أوجاع الأمة، وهذا هو حدود أنفعال صاحبها بالواقع العربي الذي يشهد موت عصر، وولاة آخر في مخاض عسير.. لكن العمر البيولوجي لعصر بائس، آيل لازوال، كعمر الفرد في أرذله، والشيء بالشيء يذكر .
د. إشيب ولد اباتي كاتب عربي موريتاني