ـ أولاً: حتى اليوم لم يُسجِّل التاريخ البشريّ انتصارًا أوْ إنجازًا لجيشٍ نظاميٍّ في أيّ مُواجهةٍ خاضها هذا الجيش أوْ ذاك في حرب العصابات، ففيتنام علّمت قائدة الإرهاب العالميّ، الولايات المُتحدّة الأمريكيّة، درسًا لا تنساه ومرّغت أنفها بالتراب، كما أنّ فرنسا، تمّ إذلالها من قبل الجزائريين الشجعان وطردها شرّ طردٍ، وهو السبب، طبعًا من بين أسبابٍ أخرى، الذي يدفع فرنسا إلى رفع منسوب حقدها وكراهيتها للناطقين بالضّاد، كذلك الأمر أمريكا في أفغانستان والعراق وفي بلادٍ أخرى، وكما قال كارل ماركس فإنّ التاريخ يُعيد نفسه مرّتيْن، المرّة الأولى كمأساةٍ، وفي المرّة الثانية كمهزلةٍ.
ـ ثانيًا: تُعرَّف حرب العصابات بأنّها شكلٌ خاصٌّ من أشكال القتال يدور بين قواتٍ نظاميّةٍ، وبين تشكيلاتٍ مسلحةٍ تعمل في سبيل مبدأ بالاعتماد على الشعب أوْ جانبٍ منه، وتستهدف تهيئة الظروف الكفيلة بإظهار هذا المبدأ أوْ هذه العقيدة إلى حيّز التطبيق.
ـ ثالثًا: بدأ تبلور حرب العصابات بهذا المعنى على يدّ الإسبان الذين شكّلوا من بينهم عصابات مسلحة لمقاومة نابليون وإزعاجه وإنهاكه بعد هزيمة قوّاتهم النظاميّة على يديه، وبعد انتهاء الحرب الباردة بانهيار وتفكك الاتحاد السوفييتيّ، أدّى ذلك الى تغييرٍ في شكل النظام الدوليّ، وموازين القوى العالميّة، حيث برز دور الولايات المتحدة الامريكية كقطبٍ وحيدٍ تهيمن على العلاقات الدوليّة، وتجلّى ذلك الدور في حرب الخليج الثانية، وشنّ الحرب على العراق وأفغانستان والصومال، وتبنّي الحرب على “الإرهاب” (!).
ـ رابعًا: نتيجة الخسائر الفادحة والتكلفة الماديّة الضخمة التي تكبدتها القوات الغازيّة، من الضربات التي تلقتها من قوى ثوريّةٍ صغيرةٍ وضعيفةٍ، وقوات تسليحٍ بسيطٍ وخفيفٍ، أدّى ذلك الى تحوّلٍ في الفكر الاستراتيجيّ العسكريّ، مفاده أنّه مهما بلغت القوى العسكريّة، لا تستطيع فرض الامر الواقع على شعوبٍ قوامةٍ للحريّة والكرامة، تستخدم أسلوب حرب العصابات، للحصول على حقوقها المشروعة.
ـ خامسًا: ممّا تقدّم نتوصل إلى تعريفٍ لحرب العصابات: هي شكلٌ غيرُ تقليديٍّ من أشكال القتال، تدور بين مجموعاتٍ قتاليّةٍ صغيرةٍ، يجمعها هدفٌ واحدٌ وعقيدةٌ راسخةٌ، ضدّ محتلٍ خارجيٍّ، أوْ قواتٍ نظاميّةٍ، فهي أسلوبٌ عسكريٌّ يلجأ اليه الطرف الأضعف بالقوى والوسائط، للتغلّب على خصمٍ قويٍّ، عندما يجد أنّ المواجهة العسكريّة المُباشرة ليست بمصلحته، فيتبِّع أسلوب المُباغتة والسرعة الحركيّة العالية، وضرب العدوّ في معارك صغيرةٍ وعديدةٍ على مساحاتٍ واسعةٍ لاستنزاف العدوّ، واجباره على البقاء بجاهزيةٍ كاملةٍ، وإلحاق الخسائر الفادحة به بجهدٍ قليلٍ، واجباره بالنهاية للرضوخ لمطالب المقاتلين الثائرين، وحسم الصراع سياسيًا.
ـ سادسًا: من الأهمية بمكانٍ، التشديد في هذه العُجالة على أنّه لا يمكن لحرب العصابات أنْ تقوم وتنجح إلّا بحاضنةٍ شعبيّةٍ مؤيّدةٍ ومناصرةٍ، وما يُوسّع القاعدة الشعبيّة، هي تلازم مبادئ واهداف الثوار، الى آمال وتطلعات الحاضنة الشعبيّة، وأنْ يلتزم الثوار بأخلاق وحسن السلوك، والقدوة الحسنة، والتضحية في سبيل تحقيق الهدف المنشود وبما أنّ الهدف الأساسيّ للحرب تحقيق اهدافٍ سياسيّةٍ، إذن لا بُدّ من قاعدةٍ شعبيّةٍ عريضةٍ ومؤيّدةٍ، يُنفَّذ بها ومن أجلها البرنامج السياسيّ المطلوب تحقيقه.
ـ سابعًا: وغنيٌّ عن القول إنّ حرب العصابات ألهمت منظري العسكريّة النظاميّة في الفترة المعاصرة، وهو ما أثمرَ في النهاية تشكيل القوات الخاصّة التي تُوكَل إليها مهام محددة في عمقِ أراضي العدوّ، وتتحرّك في مجموعاتٍ صغيرةٍ لإصابة أهدافٍ محددةٍ في نطاقها الزمانيّ والمكانيّ.
ـ ثامنًا: لا يختلِف عاقِلان بأنّ التباين في القوّة العسكريّة والدعم الخارجيّ هو لصالح إسرائيل في العدوان الهمجيّ والبربريّ الذي تشنّه ضدّ قطاع غزّة، ومن الخطأ تسمية المعركة بأنّها ضدّ حركة (حماس)، بلْ ضدّ الشعب العربيّ-الفلسطينيّ برّمته، لأنّ نتائج المعركة ستكون لها انعكاسات وتداعيات على الكلّ الفلسطينيّ في جميع أماكن تواجده.
ـ تاسعًا: ويجِب التأكيد أنّه في الحرب لا يوجد رابح ولا خاسِر، ولكنْ مع ذلك، فإنّ أداء المقاومة حتى اللحظة، بعد مرور 39 يومًا على اندلاعها، يُؤكِّد أنّ الجيش الإسرائيليّ، وهو الذي يُسّمى بالجيش الذي لا يُقهَر، لم يُحقِّق حتى اللحظة أيّ إنجازاتٍ تُذكر في المنازلة مع المقاومة الفلسطينيّة، ولكن هذا لا يعني بأيّ حالٍ من الأحوال أنّ الأمور ستستمِّر على هذا النحو، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ الأمّة العربيّة تغُطّ في سُباتٍ عميقٍ، فيما تتواجد الأمّة الإسلاميّة في وحدة العناية المُكثفّة. وَجَبَ التأكيد أنّ صمود المُقاومة الفلسطينيّة أمام أحد أقوى الجيوش في العالم يُعيدنا إلى المُربَّع الاوّل وهو أنّه من المُستحيل أنْ يتمكّن أيّ جيشٍ نظاميٍّ، مهما كانت قوّته، أنْ يحسِم المعركة أمام حركة تحرّرٍ تُدافِع عن أرضها وعرضها، وتخوض الحرب نيابة عن الأمتيْن العربيّة والإسلاميّة.
ـ عاشرًا: علاوةً على كلّ ما ذُكِر أعلاه، فإنّ المقاومة الفلسطينيّة أسرت حوالي 240 إسرائيليًا، وبغضّ النظر عن الخوض في العملية، فإنّ المأسورين أوْ المخطوفين، وهم من جنسياتٍ مختلفةٍ، يُعتبرون الرقم الصعب في المعادلة أوْ حتى كاسِر التوازن، الذي سيُجبِر إسرائيل، ضمن دوافع أخرى، للنزول عن السُلّم العالي الذي استوطنت على قمّته.
أخيرًا، مهما كانت الرياح عاتيةً والجرائم بحقّنا مقشعرة للأبدان ويندى لها الجبين، يتحتَّم علينا، نحن العرب الفلسطينيين، أنْ نتمسَّك بإنسانيتنا، لأنّنا لن نصل إلى الإنسانيّة الحقيقيّة إلّا عندما يفتح العالم عينيه الاثنتيْن ويكُفّ عن النظر بعينٍ واحدةٍ.
زهير حليم أندراوس كاتبٌ عربيٌّ من قرية ترشيحا، شمال فلسطين