فشل مجلس الأمن الدولي حتى الآن في اتخاذ قرارٍ يدعو إلى وقف إطلاق النار في غزة ، حيث أحبطت الولايات المتحدة مشروع القرار الروسي المتضمن بنداً بوقف إطلاق النار ، كما أجهضت روسيا والصين مشروع القرار الأمريكي الخالي من أي بندٍ يطلب وقف إطلاق النار ، الأمر الذي يعني استمرار إسرائيل في حرب الإبادة التي تشنها على قطاع غزة منذ السابع من شهر أكتوبر الحالي ، والتي أسفرت حتى الآن عن مقتل أكثر من ستة آلاف وخمسمائة من المدنيين الفلسطينيين الأبرياء ونصفهم من الأطفال . فلماذا تعجز الأمم المتحدة عن اتخاذ قرار يحمي السكان المدنيين ويحافظ على الأمن والسلام الدوليين ؟
فقدت الأمم المتحدة استقلاليتها منذ أمدٍ بعيد ، وبالضبط منذ تأسيسها عام 1945 عندما احتفظت القوى الكبرى الخمس المنتصرة في الحرب العالمية الثانية (أمريكا والاتحاد السوفيتي وبريطانيا وفرنسا والصين) بالعضوية الدائمة في مجلس الأمن وبحق النقض (الڤيتو) كغنيمة حرب . منذ ذلك الحين أصبح مصير السلام والأمن الدولي معلقاً في رقبة هذه الدول الكبرى الخمس ، وعليه منذ ذلك الحين ورثت الولايات المتحدة عن بريطانيا زعامة ما يسمى العالم الحر وورثت مع هذه الزعامة السيطرة والهيمنة على الشرق الأوسط الأمر الذي جعلها تتولى حماية إسرائيل وتزويدها بكل ما تحتاجه من الأسلحة والمعدات والدعم المادي لكي تكون ذراعها الطويل وجسراً لها ولحلفائها في قلب الشرق الأوسط ، إضافة إلى ما توفره واشنطن من الغطاء السياسي والدبلوماسي لإسرائيل عندما تحتاجه بما في ذلك استعمال الڤيتو في مجلس الأمن لإجهاض أي قرار يدين إسرائيل أو يفرض عقوباتٍ عليها أو يجبرها على الانسحاب من الأراضي المحتلة .
خلال الحرب الباردة (1945-1991) انقسم العالم إلى معسكرين المعسكر الرأسمالي الذي يتبنى الديمقراطية كنظام حكم بقيادة الولايات المتحدة والمعسكر الاشتراكي الذي يتبنى الإشتراكية كنظام اجتماعي ونظام حكم بقيادة الاتحاد السوفيتي . طوال فترة الحرب الباردة بين المعسكرين والتي امتدت لأكثر من أربعة عقود ونصف شهد العالم حالة من الاستقطاب وكانت قرارات مجلس الأمن يتم اعتمادها فقط إذا لم تتعارض مع مصالح أي من الدول الخمس دائمة العضوية التي تملك حق الفيتو ، الأمر الذي يعني أن مجلس الأمن عند نشوب نزاع مسلح أو أزمةٍ تهدد الأمن الدولي في أي منطقة من مناطق العالم ، لم يكن يتوخى مصالح العالم الحيوية في إقرار السلام والأمن بل كان يمرر فقط القرارات التي يتوافق عليها المعسكران ولا تحمل أي ضرر بمصالح أيٍ من الدول الكبرى دائمة العضوية أو مصالح حلفائها . ورغم أن المعسكر الرأسمالي كان يحظى بثلاثة مقاعد دائمة من خمسة في مجلس الأمن لكن فيتو واحد كان كافياً لإجهاض أي مشروع قرار لا ينسجم مع مصالح المعسكر الاشتراكي ولا يخدم حلفاءه .
بناءً على ما تقدم ظهرت ازدواجية المعايير والكيل بمكيالين وأصبحت مصالح الدول هي المعيار وليس الحق المستند إلى القانون الدولي أو القانون الدولي الإنساني أو غيرهما من الشرائع الدولية الناظمة لعلاقات الدول مع بعضها . وفي ظل عجز مجلس الأمن عن التدخل في معظم النزاعات المسلحة لحسم تلك النزاعات وحلها لمصلحة السلام والأمن الدوليين ، لجأت الدول دائمة العضوية إلى استخدام وسائل أخرى لإدارة النزاعات ومحاولة كل معسكر لحلها لمصلحته فأصبحت ازدواجية المعايير هي الظاهرة الأكثر انتشاراً في ممارسة العلاقات بين الدول فكنا نجد الولايات المتحدة مثلاً تسعى لتطبيق القانون الدولي وإنفاذه بأية وسيلة ممكنة عندما يصب ذلك في مصلحتها أو مصالح حلفائها ، وفي مناسبةٍ أخرى تجد واشنطن تتحدى القانون والشرائع الدولية عندما تجد أن مصلحتها ومصالح حلفائها تقتضي ذلك .
تفاقم الأمر وزاد الطين بلة بعد انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتي وتفكك معسكره وما نجم عن ذلك من انفراد الولايات المتحدة منذ عام 1991 ولغاية الآن في قيادة النظام الدولي الجديد أحادي القطبية وأصبحت واشنطن تدير الشؤون الدولية على هواها وتقرر حسب مصالحها ومصالح حلفائها ما الذي ينسجم مع القانون الدولي وما الذي يتعارض معه ، فانعكس ذلك بمزيدٍ من التواطؤ مع حليفتها المدللة إسرائيل في كل ما تبغي الأخيرة الوصول إليه وما يحقق أهدافها ومطامعها التوسعية في فلسطين والشرق الأوسط متمتعةً بالحماية الأمريكية عسكرياً والغطاء السياسي والدبلوماسي في أروقة الأمم المتحدة ، فتكرس لإسرائيل وضع الدولة المدللة المحمية من قرارات مجلس الأمن لا سيما تلك التي تتخذ تحت البند السابع الواجب التنفيذ ، فأصبحنا نرى تجاهل المجتمع الدولي بضغط من الولايات المتحدة للقرارات التي تضر بمصالح إسرائيل وتحد من طموحاتها التوسعية ومن هيمنتها في إقليم الشرق الأوسط بينما نجد المجتمع الدولي يهب ، أيضاً بضغط ونفوذ الولايات المتحدة ، لتنفيذ القرارات المتعلقة بالعراق أو سوريا أو أفغانستان أو إيران .
وعليه فقد فقد مجلس الأمن ما تبقى له من استقلالية وفقدت منظومة الأمم المتحدة بأجهزتها المختلفة ما تبقى لها من شرعية ، بل إن الانحياز الأمريكي لإسرائيل ورعاية مصالحها وتجنب الأضرار بها قد دفع الولايات المتحدة إلى الانسحاب من عضوية بعض المنظمات الدولية مثل اليونسكو ومجلس حقوق الإنسان عندما اتخذت مثل هذه المنظمات والهيئات قرارات تتناقض مع مصالح إسرائيل ولم تستطع واشنطن إجهاض تلك القرارات أو تعطيلها ، فقررت الانسحاب من عضويتها وتعليق المساهمة في ميزانيتها . بل إن واشنطن حاولت عدة مرات تفكيك منظمات دولية وإنهاء وجودها تحقيقاً لمصالح دولة الاحتلال الإسرائيلي كما حصل مع وكالة الأونروا (UNRWA) عندما تذرعت الولايات المتحدة بأن عملية السلام التي بدأت في مدريد عام 1991 قد أفرغت الوكالة ، على حد زعم واشنطن ، من أي ضرورةٍ لوجودها إذ لم تعد لازمة طالما أن مشكلة اللاجئين ستحل بالتفاوض بين الطرفين الإسرائيلي والعربي ، ولما لم تستطع حل تلك الوكالة وإنهاء عملها (بعد مضي ثلاثة عقود من بدء عملية السلام التي لم تسفر عن شيء) قامت بتعليق مساهمتها في ميزانية تلك الوكالة وأوقفت التعامل معها .
توجت الولايات المتحدة انحيازها لإسرائيل وتغاضيها عن انتهاكات تل أبيب للقوانين والشرائع الدولية بما فيها القانون الدولي الإنساني بعد عملية طوفان الأقصى في السابع من شهر أكتوبر الحالي عندما روجت لمقولة “من حق إسرائيل الدفاع عن نفسها” فسمحت لإسرائيل تحت هذه الذريعة بشن غارات جوية متواصلة ليلاً ونهاراً على سكان قطاع غزة المدنيين فقتلت حتى الآن أكثر من 6500 من المدنيين الأبرياء العزل حوالي نصفهم من الأطفال ، ومارست ضغوطها على حلفائها وعلى العديد من دول العالم لترديد المبرر نفسه ، “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها” ، وأرسلت إلى المنطقة حاملتي طائرات والقطع البحرية التابعة لهما من فرقاطات ومدمرات وسفن حربية كما هددت أي طرفٍ ثالث (تقصد إيران وأذرعها في المنطقة) مما أسمته استغلال الفرصة و التدخل في القتال ، واستمرت طوال الأيام التسعة عشر بترديد نفس المقولة ، “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها” ، بل إنها أنشأت غرفة عمليات في واشنطن إضافة إلى غرفة العمليات في تل أبيب وقام الرئيس بايدن بزيارة تضامن إلى إسرائيل وشارك في اجتماعات مجلس الحرب الإسرائيلي ، ثم تقاطر لزيارة تل أبيب ، بناءً على أوامر واشنطن ، زعماء الدول الحليفة بما فيها بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وغيرها من حلفاء واشنطن في مهرجان نفاقٍ غير مسبوق للتضامن مع الدولة المعتدية والتي ارتكبت خلال الأيام التسعة عشر الماضية عشرات من جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وجريمة الإبادة الجماعية (genocide) وجريمة التطهير العرقي التي ما زالت قائمة بدفع السكان المدنيين في شمال غزة للنزوح إلى الجنوب تمهيداً لتهجيرهم إلى سيناء . كما طلب الرئيس بايدن من الكونغرس الموافقة على تقديم مساعدة مالية لإسرائيل بقيمة 14 مليار دولار إضافة للأسلحة والذخائر والمعدات العسكرية التي يقوم الجسر الجوي الأمريكي حالياً بتزويد الدولة العبرية بها .
لقد تجلت ازدواجية المعايير في المقارنة بين موقف الولايات المتحدة من الحرب الروسية على أوكرانيا وموقفها من حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة ، فبينما نشطت واشنطن واستصدرت قراراً من الجمعية العامة للأمم المتحدة بأغلبية مريحة تدين روسيا وتطلب منها الانسحاب الفوري من الأراضي الأوكرانية
نجدها تتغاضى عن جرائم إسرائيل في قطاع غزة وتمنحها الوقت الكافي لحرب الإبادة كي تسهل عليها دخول الحرب البرية بعد أن تقتل نصف سكان غزة وتسوي بناياتها بالأرض وتهدم منازلها على رؤوس ساكنيها ، كما نجدها تتلكأ في العمل على فتح ممرات آمنه لإيصال المساعدات الإنسانية إلى السكان المدنيين في القطاع.
كذلك تتجلى ازدواجية المعايير والكيل بمكيالين بقيام واشنطن بشيطنة روسيا ورئيسها بوتن في الوقت الذي تحتضن رئيس وزراء إسرائيل نتنياهو وتظهره على أنه الطرف الأضعف المهضومة حقوقه ، وتستمر بالتغاضي عن جرائم الجيش الإسرائيلي وتشجيعه على الاستمرار في سفك دماء السكان الفلسطينيين الأبرياء
فأي ازدواجية معايير هذه وأي كيلٍ بمكيالين هذا الذي نراه ويشهده العالم ؟ .
كل هذا التواطؤ يجري دون كلمةٍ واحدة عن الاحتلال الإسرائيلي ودون أي إشارةٍ إلى المظالم الواقعة على الشعب الفلسطيني طوال السنوات الخمس والسبعين منذ احتلال فلسطين وإقامة الدولة العبرية بعد طرد سكانها الفلسطينيين وإنكار حقوقهم ثم إنكار وجودهم بل دون كلمةٍ واحدة عن اقتحامات المستوطنين والمتطرفين الإسرائيليين للمسجد الأقصى وتخطيطهم لهدمه وبناء الهيكل المزعوم مكانه وتجاهل الرعاية الهاشمية للمقدسات الإسلامية والمسيحية التي تنص عليها معاهدة السلام الأردنية الإسرائيلية .
لقد بلغ الأمر بوزير خارجية دولة الاحتلال أن قام بانتقاد الأمين العام للأمم المتحدة انطونيو غوتيريس بحدة في مجلس الأمن زاعماً أنه ، أي غوتيريس ، يعيش خارج هذا العالم عقاباً لهذا الأخير على جرأته بذكر معاناة الفلسطينيين جراء الاحتلال الإسرائيلي وتطاول المستوطنين عليهم واستمرار التوسع الاستيطاني الإسرائيلي وما يتعرض له الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية من قمعٍ ومضايقات ، بل إن أحد المسؤولين الإسرائيليين قد طالب الأمين العام غوتيريس بالاستقالة عقاباً له على “فعلته النكراء” بذكر بعض المظالم التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني . كل هذه العنجهية الإسرائيلية وهذه الوقاحة لم يكن ليبتلعها المجتمع الدولي ويتغاضى عنها لولا الحماية والرعاية الأمريكية وازدواجية المعايير لصالح الإبنة المدللة إسرائيل التي يحق لها إبادة شعبٍ كامل بذريعة “الدفاع عن النفس” .
الدكتور رجب السقيري سفير سابق لدى الأمم المتحدة / جنيف
وباحث في العلاقات الدولية والدراسات الدبلوماسية