كان في نيتي استكمال النقاش الذي فتحته في مقال “تناسل الضرائب وارتفاع معدلاتها وزيادة ضغطها من أهم أدوات الإغتيال الاقتصادي وتهديد الأمن والاستقرار الاجتماعي” والتفاعل مع الافكار والنقاش الهادف الدائر بين القراء الأفاضل، وأعيد التأكيد على أنى في غاية السرور لمثل هذه النقاشات المثمرة والبناءة، وتعليقات الاستاذ “باحث غير متخصص” خارطة طريق لفهم نقاط وجوانب مهمة في ما يتم تناوله من مواضيع..
لكن ليسمح لي القراء والزملاء الأفاضل بتأجيل هذه الرحلة بعد حين ، و الوقوف عند الجريدة التي كان لها الفضل و السبق في جمع هذه الكوكبة من القراء و الكتاب باختلاف مشاربهم الفكرية و جنسياتهم ، والاحتفال بمرور عقد من الزمان على انطلاق “رأي اليوم” هذه الجريدة التي تربطني بها علاقة حب وعشق، وذكريات ومشاعر مختلطة، وهي تأريخ ليس لأحداث ووقائع، وإنما تأريخ أيضا لمسار و لمواقف …
بدايتي مع رأي اليوم كانت منذ لحظة ما قبل الميلاد، و بالتحديد عندما أعلن الاستاذ الكبير و العزيز على قلبي “عبد الباري عطوان”، عن تركه لجريدة القدس العربي، في مقال تاريخي بعنوان ” الى القراء الاعزاء… وداعا! والى لقاء قريب باذن الله” بتاريخ 9 يوليو 2013 ، وأقتبس من مقاله هذه العبارات : “لم أكن أتمنى مطلقاً أن تأتي لحظة الوداع الأخيرة في اليوم الأول من شهر رمضان المبارك، الذي انتهز فرصة قدومه لأهنئ جميع أبناء الأمتين العربية والإسلامية، ولكنها الظروف ومتطلباتها، خاصة عندما تكون هناك أطراف أخرى لعبت دوراً بالدفع باتجاه هذا القرار”.
مقال عبد الباري عطوان حفظه الله من كل سوء ، عبر عن مشاعر و ضغوطات كنت أعانيها شخصيا ، و قد تابعت تعليقات القراء ووسائل الإعلام في حينه على قرار الإستقالة و عن دوافعها الخفية و المعلنة ، وعن الأطراف أو الجهات الخفية التي دفعت عطوان لتقديم استقالته ومغادرة بيته؟
و قد كتبت في حينه مقال عبرت فيه عن تضامني مع الأستاذ و دعوته كما دعاه غيري للإستمرار ، و حمدا لله لم يخيب أمالنا، و كانت رأي اليوم الإلكترونية، و قد كنت من الكتاب الاوائل الذين كان لهم شرف الكتابة بهذا المنبر العابر للحدود ..
في لحظة إعلان عبد الباري عن انسحابه من القدس العربي، كنت شخصيا أمر من نفس المحنة، و أعانى ثقل تكاليف الجرائد الورقية، فقد كانت الشركة الإعلامية التي أملك أغلبية أسهمها و أشرف على إدارة مجلس إدارتها تصدر مجموعة من الجرائد الورقية و المجلات، كما أطلقت قناة فضائية من لندن، و كنت أتحمل تكاليف باهظة لتغطية تكاليف الطبع و دفع رواتب الصحفيين و العاملين ، هذا في وقت شهدت فيه المقروئية إنخفاض حاد و ضعف واضح في الإشهارات خاصة و أن خط التحرير كان يزعج الجهات المانحة للإشهارات ، و انتقال السياسات العمومية من تقييد الحريات إلى أسلوب الخنق الإقتصادي الذي يمارس على المنابر الإعلامية لتغيير مواقفها و الانحياز باتجاه السلطة و أصحابها…
في بداية مساري المهني كنت إقتصادي و تاجر بدرجة أولى، لكن شاءت الأقدار أن يكون بداخلي حلم المساهمة في تغيير وطني بعيدا عن المنصب العمومي، لأني منذ سن مبكرة أدركت قيمة الحرية ، و أني لست مؤهلا للوظيفة العمومية و أدرك جيدا أنها الطريق الأقرب للعبودية الطوعية و فقد الحرية و الخضوع للتراتبية الوظيفية ، بل أومن بأن التجارة خير من الإجارة ، و أعتبر أن التدريس بالجامعة المغربية رسالة و ليس وظيفة و مغرم أكثر من مغنم ..
و صلتي بالكتابة بدأت من أعلى السلم و ليس أذناه، بمعنى الإستثمار في الإعلام عبر شراء مؤسسة إعلامية تمر من صعوبات مالية ، بدأت كمضارب و مستثمر يرغب في تأسيس مشروع إعلامي مربح و منتج للثروة، لكن أيضا منتج للأفكار و مشجع للرؤى البناءة و الهادفة ..أمنت بأن الصحافة و الاعلام واحدة من أهم أدوات التغيير ، هكذا تعلمت على يد استاذي في معهد الصحافة و الإعلام. لكن عندما ولجت للميدان و جدت ان الواقع مغاير تماما ..
خلال هذه الفترة أذكر أني نجحت في إعادة هيكلة الشركة و غيرت وضعها المالي و المؤسسي، و إستطعت أن أدخل في شراكة دولية مع مؤسسات إعلامية في لندن و مع إدارة القمر الصناعي “الياه لايف” بأبوظبي، بهدف الحصول على سبع ترددات على هذا القمر لإطلاق باقة قنوات تلفزية، بعد أن أطلقت و شركائي قناة فضائية منذ 2011 إلى 2015 على القمر الصناعي “نايل سات”، غير أن الكلفة المرتفعة لإيجار التردد ، دفعتني إلى تغيير القمر باتجاه “ياه سات” الذي منحنا امتيازات معتبرة على إعتبار أن المؤسسة التي أتولى إدارتها كانت سباقة للتعاقد مع إدارة القمر ..
غير أن الميول السياسية التي عبرت عنها الإمارات العربية بعد دعمها للانقلاب على الرئيس مرسي و دعمها للثورات المضادة ، دفعني شخصيا إلى إعادة النظر في هذه الشراكة، لأني لا أريد أن أكون يدا لخدمة أجندات مشبوهة ..
و الواقع أني لا أرغب في الحديث عن شخصي و لكن أردت الإجابة عن تساؤلات البعض، الذين يعتقدون أني كاتب رأي أو متطفل على السلطة الرابعة ، و الواقع أني منتمي لهذه السلطة قلبا و قالبا و دفعت ثمن هذا الانتماء غاليا ، فالصحافة تمثل إلى جانب التدريس بالجامعة الهواء الذي أتنفسه ، لأني على قناعة أن كلا المهنتين هي منبع للنضال من أجل الحق و التنوير، و ليست منبرا للتطبيل للظالم و الفاسد و المستبد بغرض تحقيق مكاسب مادية أو معنوية..
و رأي اليوم لها مكانة خاصة في مساري المهني و تحتفظ بجزء أصيل من ذكرياتي و مواقفي السياسية و المبدئية.. فمنذ لحظة إنطلاق رأي اليوم بدأت الكتابة بها بشكل دوري، و قد أخترت الكتابة بها على أن أكتب في منابر في ملكية شركتي، لأني غالبا ما كنت أتعرض لضغوط من قبل مدير النشر و سكرتير التحرير ، و كانت بعض مقالاتي منبع و مصدر للمشاكل و من ذلك المقالات التي تناولت فيها ” المخزن الاقتصادي” ..
لكن اللحظة الفارقة كانت الانقلاب على الشرعية في مصر ، و التي دفعتني باتجاه تبني موقف معارض لوأد الديموقراطية و الانتقال السلمي للسلطة في بلدان الربيع العربي ، بما في ذلك بلدي المغرب ، فالكاتب إنخرط بفعالية في حراك 20 فبراير 2011 و أمن بإمكانية التغيير و التحول الديموقراطي..لكن تكسرت الأمال على صخرة الإستبداد و الثورة المضادة…
علاقتي برأي اليوم و ثيقة جدا و فارقة، فقرار الأستاذ عبد الباري عطوان بالاستقالة من القدس العربي ، دفعني إلى تأجيل إطلاق جريدة يومية أشرف على قيادة خط تحريرها و قد تقدمت للسطات بطلب ترخيص بفتح يومية ، لكن السلطة لم تمنحي الترخيص إلى اليوم و بدوري تراجعت عن الفكرة ، و بدأت أتجه أكثر نحو الخروج التدريجي من هذا الفضاء الملغوم ، و ركزت أكثر على الجانب الأكاديمي، و كما كان للأستاذ عبد الباري فضل و دور في هذا الخروج التدريجي ، كذلك أذكر الدور الإيجابي الذي لعبه الراحل خالد الجامعي رحمه الله و الذي نبهني بنصائحه إلى ضرورة الإبتعاد عن الكتابة بالصحف المحلية ، بما في ذلك التي تملكها شركتي و أن يتوجه إهتمامي للتركيز على التجربة التنموية الصينية و الأسيوية..
لكن مع توالي الأيام و الأسابيع و الشهور و السنوات و جدت نفسي أصبحت مدمنا على الكتابة ، و أصبحت الكتابة جزء أصيل من نشاطي اليومي..بل أصبحت الكتابة جهاد بالكلمة و تقرب من المولى عز و جل..
لكن يخفى على الكثير من القراء أن قول كلمة الحق و الوقوف بجانب المستضعفين و المقهورين مكلف جدا، في حين أن الإدلاء بشهادة الزور و تزييف الحقائق و الوقائع و التطبيل للماسكين بالسلطة و الموارد ، يفتح الخزائن لأصحاب الأقلام و المنابر الإعلامية وخاصة عندما يكون أصحابها من أصحاب المواهب الحقة و ذوي الكفاءات العالية …
لكن حمدا لله جريدة رأي اليوم شاهد على مواقفنا ، فلسنا ممن يقبلون الميل حيث مالت المصالح، ما يحركنا هو إيماننا بعدالة القضايا التي ندافع عنها ، و إيماننا بأن يوما ما سنرحل من هذه الدنيا و لن يبقى إلا عملنا الصالح و الطالح ، و ما كتبته أناملنا مسجل على اللوح المحفوظ ، عندما أكتب أضع أمامي عيني و ناظري مشهد الوقوف بين يدي الرحمان ، و أمام محكمة العدل الإلهية التي لا تحتاج لشهود أو سجلات أو مستندات …
أكتب برأي اليوم مجانا و لن أقبل فلسا عن ما أكتب ، و قد تلقيت العديد من العروض بالكتابة الحصرية ببعض المنابر في مشارق الارض و مغاربها و بمقابل مجزي ، لكن لا أستطيع ترك رأي اليوم ، و لا أملك الكثير من الوقت لكتابة مقال هنا و هناك، و لا اقبل ان تمارس وصاية على ما اكتب و ما لا اكتب ..
مع توالي السنوات بدأت أشعر أن رأي اليوم بيتي و طاقمها و قرائها من أهلي ، و الواقع أن هذه الألفة نتاج للمهنية و الموضوعية ، و لا أخفيكم سرا لو فرضت علي رأي اليوم رسوم أو مساهمة في رأس مال الشركة المالكة لرأي اليوم لما ترددت منذ 2013 ، لأني إبن المهنة و خبرة دهاليزها و أصبحت أملك قدرة على التمييز بين الصادق و المزيف بين الطالح و الصالح ، تعلمت قراءة الخبر و أبعاده وقراءة ما بين السطور..و الواقع ان المال عصب الإعلام..
رأي اليوم منبر إعلامي عزيز على قلبي و كتابه و قرائه مصدر غنى و ثراء فكري، رأي اليوم منبر من لا منبر له ، و خير مثال على فرادة هذا المنبر نوعية كتابه، فرأي اليوم مدرسة إعلامية فريدة و جامعة متعددة الاختصاصات ، و نجاحها نابع من طاقمها و كتابها و نوعية قراءها ، و لكن الأهم من كل ذلك استقلالها عن سلطان المال و المصالح و السلطة التي أفسدت أنبل المهن و أشرف المؤسسات ” الصحافة و الإعلام ” .. رأي اليوم شعلة مضيئة في ظلمة محيط عربي دامس..
للأسف فالبلدان العربية لازالت تعاني من غياب إعلام حر موضوعي و نزيه ينحاز لإرادة الشعب، مع حرصه الشديد على ضمان قدر نسبي من التنوع و التعددية في طرح الرأي و الرأي الأخر، و الجهود التي يبذلها بعض الأفراد و المؤسسات غير قادرة على المنافسة و التوسع و خلق دورة حميدة، في بيئة فاسدة مدعومة من قبل الحكومات و من قبل جهات خفية نافدة…
للأسف ليس لدينا إعلام هادف يحمل رسالة توعوية ، و السبب يمكن إرجاعه إلى عدة عوامل، فمجتمعاتنا العربية لازالت تعاني من أمراض التخلف: كالفقر و الأمية و غياب مفهوم الرأي و الرأي الأخر، فقاعدة المقروئية و التأييد لازالت جد ضعيفة و بالتالي فالصحافة لازالت مرتبطة بأجندات خاصة و لم تنخرط بعد في أداء دورها الأساسي في توجيه وصناعة الرأي العام، فهي لازالت في الغالب مجرد أداة في يد الأنظمة الحاكمة ومن يدور في فلكها..
كما أن حرية الإعلام وحرية الصحافة لازالت شبه غائبة، فحرية الإعلام لا يمكن فصلها عن الحريات العامة للشعوب، و الشعوب لازالت مكبلة بقيود الاستبداد و الطغيان المحلي و الأجنبي ، فالسلطة مازالت تتعامل مع مجال الصحافة والإعلام، كأداة أساسية في تمرير مخططاتها السياسية، وإستراتجيتها في المجتمع، تارة عن طريق التحكم في عدد من الصحف وفي وسائل الإعلام المرئية والمسموعة، وتارة أخرى في التضييق على حرية التعبير وفي العديد من الأحيان، تلجأ إلى افتعال مشاكل ونزاعات، بل وتخلق توترات في المجال السياسي، عبر قمعها لحرية الصحافة وتعريض بعض المؤسسات الصحفية إلى المحاكمة أو الرقابة أو الحجز والمنع…وتحاول السلطة أن تستعمل عدة مبررات سياسية ودينية وأخلاقية و اقتصادية لتمرير هذه الإجراءات.
اعتقد أنه لا مجال للحديث عن الديمقراطية و باقي مرادفاتها طالما أن سلطة الإعلام لازالت مغتصبة من قبل حكام مستبدين من جهة و أباطرة الفساد من جهة أخرى..و هؤلاء جميعا انتماءهم و أجنداتهم الخاصة في الغالب تكون ضد مصالح شعوبهم و هذا ما إتضحت معالمه بشكل بين بعد ثورات الربيع العربي و بعد اتفاقيات التطبيع مع الكيان الصهيوني … و في الختام أتمنى لرأي اليوم العمر المديد و التـألق المستمر و رئيس تحريرها عبد الباري و الفاضلة مها الصحة و العافية و جميع طاقمها التوفيق و السداد ، و بالمثل تحية لكتاب رأي اليوم و لقرائها الأشاوس .. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون…
الدكتور طارق ليساوي كاتب و أكاديمي مغربي