عقد قادة دول مجموعة السبع الصناعية الكبرى المحسوبة على ما يسمى بتكتل المعسكر الغربي اجتماعهم السنوي في مدينة هيروشيما باليابان يوم الجمعة 19 مايو 2023، وقد تصدرت الحرب في أوكرانيا ومرفقاتها جدول الأعمال. وقد وصل معظم قادة الدول إلى هيروشيما يوم الخميس، وعقد بعضهم بالفعل اجتماعات فردية للتباحث حول المشاكل التي تواجه طرفين أو أكثر منهم في منطقة معينة من العالم ولكنها لا تشكل شاغلا أساسيا لمجموعة السبع وقائدهم في البيت الأبيض. فرنسا مثلا قلقة من استمرار تقلص نفوذها في القارة الأفريقية وتبحث عن دعم أكبر من ألمانيا وبريطانيا في مواجهة روسيا والصين والأطراف الأفريقية المتمردة على نفوذها. بريطانيا ترغب في تفهم أكبر من ألمانيا وفرنسا لمشاكلها الاقتصادية بعد الانسحاب من الاتحاد الأوروبي وتطمع في الحد من المواجهة مع باريس بشأن عدة ملفات ومنها حقوق الصيد، وتتوجس من التوتر المتجدد مع الأرجنتين حول جزر الفوكلاند.
برلين تخشى من توسع الخلافات بين دول الاتحاد الأوروبي بشأن التعامل مع روسيا ومطالب أوكرانيا التي لا تنتهي، وتسعى حكومة ألمانيا كذلك لتبديد اتهامات بعض الأطراف الأوروبية لها بأن موقفها المتشدد ومن وراء الستار أحيانا من الحرب الروسية الأوكرانية له جذور تاريخية ومطامع إقليمية وترابية موروثة عن السياسات التي قادت للعديد من الحروب الأوروبية والحربين العالميتين الأولى والثانية.
وخلال القمة سعى قادة الدول السبع إلى تخطي الخلافات بشأن الموقف الواجب اتخاذه حيال بكين، حسب جيك سوليفان مستشار البيت الأبيض ولكن ليست هناك مؤشرات نجاح كبيرة.
المحادثات تركزت في الاجتماعات الموسعة والتي استمرت حتى يوم الأحد 21 مايو على أزمة الاقتصاد العالمي وفرضية وصول واشنطن إلى مرحلة ولو قصيرة في التخلف عن سداد الدين والشؤون الإقليمية، مثل الحرب في أوكرانيا والأمن في منطقة المحيطين الهندي والهادئ والخليج العربي، والتحديات التي تواجهها الدول الغربية خاصة على ضوء التجاهل المتزايد من جزء كبير من دول العالم للحرب الاقتصادية التي تشنها الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة على روسيا والصين وكوريا الشمالية وسوريا وإيران وغيرها.
مصادر رصد ألمانية أشارت إلى أن تحدي الغالبية العظمي من دول جامعة الدول العربية للتهديدات الأمريكية وتطبيعها العلاقات مع الجمهورية السورية، وإعادة السعودية العلاقات الدبلوماسية مع إيران، ومواصلة دول الأوبك بقيادة السعودية سياسة خفض إنتاج النفط لمنع تدني أسعاره في السوق الدولية، وتحول الهند وبعض دول جنوب آسيا ومنطقة الخليج العربي وبعض بلدان شمال وغرب أفريقيا إلى معبر وسوق لتمكين روسيا وأطراف أخرى من تخطي الحصار الاقتصادي والمالي الغربي، وتعثر عقد اتفاق جديد مع إيران كانت من بين الكثير من القضايا التي تم طرحها في اللجان المتفرعة عن الاجتماع خاصة على ضوء الفشل الغربي في مواجهتها.
واشنطن واصلت ضغوطها لتوسيع العقوبات لتستهدف أفرادا وكيانات في أنحاء أوروبا والشرق الأوسط وآسيا وذلك أما بشكل تدريجي أو بعد فترة إنذار محددة.
جزء كبير من ردود فعل الإعلام وخاصة الغربي على اجتماع مجموعة السبع في اليابان كان سلبيا وعاكسا لحالة إحباط داخل هذه المجموعة التي تشهد عاجزة تواصل انحسار نفوذها العالمي على كل الأصعدة، وهو مؤشر على انهيار ما يسمى بالنظام العالمي القائم على القواعد الذي تكرس منذ بداية العقد الأخير من القرن العشرين مع انهيار الاتحاد السوفيتي وتمكن الولايات المتحدة الأمريكية من فرض نظام القطب الواحد.
يذكر أن الاتحاد الأوروبي ليس عضوا في المجموعة لكنه يحضر القمة السنوية، كما تمت دعوة ثماني دول أخرى عام 2023لحضور القمة بما في ذلك الهند، والبرازيل، وأستراليا، وإندونيسيا، وكوريا الجنوبية، وفيتنام.
نادي القلوب المنكسرة
وصفت صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية قمة مجموعة الدول السبع في هيروشيما بأنها تحولت إلى "ناد للقلوب المنكسرة" حيث يمكن لكل زعيم أن يشتكي لزملائه من وضعه الصعب المرتبط بانخفاض مستوى شعبيته.
وأشار بيتر بيكر كاتب العمود في الصحيفة يوم السبت 20 مايو إلى أنه "بالنسبة لـلرئيس الأمريكي جو بايدن وزملائه من القوى الكبرى في العالم، هذا هو عصر خيبة الأمل للديمقراطية، حيث يبدو أن الناخبين غير راضين باستمرار عن رؤسائهم ورؤساء وزرائهم. لسبب أو لآخر، كل زعيم في وضع صعب".
وأستشهد الصحفي ببيانات استطلاع رأي أجرته مؤسسة Morning Consult، وأظهر عجز أي من قادة مجموعة السبع عن حشد دعم غالبية السكان في بلده.
وتتصدر رئيسة الوزراء الإيطالية جورجا ميلوني تصنيف الاستطلاع مع نسبة تأييد تبلغ 49 في المئة فقط.
وأشار صاحب المقال إلى أن من أسباب انخفاض شعبية بايدن مشاكل الدين العام والتضخم والجريمة والمخاوف المتعلقة بعمره، بينما هبط مستوى الدعم للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بسبب إصلاح نظام التقاعد.
وأضاف الكاتب أن استطلاعات الرأي في البلدان الأخرى لا تزيد قادتها تفاؤلا، وتابع: "لو عقدت الانتخابات الآن، حسبما تظهر استطلاعات الرأي الأخيرة، لخسر حزب المحافظين الذي ينتمي إليه ريشي سوناك، أمام حزب العمال في المملكة المتحدة، ولخسر الحزب الليبرالي بزعامة ترودو أمام حزب المحافظين في كندا، وحزب أولاف شولتس الاشتراكي الديمقراطي أمام الاتحاد الديمقراطي المسيحي في ألمانيا".
ونقل بيكر في مقاله عن أحد المحللين السياسيين قوله إنه "في ظل مثل هذه النتائج الضعيفة في استطلاعات الرأي، تصبح قمة G7نادي القلوب المنكسرة في نهاية المطاف، عندما يتشارك القادة آلامهم السياسية.. ويناقشون السبل الكفيلة بإعادة كل بلد وربما جميعهم إلى المسار الصحيح".
هل هي عقوبات فعلا ؟
ذكر المحلل فهيم الصوراني يوم 21 مايو بعد صدور بيان اجتماع هيروشيما:
جاء إعلان دول مجموعة السبع الكبرى في بيانها المشترك مع ختام أعمالها عن "ضرورة تسريع التخلص التدريجي من الاعتماد على الطاقة الروسية"، متوافقا مع قراءات أغلب المراقبين الروس التي استبقت القمة وقالت إن ملف الطاقة هو "بيضة القبان" في أية خطوة يمكن أن تتخذها المنظومة الغربية في مسلسل العقوبات المتواصل ضد موسكو.
فقبل إطلاق أعمال القمة بأيام قليلة، تم الكشف أن الاتحاد الأوروبي ومجموعة السبع يخططان لحظر استيراد الغاز عبر خطوط الأنابيب من روسيا عبر تلك الممرات التي خفضت موسكو نفسها الإمدادات من خلالها.
وبالإضافة إلى الإجراءات السابقة، أعلنت دول مجموعة السبع أنها ستفرض عقوبات على جميع الصادرات "التي تستخدمها روسيا لبناء قدراتها العسكرية".
وركزت القيود الجديدة بشكل أساسي على إزالة جميع الثغرات التي سمحت لموسكو بتجاوز العقوبات المفروضة، وهو ما برز بوضوح خلال إعداد الحزمة الحادية عشرة من العقوبات، وترجمه بيان القمة في الانتقال لتطبيق التدابير "خارج الحدود الإقليمية"، أي ضد بلدان ثالثة تساعد موسكو في عملية "الإفلات" هذه على نطاق واسع.
وكتدبير يهدف إلى التقليل أكثر من الاعتماد على مصادر الطاقة الروسية، شدد بيان القمة على ضرورة تعزيز الاستثمارات المالية في مجال الغاز الطبيعي المسال، وزيادة استخدام الطاقة النووية، والتي اعتبرها إجراءات يمكن أن تكون مفيدة في هذا الاتجاه.
ويرى مراقبون روس أن ما بعد القرارات الجديدة في قمة هيروشيما لن يكون لها تأثير كبير كما قبلها، وأكدوا أن القرارات الجديدة جاءت بمثابة "نصف ضربة" لقطاع الطاقة الروسي، إلا أن ارتدادات القرار ستكون ملموسة ومؤثرة كذلك على اقتصاد البلدان الأوروبية، ولو بأشكال متفاوتة.
ويذهب بعض هؤلاء إلى التهكم على "الحزمة 11" من العقوبات التي أدرجت في بيان هيروشيما فيما يخص وقف الاعتماد على مصادر الطاقة الروسية، ويعيدون إلى الأذهان أن هذه الوعود انطلقت في مايو من عام 2022، سواء بالتخلي عن الفحم الروسي في الصيف، أو عن النفط الروسي في الخريف، أو عن الغاز الروسي بحلول نهاية عام 2022.
ويوضح الخبير الاقتصادي فيكتور لاشون، أن "قرارات هيروشيما" جاءت -رغم لكنتها العدائية- محسوبة ومدروسة بعناية، فقد أبقت على خط رجعة دقيق مع روسيا، كما يظهر من نص القرار الذي ربط -وإن بشكل غير مباشر- بين مواصلة "خنق" أنابيب الغاز والنفط الروسية وانتهاء الحرب في أوكرانيا.
وبحسب قوله، فإن قرارات القمة هي إجراء سياسي بحت، لا يمكن أن يتسبب للاقتصاد الروسي بالأضرار التي يسعى إليها الغرب من جهة، وفي الوقت نفسه يراعي مصالح العملاء الأوروبيين الذين ما زالوا يستوردون كلا من الغاز والغاز الطبيعي المسال من روسيا.
وعليه، إذا توقفت هذه الكمية من الغاز عن التدفق إلى أوروبا، فهناك احتمال كبير بأن ترتفع أسعار الغاز الطبيعي في السوق الأوروبية، بحسب قول لاشون.
بموازاة ذلك، يشير المتحدث نفسه إلى أن مجموعة السبع تريد وضع حد لموضوع "التهرب" من القيود على قطاعي الغاز والنفط في روسيا، بحيث يقيد من وصول الأخيرة إلى النظام المالي الدولي، ويمنع استخدام فروع البنوك الروسية في دول ثالثة للالتفاف على العقوبات، وهو ما يمكن أن تكون له تأثيرات ولو جانبية على مداخيل مبيعات النفط والغاز.
من جهته، يشير الكاتب في شؤون الطاقة ألكسندر سافاروف، إلى أن اتفاق الدول "السبع الكبرى" في قمة هيروشيما على فرض عقوبات جديدة على روسيا، لا يعني وجود وحدة كاملة بين هؤلاء الحلفاء، ويرى أن ذلك واضح في رفض اقتراح واشنطن فرض حظر شامل على الصادرات الروسية، مفسرا ذلك بأن عددا من الدول الأوروبية تفضل "العمل عن كثب" مع موسكو.
وإلى جانب تقليله من شأن القرارات الأخيرة لمجموعة السبع، يعتبر سافاروف أن "الغرب يفتقر إلى الشجاعة للاعتراف بفشل العقوبات على روسيا، رغما عن اعتراف عدد من المراقبين الأوروبيين وغيرهم حتى في الدوائر الأمريكية الرسمية بعدم فعاليتها".
عبودية الطاقة
وبرأي سافاروف فإن الغرب -ولاعتبارات سياسية- ارتكب خطأ كبيرا بالتوقف عن شراء مواد الطاقة من روسيا، مما سيدخل دوله مع مرور الوقت في "عبودية" أقوى من خلال شرائها بأسعار مرتفعة.
ويضيف أن الذين توقفوا عن شراء الغاز الروسي مباشرة سيضطرون لشرائه من خلال الوسطاء، لكن بسعر أعلى. وتابع أن الغرب من خلال العقوبات الجديدة وسابقتها، "اقترب أكثر من حلم التخلي عن التبعية لمصادر الطاقة الروسية، لكنه في واقع الأمر اقترب من القضاء تماما على ضمانة رفاهية الأوروبيين وأضرّ بمستواهم المعيشي".
ويشير سافاروف إلى أن تعليق إمدادات الغاز الروسي شكل -على عكس تصريحات مسؤولي الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة- كارثة اقتصادية حقيقية للدول الأوروبية، مذكرا في هذا السياق بتصريحات عضو البرلمان الفرنسي تييري مارياني، الذي قال إن الاتحاد الأوروبي أصبح أكثر اعتمادا على "شركاء غير مناسبين"، مثل الولايات المتحدة التي تبيع غازها الطبيعي المسال بثمن باهظ.
ويختم أنه لن يكون للقيود الجديدة تأثير خطير على قطاع الطاقة في روسيا، لأن الحجب "التدريجي" لخطوط الأنابيب الروسية في مناطق معينة سيكون رمزيا، بينما كان أعلى مستوى للضرر يمكن الوصول إليه، هو الإجراءات العقابية التي تم تبنيها خلال عام 2022 ولم تصل مع ذلك إلى مآلها.
عقوبات يسهل تجنبها
جاء في تحليل لمجلة التمويل والتنمية التابعة لصندوق النقد الدولي تحت عنوان: العقوبات الاقتصادية تنشأ عنها صدمات عالمية أكبر من أي وقت مضى ويسهل تجنبها:
لم يخضع اقتصاد في حجم روسيا منذ الثلاثينات لطائفة واسعة من القيود التجارية كتلك التي تم فرضها بسبب العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا. ولكن على عكس إيطاليا واليابان في الثلاثينات، تعد روسيا في الوقت الحالي من كبار مصدري النفط والحبوب وغيرهما من السلع الأولية الأساسية الأخرى، كما أصبح الاقتصاد العالمي أكثر تكاملا إلى حد كبير. ونتيجة لذلك، أصبح للعقوبات حاليا تداعيات اقتصادية عالمية أكبر كثيرا مما عهدناه من قبل. وينبغي أن يكون حجم هذه العقوبات دافعا لإعادة النظر في مفهوم العقوبات كأداة قوية من أدوات السياسات لما ينشأ عنها من تداعيات اقتصادية عالمية ملموسة.
غير أن العقوبات ليست هي المصدر الوحيد للاضطرابات التي يشهدها الاقتصاد العالمي. فقد سجلت أسعار الطاقة ارتفاعا مستمرا منذ عام 2022 بسبب فرط الأعباء المفروضة على سلاسل الإمداد الذي أدى بدوره إلى إعاقة مسار التعافي من الجائحة. كذلك ارتفعت الأسعار العالمية للغذاء بنسبة 28 في المئة عام 2020 و23 في المئة عام 2021، كما سجلت زيادة حادة قدرها 17 في المئة هذا عام 2023 خلال الفترة ما بين فبراير ومارس فقط.
قبل نهاية سنة 2022 وخلال الربع الأخير من تلك السنة توقعت عدة مصادر أمريكية فشل الحصار الاقتصادي على موسكو.
ففي 20 أغسطس 2022 تحدثت مجلة "ناشيونال انترست" الأمريكية في مقال للكاتب، مارك إيبيسكوبوس عن توقعاتها بفشل العقوبات الغربية على روسيا، وذلك بفضل ركائز اعتمدت عليها موسكو وساهمت في استقرار اقتصاد البلاد.
وذكر الكاتب إن "نجاح الاقتصاد الروسي يقوم على أربعة عوامل مهمة أولها إجراءات المصرف المركزي الروسي بشأن حماية عملة الروبل من موجة من القيود المالية للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، حيث لم ينهار الروبل كما وعد الرئيس جو بايدن في مارس، بل أصبح عام 2022 أحد أقوى العملات في العالم".
وأضاف إيبيسكوبوس قائلا: "كما كان لنظام "الاستيراد غير المباشر الموازي" دور مهم بإضعاف تأثير العقوبات، حيث لا تزال مجموعة من المنتجات الغربية متاحة للشراء في مراكز التسوق بالرغم من أن هذه الشركات المصنعة لم تعد ترسل منتجاتها مباشرة إلى السوق الروسية".
وتابع قائلا: "من أخطر التحديات للعقوبات الغربية رفض العديد من الدول مقترحات وشروط الدول العظمى بشأن عزل روسيا سياسيا وفرض العقوبات عليها، بل وتعزيزها لعلاقاتها التجارية والاقتصادية مع موسكو".
أما السبب الرابع لفشل نظام العقوبات بحسب إيبيسكوبوس فيعود إلى ضعف تفكير الغرب الذي عاقب نفسه بالإجراءات العقابية أكثر من موسكو ما ولد انقساما أوروبيا وجعل المستهلكين الغربيين يشعرون بالهستيريا من الارتفاع الصاروخي لفواتير الطاقة وغيرها في بلدانهم.
البكاء
من يتتبع المصادر الغربية يسجل اعترافا واضحا بفشل سلاح سيف العقوبات بعد الضجة الكبيرة حول فعاليته.
يوم 15 مايو 2023 ومن موقع الحرة التابع للحكومة الأمريكية نشر ما يلي:
كشفت صحيفة وول ستريت جورنال في تقرير، يوم الأحد 14 مايو، استمرار تدفق البضائع الغربية إلى روسيا، رغم العقوبات. ووفقا لمسؤولين غربيين وبيانات جمعتها وول ستريت جورنل، فإن مجموعة من الجمهوريات السوفيتية السابقة برزت كمركز رئيسي لإعادة الشحن لرقائق الكمبيوتر الأمريكية والأوروبية والليزر وغيرها من المنتجات ذات الاستخدامات المدنية والعسكرية المتجهة إلى روسيا.
وارتفعت صادرات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي من السلع الحساسة ذات الاستخدام المزدوج إلى البلدان المجاورة لروسيا بشكل حاد في عام 2022. وكذلك ارتفعت شحنات هذه البلدان من هذه المنتجات إلى روسيا، غالبا بنسبة مماثلة، وذلك حسبما نقلت الصحيفة عن تحليل لبيانات التجارة للأمم المتحدة.
وتشير البيانات، وفقا للصحيفة، إلى أن موسكو تواصل الحصول على سلع غربية مهمة، يتم تقييد بيعها في الغالب بسبب العقوبات الأمريكية والأوروبية.
ووفقا للصحيفة، ارتفعت صادرات البضائع من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إلى أرمينيا وجورجيا وقيرغيزستان وأوزبكستان وكازاخستان إلى 24.3 مليار دولار عام 2022 من 14.6 مليار دولار في عام 2021. وزادت هذه الدول مجتمعة من صادراتها إلى روسيا بنحو 50 في المئة، عام 2022، إلى حوالي 15 مليار دولار.
ويقول مسؤولون أوروبيون لـ"وول ستريت جورنال" إن هذا الطريق التجاري المزدهر، الذي يسميه المحللون في البنك الأوروبي للإنشاء والتعمير بالدوار الأوراسي، هو علامة على نجاح روسيا في إيجاد طرق جديدة للحصول على السلع المطلوبة رغم العقوبات الغربية.
وتعلن الشركات الروسية عن قدرتها على الحصول على السلع الخاضعة للعقوبات بهذه الطريقة. وعلى سبيل المثال، تعمل شركة Imex-Expert في استيراد سلع خاضعة للعقوبات من أوروبا وأمريكا إلى روسيا عبر كازاخستان. ويتفاخر موقعها على الإنترنت بما يلي: "تجاوز العقوبات بنسبة 100 في المئة"، وفقا للصحيفة. وذكرت "وول ستريت جورنال" أن الشركة لم ترد على طلبات التعليق.
ولم يرد ممثلو حكومات كازاخستان وأوزبكستان وقيرغيزستان وجورجيا على طلبات التعليق، وفقا للصحيفة.
وذكرت الصحيفة أن الأمر نفسه يتكرر مع الشحنات الغربية من الليزر إلى قيرغيزستان، وأدوات القياس، بما في ذلك أدوات فحص الجهد والطاقة، إلى أوزبكستان. وشهد كلا البلدين زيادة في تلك الصادرات إلى روسيا.
وفي حين أن حجم التجارة بين الجمهوريات السوفيتية السابقة وروسيا ضئيل مقارنة بتجارة روسيا مع الصين، التي أصبحت المورد الرئيسي لروسيا وداعمها الاقتصادي، فإن الطريق التجاري الجديد يسمح لموسكو بوضع يدها على التكنولوجيا الغربية التي تواجه صعوبة في الوصول إليها في مكان آخر، وفقا للصحيفة.
حلفاء غير ملتزمين
حتى بعض حلفاء واشنطن يخرقون الحواجز التي اتفقوا على الالتزام بها.
في 22 أبريل 2023 وبشكل رسمي حذرت الولايات المتحدة أربع دول أوروبية من الأساليب التي تستخدمها روسيا للتهرب من العقوبات، وزودتها بقائمة مفصلة بالسلع ذات الاستخدام المزدوج عالية القيمة التي تحاول موسكو الحصول عليها.
ويأتي ذلك في الوقت الذي تكثف فيه واشنطن الجهود لوقف شراء موسكو تقنيات ذات استخدام مزودوج من جهات مختلفة، وفقا لما ذكرت صحيفة "فاينانشال تايمز" البريطانية.
وكان وكيل وزارة الخزانة الأمريكية لشؤون الإرهاب والاستخبارات المالية، بريان نيلسون، قد زار سويسرا والنمسا وإيطاليا وألمانيا في جولة تهدف إلى إظهار كيف تحاول روسيا إصلاح سلاسل التوريد الصناعية العسكرية من خلال الالتفاف على ضوابط التصدير الغربية.
وفي هذا الصدد، قال مسؤول أمريكي للصحيفة البريطانية أن: "روسيا تستخدم الكثير من الموارد للالتفاف على عقوباتنا"، لافتا إلى أنها تتعلم من دول أخرى تخضع لعقوبات شديدة مثل إيران بشأن كيفية الحصول على التقنيات الحساسة عبر الأبواب الخلفية.
وسعى المسؤولون الأمريكيون إلى تنبيه كبار مدراء وقادة الشركات والبنوك في الدول الأربع إلى وجود "إشارات إنذار حمراء محتملة" قد تشير إلى التهرب من العقوبات، مثل تزوير العقود وسندات الشحن لإخفاء العلاقات التجارية مع روسيا، ورفض تقديم تفاصيل عن الغاية المقصودة من تصدير تلك المواد، وإجراء تغييرات متكررة أو في اللحظة الأخيرة في هويات المستخدمين النهائيين أو المستفيدين.
ولفت مسؤول أمريكي إلى أن بعض الدول التي عارضت علنا حرب روسيا على أوكرانيا كانت "مقصرة في الإجراءات لضمان عدم تمكن موسكو من استغلال شركاتها ومصارفها لتجهيز قواتها".
وأضاف أنه كان هناك "عدد من الأنماط المقلقة في العديد من البلدان، بما في ذلك في الشرق الأوسط وبين العديد من جيران روسيا، حيث عمق الكرملين علاقاته المالية وتدفقاته التجارية مع إغلاق الأسواق الأخرى".
وقال إن روسيا استجابت للاضطرابات في سلاسل التوريد الخاصة بها منذ بدء الحرب من خلال جعل أجهزة استخباراتها تحدد الشركات الدولية للعمل معها.
وكان مبعوث عقوبات الاتحاد الأوروبي، ديفيد أوسوليفان، قد سافر مؤخرا إلى الإمارات العربية المتحدة وتركيا وقرغيزستان وكازاخستان، رفقة مساعدة وزير الخزانة الأمريكية، إليزابيث روزنبرغ، ثم توجه إلى أوزبكستان وصربيا وجورجيا وأرمينيا لإيصال رسالة قاسية من الغرب بشأن تلك القضية.
التخبط
جاء في تقرير نشرته وكالة أسوشيتد برس الغربية يوم 25 أبريل 2023: وثقت وسائل إعلام دولية عديدة مؤخرا الطرق الرئيسية التي يستخدمها المتعاملون في تجارة المواد الخام أو المحروقات، وموسكو أيضا، لاستغلال ثغرات موجودة في نظام العقوبات الغربية المفروضة على روسيا والالتفاف عليها. تمر هذه الطرق غالبا عبر دولتين هما سويسرا، وبشكل خاص الإمارات العربية المتحدة.
كشفت عدة وسائل إعلام ومنظمات غير حكومية أبرزها غلوبال ويتنس GlobalWitness في أواخر مارس 2023، أن شركة باراماونت دي أم سي سي ParamountDMCC ومقرها دبي والتي تأسست في 2020، قد باتت رابع أكبر تاجر للنفط الروسي بمنطقة آسيا منذ فرض العقوبات على صادرات الطاقة الروسية في ديسمبر 2022. هذه الشركة ليست روسية لكن اللافت هو أن اسمها قريب جدا من تسمية شركة تجارية أخرى تنشط كذلك في مجال النفط، وهي ParamountSA ومقرها سويسرا.
ويوجد أيضا بسويسرا مقر شركة OpenMineral AGالمتخصصة في شراء الذهب، والتي لا تشتريه مباشرة من روسيا، وهو ما كان ليتعارض مع العقوبات الأوروبية المفروضة على تجارة المعادن الثمينة المعتمدة في أغسطس 2022. لكن شركة Open Mineral Ltd ومقرها أبوظبي وهي تابعة ومملوكة بنسبة 100 بالمئة للشركة السويسرية الأم، هي من تشتري الذهب الروسي، حسبما كشفت صحيفة FinancialTimes في 17 أبريل.
"لكن سويسرا والإمارات ليستا الوحيدتين اللتين تسمحان، سواء عن علم أو دونه، بالالتفاف على نظام العقوبات الغربية" حسب ماريا شاجينا الخبيرة في نظام العقوبات الدولية بالمعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية، وهو مركز أبحاث مقره لندن. وتوضح أنه في هذا السياق غالبا ما "نتحدث بشكل أكبر عن الصين والهند. لكن سويسرا والإمارات العربية المتحدة تلعبان دورا متزايدا (...) وخصوصا الإمارات التي باتت عنصرا حاسما بالنسبة لموسكو في محاولة التهرب من العقوبات".
من جانبها، توضح إميلي روتليدج المتخصصة في اقتصاد دول الخليج العربي بالجامعة المفتوحة في بريطانيا، بأنه ومنذ بداية العملية العسكرية الروسية بأوكرانيا في 24 فبراير 2022، "تحولت دبي إلى لندن الجديدة للروس".
منطق التاريخ
منذ بداية التاريخ المعروف للجنس البشري كانت هناك قاعدة أساسية لا تتبدل وهي أن عمر القوى الكبرى لا يدوم وله حدوده والمدة الزمنية قد تكون متفاوتة.
كم تدوم الإمبراطوريات قبل أن تبدأ بالتراجع؟ روما وصلت ذروتها عام 117 فيما استمرت إمبراطورية روما الغربية ثلاثة قرون ونصفا بعد ذلك، غير أن الإمبراطورية الرومانية الشرقية استمرت حتى 1453. لكن العالم السياسي جورج مودلسكي يعتقد أن زعامة العالم تتغير كل مائة عام، تبدأ بانتصار في حرب، ثم في فرض معاهدات السلم على الآخرين.
انحسار الإمبراطوريات لا يأتي من تهالكها الداخلي فقط، بل أيضا من نمو القوى الأخرى.
بتاريخ 16 أبريل 2023 كشفت صحيفة American Thinker، أن العقوبات المفروضة على روسيا بسبب الأزمة في أوكرانيا كانت أكبر وأخطر سوء تقدير للغرب في التاريخ.
ووفقا للمقال: "لم تركع روسيا على ركبتيها بسبب العقوبات، كما توقع الكثيرون.. روسيا لا تتأقلم فحسب، بل تزدهر وتكتسب نفوذا وسلطة أكبر في آسيا وإفريقيا وأمريكا الجنوبية مما كانت عليه منذ انهيار الاتحاد السوفيتي".
ووفقا للإحصاءات، طالما أن الدول الغربية تواجه تضخما مرتفعا ونقصا في الطاقة، فإن الاقتصاد الروسي سينمو بشكل أسرع من الاقتصاد الألماني أو البريطاني، ويتجاوز لاحقا الاقتصاديات الغربية الأخرى، بما في ذلك الولايات المتحدة.
وفي الوقت نفسه، ذكر المقال أن روسيا تنجح في المجال العسكري، بعد أن أثبتت إنتاج المنتجات الدفاعية، خاصة المدفعية والذخيرة، بينما يعاني الغرب من نقص في الذخيرة بسبب الدعم غير المسبوق لأوكرانيا.
وأشار المقال، إلى أن السلطة الدبلوماسية لروسيا آخذة في النمو خاصة في إفريقيا وآسيا. الدول الغربية، التي فقدت مصداقيتها بسبب استعمار الماضي وسياسات الحاضر، تفقد نفوذها في الشرق الأوسط وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، وتسعى هذه المناطق إلى التعاون مع شريك أكثر موثوقية مثل روسيا.
ويبرز على وجه الخصوص أحد الأدوار القيادية لروسيا في المنظمات المؤثرة مثل منظمة شنغهاي للتعاون ومجموعة بريكس.
وبعد بدء العملية الخاصة في أوكرانيا، صعد الغرب من ضغط العقوبات على موسكو، مما أدى إلى زيادة أسعار الكهرباء والوقود والمواد الغذائية خاصة في أوروبا والولايات المتحدة.
وقال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إن سياسة احتواء وإضعاف روسيا هي إستراتيجية طويلة الأمد للغرب، والعقوبات وجهت ضربة خطيرة للاقتصاد العالمي برمته، ووفقا له، فإن الهدف الرئيسي للولايات المتحدة وحلفائها هو دهورة حياة الملايين من الناس.
تعويم الهيمنة الأحادية
جاء في تقرير كتبه المحلل حسن حردان يوم 17 مارس 2023: كشف تفجر أزمة بعض البنوك في الولايات المتحدة على خلفية قرارات البنك الاحتياطي الفدرالي رفع نسبة الفائدة لمواجهة التضخم المتزايد، وقبل ذلك اشتداد حدة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية في الدول الأوروبية، كشف ثلاثة مؤشرات غاية في أهميتها ودلالاتها :
اولا، فشل سياسة الحصار والعقوبات الاقتصادية التي اتبعتها واشنطن والعواصم الأوروبية، ضد روسيا، وارتداد هذه السياسة على هذه العواصم معبرا عنها بزيادة نسب التضخم وأسعار الطاقة والمواد الغذائية، مما تسبب في ارتفاع كلف المعيشة والإنتاج، واستطرادا تفجر الأزمات المالية والاجتماعية.. والتي تجسدت في الإضرابات والاحتجاجات والتظاهرات المطالبة بزيادة الأجور لتعويض الناس عن تراجع قدرتهم الشرائية.. وقد فاقم من هذه الأزمات الإنفاق الهائل على الحرب في أوكرانيا، فكانت النتيجة، أن دول الغرب استنزفت أكثر من روسيا التي نجحت في الحد من خسائرها وإيجاد بدائل لصادراتها من الطاقة والمواد الأولية الأخرى الغنية بها مما مكنها من الحفاظ على النسبة الأكبر من مداخيلها، في حين هي تصنع وتنتج كل ما تحتاجه من سلاح وذخيرة، على عكس أوكرانيا التي تبين انها لا تستطيع مواصلة الحرب وإبطاء تقدم الجيش الروسي في الميدان من دون دعم غربي وعبر جسر بري وجوي يؤمن تدفق السلاح والذخيرة إلى أوكرانيا، حتى أن مستودعات الدول الغربية نفذت من الذخيرة مما دفعها إلى طلب تقديم هذا الدعم العسكري من أطراف أخرى حليفة لها، مثل إسرائيل وكوريا الجنوبية إلخ… فيما عشرات المليارات جرى دفعها لأوكرانيا لتمكينها من تحمل حرب استنزاف من العيار الثقيل، مما دفع الكثير من الخبراء والمحللين إلى توصيف ما يجري في أوكرانيا بأنه عبارة عن حرب عالمية ثالثة مصغرة، تجري بين روسيا والدول الغربية مسرحها الأراضي الأوكرانية…
مكانة الدولار
أن حرب العقوبات الاقتصادية الأمريكية، أدت، إلى جانب فشلها في إخضاع الدول، إلى تقويض وإضعاف مكانة الدولار كعملة عالمية، وهو ما خلص إليه الكاتب الصحافي جان نومان في مقالته في صحيفة "واشنطن بوست"، اثر تفجر أزمة بنك سيليكون فالي، حيث قال "إن سياسة العقوبات الاقتصادية التي تنتهجها الولايات المتحدة وخاصة تجاه روسيا، قوضت الثقة بالدولار، وأضعفت مكانته كعملة رئيسية في العالم".
على ان نومان استنتج من ذلك قائلا "تبين أن الزعم بعدم وجود بديل للدولار الأمريكي، ليس إلا ضربا من الخيال".. مشيرا إلى "ظهور تحالفات اقتصادية تستخدم العملات الوطنية لبيع السلع والتجارة المتبادلة"، لافتا إلى "أن أمريكا لا تستطيع الاستمرار في طباعة النقود بكميات غير محدودة".. على ان الخلاصة التي توصل إليها نومان هي "أن على الولايات المتحدة أن تضبط وتنظم اقتصادها، وأن تدرك أخيرا كيف يجب العيش وفقا لحدود إمكانياتها"…
جاء في تقرير نشرته مجلة Foreign Affairs الامريكية:
منذ نهاية الحرب الباردة، تزايَد اعتماد الولايات المتحدة على الأدوات الاقتصادية لتمرير أهداف سياستها الخارجية. تنطوي بعض هذه الأدوات، مثل العقوبات، على تطبيق مباشر للضغوط الاقتصادية. تعمل الأدوات الأخرى، مثل الترويج للتجارة الحرة والأسواق المفتوحة، عبر تغيير دوافع الدول الأخرى. لكن جميع هذه الأدوات هي في كنهها اعتراف بأن هذه القوة الاقتصادية الفريدة تمنح الولايات المتحدة قدرة استثنائية على تحقيق مصالحها دون اللجوء إلى القوة.
لكن يمكن للقوة الاقتصادية، مثل أي أداة أخرى، أن تكون لها نتائج مؤسفة إذا مورست برعونة، مما ينتج عواقب غير مرغوبة على المدى القصير والتعجيل بانهيار الريادة الاقتصادية الأمريكية على المدى الطويل. واليوم تزيد واشنطن من استخدام قوتها الاقتصادية بطرق عدوانية وذات نتائج عكسية، بما يقوض مركزها العالمي ومِن ثم قدرتها على العمل بفعالية في المستقبل. كانت أعراض المشكلة واضحة منذ سنوات، لكنها ازدادت سوءا بصورة ملحوظة.
عمر نجيب