السياسة في الأصل رَئِيسَةُ و سيدة المهن النبيلة و الساسة هم رؤساءُ القوم و أسيادُهم وقادةُ الرأي العام و هم "المُوَقِعُونَ عَنْ العَالَمِينَ" تماما كما أن العلماء هم "المُوَقِعُونَ عَنْ رَبِ العَالَمِينَ" ومن المتواتر عليه عند كافة أهل الفكر و النظر أنه إذا صَلُحَتْ السياسة صَلُحَ المجتمع و إذا فسدت السياسية و تَرَدًتْ كان المجتمع أشد ارْتِكَاسًا و ابْتِئَاسًا و إِفْلَاسًا...
و قد نَزَلَتْ و استوطنت بلادَنا للأسف منذ السنوات الأولي التالية للاستقلال قَارِعَةٌ في شكل طَبْعَةٍ جديدة و مُشَوًهَةٍ من السياسة يمكن أن تسمي " السياسة الصفراء" قياسا علي الصحافة الصفراء و "الإدارة الصفراء" و "النُخَبِ الصفراء"، و هي نوع من السياسة أَخْرَسَ رَفِيعِي الكفاءات و الأمانات و المُرُوءَاتِ و أنطق خَفِيضِي الدًرَجَاتِ و "مُقَاوِلِي المؤامرات" ومُسْوَدِي الملفات.
و قد انتعشت تلك الطبعة من السياسة في ظل العهود الاستثنائية التي أَثْخَنَتْ في هذه الأرض و أَنَاخَتْ بكَلْكَلِهَا و "أَحْذِيًتِهَا" عقودا من الزمن و لا زالت رَوَاسِبُهَا المشينة أَعْتَي و أَرْسَي من رواسب العبودية البغيضة و قد تم "طَبْخُ" السياسة الصفراء أول مرة في "مطابخ الشرطة السياسية" التي كانت العقل الناظم والمدبر للأنظمة الاستثنائية و المسؤول عن تصور و اتخاذ حَرَامِ التدابير و الإجراءات وحَلَالِهَا من أجل استدامة و "تَأْبِيدِ" الأنظمة الأحادية.
ذلك أنه لما فطنت الأنظمة الاستثنائية وبطاناتها و "شَوَاِكُلَها" إلي خطر اليقظة السياسية النوعية و العريضة للشباب الموريتاني في العشريات الأولي التي تلت الاستقلال علي استقرار "عُرُوشِهَا" لجأت إلي اعتماد خطة لِشَيْطَنَةِ و تَمْيِيعِ السياسة فأشاعت في الناس عبر "الهَاتِفِ العَرَبِي" لشياطين الإنس أن النضال السياسي كُفْرٌ بكتب الله و إيمانٌ "بالكتب و المواثيق" الحمراء و الخضراء و موالاةٌ للمشركين و تحريضٌ للفتن العنصرية و عَمَالَةٌ لحلفاء الصهائنة الغاصبين...
كما عَمِدَتْ الأنظمة الاستثنائية التي تعاقبت علي البلد مع تفاوت في القسوة و التطرف و "بِدَائِيًةِ" و "وَقَاحَةِ" وسائل القمع المعنوي و المادي علي التجنيد و "التًفْويجِ" و "التًعْمِيدِ السِيًاسَوِي" للآلاف من العاطلين و الفاشلين و المنحرفين و "الإِخْبَارِيِينَ"و "مَقْطُوعِي القِبَالِ من النِعَالِ" و العاجزين عن أدني مخرجات التفكير و التًحْبِيرِ و التًعْبِيرِ ابتغاء إغراق المشهد السياسي الوطني و إحراج و إخراج أو إخراس المناضلين الشرفاء و الصادقين ذوي الكفاءة و الاستقامة و التضحية السياسية من "فَضَاءَاتِ" الفعل الإيجابي و المَتْنِ السياسي و الاجتماعي إلي "أقْفَاصِ" الهامش السوسيو اجتماعي و "المراقبة عن بعد".
و لقد نجحت " معامل السياسة الصفراء" في تحقيق مقاصدها تلك فلا يُخطئ المتأمل للمسار السياسي و الإعلامي و "المدني" الوطني ملاحظةَ عُدْوَانِيًةَ و تَغَوُلِ و اسْتِئْسَادَ نجوم السياسة الصفراء خلال العهود الاستثنائية و بقايا حضورهم أثناء الأحكام الديمقراطية و تصدرهم بعض المحافل و المشاغل و هبوطهم بالنقاش و الجدل السياسي و الاجتماعي و الإصلاحي إلي الدَرَكَاتِ السفلي من الإِسْفَافِ و الغِيبَةِ و النميمة و البهتان و التنابز بالشائعات عبر الإعلام الوطني و حتي الإقليمي و الدولي.
و يعتقد الكثير من المحللين الوطنيين أن رموز و "أبَاطِرَةِ" السياسة الصفراء المتواجدين في قطب الأغلبية و جناح المعارضة علي حد سواء إنما يَقْتَاتُونَ علي الاستقطاب و الحَدِيًةِ و التجاذب العنيف بين الموالاة و المعارضة و أنهم هم المسؤولون عن ظاهرة التجاذب السياسي العنيف و"التًأْزِيمِ بِلَا سَبَبْ" التي كثيرا ما "يُمْسِكُ الحُذًاقُ المحايدون رُؤُوسَهُمْ بأيديهم" صدمة و عجزا عن معرفة أسباب تكرارها و استعصائها .
و إذا تَمَهًدَتْ فكرة مسؤولية قَارِعَةِ السِيًاسَةِ الصًفْرَاءِ عن تدهور الحال الاجتماعي و السياسي في البلد فإن المطالبة واردةٌ و مُلِحًةٌ بإدراج "تجديد بل تَطْهِيرِ السياسة" بدل بند " تجديد الطبقة السياسية" كعنوان كبير ضمن عناوين الحوار الوطني المرتقب و الذي نرجو صادقين أن تتداعي إليه جميع القوي السياسية من المعارضة و الموالاة بلا استثناء بروح من الإيثار و المسؤولية و تقدير " اللحظات العربية و الإسلامية و الإفريقية الحُبْلَي بل المَوَاخِضِ..."
و أكاد أجزم أنه إذا ما تم إدراج بند " تطهير السياسة" ضمن مواضيع الحوار و قدر للأخير أن يتداعي إليه سائر "الجسم السياسي الوطني" فيلتئم جامعا مانعا و عاصما... فإن إجراءات قانونية و أدبية سيتم اتخاذها من مثيل:-
ترفيع المؤهلات العلمية للولوج إلي المناصب القيادية بالأحزاب السياسية؛
اعتماد معيار انتظام المسار المهني السياسي في أهلية قيادة الأحزاب السياسية؛
محاربة " التبييض السياسي" باشتراط الخلو عشر سنوات علي الأقل من السوابق العدلية و خَوَارِمِ المروءة لممارسة العمل السياسي القيادي؛
سَنُ عقوبات تأديبية و تعزيرية للقضاء علي قاموس "الغُلُوِ الهجائي و المديحي" من قبيل " الطغمة الحاكمة"، "العائلة الحاكمة "، "الأنظمة البائدة"،"المبادرات الجماعية و الفردية"، "الدعم اللامشروط" و " مُلْتَمَسِ التأييد و المساندة"...