النظام الاقتصادي العالمي مرة أخرى على حافة الهاوية.... إفلاس البنوك في الولايات المتحدة وأوروبا يفرض التخلي عن هيمنة عملة واحدة

ثلاثاء, 2023-03-21 13:03

يعيش المسؤولون عن الجزء الأكبر من الأسواق المالية في العالم وخاصة في الغرب حالة من الذعر والخوف من السقوط في هاوية جديدة تفوق أبعادها الأزمة المالية العالمية لسنة 2008 أو سابقتها في سنة 1929، وذلك بعد تسلسل عمليات إفلاس البنوك والتي انطلقت خلال الأيام الأولى من شهر مارس 2023 بإفلاس بنكي "سيليكون فالي" و"سغنتشر" الأمريكيين ثم تبعتها بنوك أوروبية بمشاكل متضخمة.

حجم الأزمة الحالية لسنة 2023 أخطر من كل ما سبقها، فهي تأتي عقب شلل اقتصادي عالمي كبير نتيجة جائحة كوفيد 16 التي استمرت زهاء ثلاث سنوات، ثم تبعات صراع الناتو ضد روسيا في الحرب الدائرة في وسط شرق أوروبا منذ 24 فبراير 2022.

حاولت الحكومة الأمريكية التي تتحكم بعملتها الدولار فيما نسبته 58 في المئة من الاحتياطيات لدى البنوك المركزية في العالم، على لسان رئيسها ومختلف كبار مسؤوليها طمأنة مودعي البنوك بأن أموالهم في آمان حتى تتجنب تدافع المودعين لسحب أموالهم في البنوك بسرعة مما سيؤدي إلى إفلاس غالبيتها.

يوم الاثنين 13 مارس 2023 ومع فتح أسواق البورصة في الولايات المتحدة، بعث الرئيس الأمريكي، جو بايدن، برسالة طمأنة لكل الأمريكيين الذين أودعوا أموالهم في "بنك سيليكون فالي" الذي أعلن إفلاسه الجمعة، فيما يعد أكبر أزمة مصرفية منذ عام 2008. 

وقال بايدن للصحفيين من البيت الأبيض، إن إدارته عملت في نهاية الأسبوع بجد لاحتواء تداعيات إفلاس "سيليكون فالي" وبنك "سيغنتشر"، متعهدا بمحاسبة المسؤولين عن الأزمة، "المدراء فيهما سيتم فصلهم، ولن يبقوا في عملهم". لكنه أشار إلى أن "المستثمرين في البنوك لن يتمتعوا بالحماية لأنهم خاطروا وعندما لم ينجحوا في مخاطراتهم خسروا أموالهم".

وزيرة الخزانة الأمريكية جانيت يلين أكدت من جانبها الأحد أن الحكومة تريد تجنب تأثير إفلاس بنك سيليكون فالي "إس في بي" على بقية النظام المصرفي، وأضافت "نريد أن نتأكد من أن مشكلات أحد البنوك لا تسبب عدوى لبنوك أخرى قوية". وقد استبعدت واشنطن إنقاذ المؤسسة عبر ضخ أموال عامة فيها، لكنها أكدت في المقابل أنها ستحمي كل ودائعها.

التصريحات المهدئة صدرت بعد ذلك في أوروبا ومناطق أخرى من العالم، البعض قدر أن حدة الأزمة خفت غير أن آخرين ذكروا أن الهدوء نسبي ومؤقت وستنهار الأسواق المالية تباعا ومعها الكثير من الاقتصاديات الكبرى والمتوسطة بشمل أساسي، ويضيف هؤلاء أن مركز الدولار واليورو سيشهد تراجعا مهما، وهو ما سيمهد الطريق أمام السعي لإقامة نظام اقتصادي جديد لا يكون الدولار الأمريكي محوره الأساسي.

 

سبب هيمنة الدولار الأمريكي

 

يعد الدولار صاحب حصة الأسد في التجارة العالمية، حيث أنه وحتى منتصف سنة 2020 شكل 88 في المئة من مبادلات التجارة العالمية. حتى وقت قريب كانت دول العالم تحرص على الاحتفاظ بالدولار، لتسديد التزاماتها التجارية والمالية مع شركائها التجاريين. وفرض عليها بأساليب مختلفة أن تبيع منتجاتها وبترولها مقابل الدولار وليس مقابل عملاتها الوطنية أو أية عملة أخرى.

بدأ النفوذ العالمي للدولار منذ عام 1944، أي بعد الحرب العالمية الثانية، عندما كانت دول أوروبا منهارة اقتصاديا، ولم تكن الصين قد نهضت بعد والاتحاد السوفيتي كان منشغلا بتضميد خسائر الحرب العالمية الثانية، كانت دول أوروبا قد استنزفت احتياطاتها من الذهب، ولم تكن نقودها تحظى بموثوقية في التبادلات التجارية.

لذا اتجهت الأنظار طلبا للمساعدة، نحو الولايات المتحدة ذات الدولار الموثوق واحتياطي الذهب الضخم، ولأن الأمريكيين لم يكن لديهم سبب للتخلي عن ذهبهم وإعطائه للأوربيين، فقد تم التوصل إلى حل وسط في اتفاقية برايتون وودز، تضمن الحل: أن يتم اعتماد الدولار كمعيار موازي للذهب في التبادلات التجارية، باعتبار أن الدولار كان مغطى فعلا بالذهب..

ومن هنا بدأ الدولار بإنشاء إمبراطورية وإحكام سيطرته علىالتبادلات التجارية.

كانت الاتفاقية تنص على من يسلمها خمسة وثلاثين دولارا تسلمه تغطية الدولار من الذهب "أوقية"، هكذا اكتسب ثقة دولية لاطمئنان الدول لوجود تغطيته من الذهب، وجمعت الدول في خزائنها أكبر قدر من الدولارات على أمل تحوليه لقيمته من الذهب في أي وقت أرادت، واستمر الوضع على هذا حتى خرج الرئيس نيكسون يوم 15 أغسطس 1971 على العالم فجأة ليصدم كل سكان الكرة الأرضية جميعا بأن الولايات المتحدة لن تسلم حاملي الدولار ما يقابله من ذهب، ليكتشف العالم أن الولايات المتحدة كانت تطبع الدولارات بعيدا عن وجود غطائها الذهبي وأنها اشترت ثروات الشعوب وامتلكت ثروات العالم بحفنة أوراق خضراء لا غطاء ذهبي لها. هذه العملية وصفها بعض الخبراء بأكبر سرقة في التاريخ.

يقول الباحث حيدر مرتضى:

يساهم الاقتصاد الأمريكي بما يقارب 24 في المئة من حجم الإنتاج العالمي، وهذا ما أدى لزيادة الثقة بالدولار الأمريكي كمخزن للقيمة، وكعملة لشراء المنتجات الأمريكية.

تدير الولايات المتحدة عجزا في الميزان التجاري منذ ما يقارب الـ 30 عام، وهذا ما عزز من الحضور العالمي للدولار، قد يبدو الأمر مشوشا، ولكن لنبسط الفكرة.

كأي دولة أخرى، تقوم الولايات المتحدة بالاستيراد والتصدير، وبالتالي فهي تدفع بالدولار عندما تستورد، وتقبض بالدولار عندما تصدر منتجاتها، وهنا تكمن الفكرة الجوهرية، فالولايات المتحدة تضخ الدولار إلى العالم، أكثر مما تسحبه، وهذا ما خلق وفرة من العملة الأمريكية حول العالم.

العجز التجاري بالتأكيد هو أمر سيء، ولكن في هذه الحالة قد خدم الدولار الأمريكي، وساهم بتعزيز حضوره العالمي. وبمعنى آخر حصلت واشنطن على سلع وخدمات بمئات الألاف من مليارات الدولارات مقابل أوراق مالية.

أما الصين مثلا، فهي تحرص على تحقيق فائض في ميزانها التجاري، أي أنها تسحب النقود جراء بيع منتجاتها، أكثر مما تدفعه من النقود جراء شراء منتجات العالم.

 

قصة التربح من الدين

 

يشكل حجم الدين الأمريكي ما يقارب 31 في المئة من إجمالي حجم الدين العالمي، وبالتالي تقوم الدول التي تمتلك الدولار باستثماره من خلال شراء سندات الدين الأمريكية، التي تدر دخلا جيدا، ولكنه بعملة ورقية وفي نفس الوقت يجعلها رهينة لإرادة حاكم البيت الأبيض الذي يطبق العقوبات ويصادرالأرصدة الأجنبية متى أراد ذلك.

رغم ذلك لم تعد بعض الدول تعبأ لوجود دولارات معطلة أو مهددة، ما دامت تستطيع استثمارها من خلال إقراض الحكومة الأمريكية وشراء السندات المدرة للدخل.

من باب المقارنة، تبلغ ديون اليابان 18 في المئة من إجمالي حجم الدين العالمي، ولكن الديون اليابانية في مستويات خطيرة مقارنة بالديون الأمريكية.

ولهذا لا تفضل الدول كثيرا الاحتفاظ بالين الياباني، بسبب عدم جاذبية إعادة استثماره في الديون اليابانية، بينما خزن الثروة بالدولار يساهم بتوليد دخل إضافي من خلال استثماره في الدين الأمريكي.

منذ تسعينات القرن الماضي سعت دول عديدة للتخلص من هيمنة الدولار ولكنها تعرضت لضغوط أمريكية شديدة أو عقوبات لتجبر على التراجع. منذ نهاية سنة 2021 شرعت كل من البرازيل والأرجنتين مناقشة تبني عملية موحدة، لتقليص الاعتماد على الدولار الأمريكي في تعاملاتهما المالية، في خطوة تأتي ضمن سلسلة متصلة من الخطوات ذات الصلة التي تسعى خلالها عدد من الأطراف – سواء حلفاء أو خصوم لواشنطن- إلى التخلي عن الدولار، وبما يهدد بضرب هيمنة العملة الأمريكية على المدى الطويل.

تقود روسيا والصين والهند حاليا ومعهم دول أخرى الاتجاه نحو إزالة الدولرة من هيمنتها العالمية وذلك في وقت يشهد فيه العالم عصرا جديدا من التنافس بين القوى العظمى يعاد معه تشكيل خارطة الاقتصاد العالمي. لقد عززت مجموعة المتغيرات اتجاه العديد من الدول إلى التعامل بالعملات الوطنية، على غرار انخراط روسيا والصين بالفعل في تجارة الروبل واليوان وتسوية التعاملات بينهما بالعملات المحلية وكذلك مع عدد من شركائهما التجاريين حول العالم.

وتستمر بلدان أخرى في البحث عن طرق لبناء روابط تجارية تتجنب الدولار.

 

طرق الإفلاس

 

جاء في بحث نشرته صحيفة "الاقتصادية" يوم الاثنين 20 مارس 2023:

لم تكن جزيرة جيكل وقتها قد تحولت إلى وجهة سياحية لولاية جورجيا، وحول منضدة تحيط بها السلاحف ضخمة الرأس التي تشتهر بها الجزيرة، التف أصحاب أشهر البنوك الأمريكية حول جي بي مورغان، ذئب وول ستريت والاقتصادي الفذ المعروف، ليضع حدا للكارثة المتكررة، التي ملخصها، سريان شائعة بإفلاس بنك ما، فيذهب كل المودعين لطلب أموالهم من هذا البنك في يوم واحد، فيفلس البنك فعليا، في تطبيق لمقولة "نبوءة تحقق ذاتها"، هذا ما حدث في أعوام 1893 و1896، و1907 العام الذي انعقد فيه هذا الاجتماع بعد إفلاس عشرة بنوك أمريكية في يوم واحد إثر واقعة عرفت بـ"الانهيار المصرفي الكبير".

توصل جي بي مورغان بعد خمسة أعوام من هذا الاجتماع، إلى تأسيس بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، الذي تضع فيه البنوك ما يعادل أموال المودعين حتى تظل محفوظة تحت أي ظرف، ورغم أن هذا الإجراء معمول به نظريا فقط في كل دول العالم حتى الآن، وبالفعل هو ضمانة أساسية لكل مودع، لكن عبر عقود ماضية تم اختراقه وثبت أن الإنسان حين يفقد ثروته لا تجدي معه أي وسيلة مطمئنة.

يدلل على ذلك ما حدث في 1984 حين أعلن بنك كونتيننتال إلينوي آند تراست إفلاسه، وكان وقتها أكبر بنك تجاري، قدرت أصوله قبل الإفلاس بثلاثة أعوام بنحو 40 مليار دولار بحسب صحيفة "واشنطن بوست"، لكن منح القروض دون ضوابط والفساد الذي أدى إلى تسهيلات بالمليارات للمقرضين، أديا فيالنهاية إلى أن يعلن البنك إفلاسه.

وإن كان المودعين الكبار كانوا الأقل تضررا لأنه قبل إعلان الإفلاس بأسابيع قليلة سحبوا معظم أموالهم، في خطوة عدها البعض تعجيلا بالإفلاس، إلا أن صغار المودعين الذين لم تكن لديهم معلومات أو مصادر تخبرهم بما يجري داخل البنك، كانوا هم الضحايا الأكثر تضررا.

الثانية إلا ربع من ظهر الأربعاء 15 سبتمبر 2008، توقيت يحفظه جيدا أصحاب المال والاقتصاديون الأمريكيون، ففي تلك اللحظة كان بنك "ليمان براذرز" يعلن إفلاسه بشكل مفاجئ تاركا أصول بقيمة 691 مليار دولار و25 ألف موظف في مهب الريح، هذاالإفلاس الأكبر في التاريخ الأمريكي كان بداية الأزمة المالية العالمية في 2008 التي سببها الرئيس الرهن العقاري.

في مارس 2023 ورغم أن الحكومة الأمريكية تدخلت سريعا بوعد مودعي سيليكون فالي برد أي ودائع بحد تأميني بالغ 250 ألف دولار، إضافة إلى أن هناك صندوقا لتأمين الودائع وقروضا طارئة، لكن ذلك لم يمنع من حالة ذعر انتابتهم كما انتابت مؤسسات مالية أخرى، والسؤال الآن، إذا كان أصحاب الأموال لدى سيلكون فالي عرضوا بعد الانهيار أسهمهم مقابل 40 في المائة من قيمتها الحقيقية للنجاة، فماذا سيفعل عملاء آخرون أوشكت بنوكهم على الإفلاس مثل كريدي سويس الذي وقف على حافة الهاوية قبل أن يتعرض إلى خطة إنقاذ بقيمة 54 مليار دولار حتى لا يلقى المصير نفسه؟.

 

محاولات لطمأنة الأسواق 

 

جاء في تقرير نشر في واشنطن يوم 20 مارس 2023:

أعلنت المصارف المركزية للولايات المتحدة وسويسرا ودول أخرى، الأحد 19 مارس، عن تحرك منسق لتوفير مزيد من السيولة لطمأنة الأسواق في خضم أزمة ثقة بالنظام المصرفي، بحسب وكالة "فرانس برس" للأنباء. 

ويأتي التدبير الاستثنائي بعيد استحواذ مصرف "يو بي أس" الأكبر في سويسرا على منافسه "كريدي سويس" في عملية نسقتها الحكومة السويسرية بهدف إعادة إرساء الثقة بالنظام المصرفي.

واشترى البنك المصرفي العملاق، "يو بي أس" منافسه المضطرب "كريدي سويس" مقابل ما يقرب من 3.25 مليار دولار، في صفقة يحاول من خلالها المنظمون تجنب مزيد من الاضطرابات التي تهز سوق النظام المصرفي العالمي، وفقا لوكالة "أسوشيتد برس".

ومن أجل طمأنة المستثمرين وعملاء البنك، ضغطت السلطات السويسرية على بنك "يو بي أس" للاستيلاء على منافسه الأصغر بعد أن فشلت خطة "كريدي سويس" لاقتراض ما يصل إلى 50 مليار فرنك "54 مليار دولار".

وبيعت أسهم بنك "كريدي سويس" وبنوك أخرى، خلال أسبوع، بعد إفلاس بنكين في الولايات المتحدة، ما أثار مخاوف بشأن احتمال تعرض مؤسسات أخرى في النظام المالي العالمي للأزمة نفسها.

وبنك "كريدي سويس" هو من بين 30 مؤسسة مالية معروفة على المستوى العالمي بأهميتها، ولذلك فإن السلطات السويسرية قلقة من التداعيات في حال فشل هذا البنك.

وذكر الرئيس السويسري، آلان بيرسيه، عندما أعلن عن الصفقة، مساء الأحد، إنها كانت "مهمة وكبيرة لاستقرار التمويل الدولي". وأضاف أن "الانهيار غير المنضبط لبنك كريدي سويس سيؤدي إلى عواقب لا حصر لها على الدولة والنظام المالي الدولي".

وأصدر المجلس الفيدرالي السويسري، وهو هيئة حاكمة مكونة من سبعة أعضاء بما في ذلك بيرسيه، مرسوما طارئا يسمح بالاندماج دون موافقة المساهمين.

ووصف رئيس مجلس إدارة كريدي سويس، أكسل ليمان، الصفقة بأنها "نقطة تحول واضحة".

وقال ليمان: "إنه يوم تاريخي حزين وصعب للغاية بالنسبة لبنك كريدي سويس وسويسرا والأسواق المالية العالمية"، مضيفا أن "التركيز الآن منصب على المستقبل وعلى وجه الخصوص على موظفي كريدي سويس البالغ عددهم 50 ألف موظف، منهم 17 ألف موظف في سويسرا".

ومن جانبه، أشاد رئيس مجلس إدارة "يو أس بي" كولم كيليه، بـ "الفرص الهائلة" التي ظهرت من عملية الاستحواذ، وسلط الضوء على "ثقافة المخاطرة المحافظة" لبنكه - وهو انتقاد خفي لثقافة "كريدي يوسي" المعروفة بمقامراتها الشديدة والمغامرة على عوائد أكبر.

وقال إن "المجموعة المشتركة ستنشئ صندوق ثروة بأكثر من 5 تريليونات دولار من إجمالي الأصول المستثمرة".

وذكرت وزيرة المالية السويسرية، كارين كيلر سوتر، إن مجلس الوزراء السويسري "يأسف لأن البنك، الذي كان في يوم من الأيام مؤسسة نموذجية في سويسرا وجزءا من موقعنا القوي، وصل لهذا الوضع".

 

البنوك الأوروبية

 

أشادت رئيسة البنك المركزي الأوروبي، كريستين لاغارد، بـ "الإجراء السريع" الذي اتخذه المسؤولون السويسريون، قائلة إنهم "لعبوا دورا فعالا في إعادة تنظيم السوق وضمان الاستقرار المالي". 

وأضافت أن البنوك الأوروبية "في وضع مختلف تماما عن عام 2008 خلال الأزمة المالية، ويرجع ذلك جزئيا إلى التنظيم الحكومي الأكثر صرامة".

من جانبه ذكر باسكال دونوهو، رئيس المجموعة الأوروبية لوزراء مالية منطقة اليورو، في تصريح لصحيفة فايننشال تايمزالبريطانية، إن انهيار بنك سيليكون فالي في الولايات المتحدة "أكد على أهمية استمرار أوروبا في إحراز تقدم بشأن الاتحاد المصرفي".

وأضاف دونوهو "لا أحد منا بوسعه أن يكون على يقين تام من أين سيأتي الخطر التالي"، موضحا أن أفضل حل للتعامل مع هذا الخطر هو تسريع العمل على تعزيز قواعد الاتحاد الأوروبي للتعامل مع البنوك المتعثرة أو المنهارة.

وتعمل بروكسل على مشروع قانون حول إدارة أزمات البنوك من شأنه أن يضمن طريقة تعامل أكثر اتساقا مع البنوك التي تتعرض لمشاكل، مما سيحد من مخاطر السحب من الأموال العامة.

وأضاف دومبروفسكيس إن النهج التنظيمي للاتحاد الأوروبي ضمن أن تكون بنوكه في وضع أفضل من تلك التي انهارت في الولايات المتحدة.. مشيرا إلى أن الاتحاد الأوروبي ينفذ نهجا تنظيميا يضمن تنفيذ المتطلبات على جميع البنوك، وهو ما يوفر مساحة إضافية من الأمان على اللوائح الاحترازية لبنوك الاتحاد.

وأكد المسؤول الأوروبي أن بنوك الاتحاد "في حالة جيدة، ولديها احتياطيات سيولة جيدة ورأس مال جيد، ولذلك لا نتوقع أي آثار كبيرة غير مباشرة على الاتحاد الأوروبي".

مقابل هذا التفاؤل صرح كريس بوشامب، محلل الأسواق بشركة "آي جي غروب"، إن البنوك الأوروبية تكبدت خسائر بقيمة 100 مليار دولار عقب انهيار بنك سيليكون فالي، ما أدى إلى تراجع القطاع المصرفي الأوروبي بأكمله.

وأشار إلى أن وتيرة الخسائر تتسارع على الرغم من القواعد الصارمة التي تتبعها البنوك الأوروبية التي تعمل على منع حدوث فشل مصرفي مماثل بالقارة وذلك بحسب "سي إن إن".

 

مخاطرة مفرطة

 

جاء في تقرير نشر في واشنطن يوم 19 مارس 2023:

رغم مرور أكثر من 14 عاما على الأزمة المالية، عادت التساؤلات مرة أخرى بشأن مدى صلابة النظام المالي الأمريكي، بعد انهيار ثلاثة مصارف أمريكية في غضون أسبوع. 

وكتبت مجلة إيكونوميست إن عملاء البنوك بدأوا يسألون مرة أخرى عما إذا كانت أموالهم آمنة، بعد محو 229 مليار دولار بالكامل من القيمة السوقية للبنوك الأمريكية، في أيام خلال شهر مارس.

وتشير المجلة في تقريرها إلى الخسائر الفادحة التي تكبدتها البنوك، نتيجة ارتفاع أسعار الفائدة، وهي السياسة التي ينتهجها الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي لكبح جماح التضخم، إلا أنها تؤثر على عمل البنوك.

وعندما كانت أسعار الفائدة منخفضة وأسعار الأصول مرتفعة، اعتمد بنك "سيليكون فالي"، أحد البنوك المنهارة، على السندات طويلة الأجل، ثم رفع بنك الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة، فانخفضت أسعار السندات، وتكبد البنك خسائر فادحة.

ولا تتطلب القواعد الحالية من معظم البنوك أن تأخذ في الحسبان انخفاض أسعار السندات التي تخطط للاحتفاظ بها حتى تبلغ موعد الاستحقاق.

ومع سحب المودعين أموالهم، كان على "سليكون فالي" بيع السندات، مما أدى إلى هذه الخسائر. وبشكل عام فإن مجموع الخسائر غير المحققة للنظام المصرفي بلغت حوالي 620 مليار دولار في نهاية عام 2022، أي ما يعادل حوالي ثلث إجمالي احتياطي رأس المال في الولايات المتحدة.

ولحسن الحظ، فإن البنوك ليست بمستوى الخطر الذي كان عليه "سيليكون فالي" لكن ارتفاع أسعار الفائدة جعل النظام المالي عرضة للخطر.

ويشرح التقرير أنه مع انخفاض معدلات التضخم، وكذلك الفائدة على مدار السنين، اشترت البنوك السندات، لكن لم يكن في الحسبان كيف سيكون الوضع، لو ارتفعت أسعار الفائدة.

وخلال الجائحة، تدفقت الودائع على البنوك، وضخت أموال التحفيز المالي السيولة في النظام المالي، واستخدمت البنوك الودائع لشراء سندات طويلة الأجل وسندات الدين المضمونة بالرهن العقاري. 

تتمثل إحدى المشكلات في أن البنك قد اشترى السندات بأموال شخص آخر، وعادة ما يكون وديعة، ويجب على البنوك الصغيرة والمتوسطة دفع المزيد من الأموال للمودعين لمنعهم من أخذ أموالهم. وهذا يضغط على هوامشها الربحية، وهو ما يفسر أيضا سبب هبوط أسعار أسهم بعض البنوك.

ومع سحب المودعين أموالهم، يلجا المصرف لبيع الأصول، مما يكبد البنوك خسائر ضخمة.

ولمنع تفاقم الأزمة، تدخل الاحتياطي الفيدرالي بتقديم قروض بضمان سندات البنوك بالقيمة الإسمية للسندات، وفي بعض السندات طويلة الأجل، قد تكون أعلى من القيمة السوقية بنسبة تزيد عن 50 في المئة.

 

الخوف والهشاشة

 

لا تزال المخاوف حيال القطاع المصرفي بالولايات المتحدة الأمريكية في صدارة المشهد بالبلاد، الأمر الذي زعزع بورصة وول ستريت مجددا، وأثر على أسعار الدولار والنفط والأسهم.

والمشكلة التي يوردها تقرير المجلة هنا أن هذا يخلق مشكلة أنه يشجع البنوك على التصرف "بتهور"، لأنها تعرف أن الاحتياطي الفيدرالي سيتدخل لإنقاذها، وستبحث البنوك المتنافسة عن عوائد عالية، من خلال المخاطرة المفرطة.

وبالإضافة إلى ذلك، فإن المودعين سوف يخاطرون بإيداع أموالهم دون التمييز بين المخاطرة المحسوبة والمخاطرة السيئة، لأنهم يعلمون أن الاحتياطي الفيدرالي يتدخل في كل مرة.

ويدعو التقرير إلى ضرورة اتخاذ خطوات تجعل النظام المالي أكثر أمانا، وعدم وضع استثناءات للبنوك، وخلق نظام يدرك مخاطر ارتفاع أسعار الفائدة. 

وتقول إيكونوميست: "يواجه المودعون ودافعو الضرائب، من وادي السيليكون، إلى سويسرا ذعرا شديدا. لا ينبغي أن يتعايشوا مع الخوف والهشاشة التي اعتقدوا أنها أصبحت جزءا من الماضي".

خسرت الأسهم المالية العالمية 465 مليار دولار من قيمتها السوقية يومي 13 و14 مارس حيث خفض المستثمرون تعرضهم للبنوك من نيويورك إلى اليابان.

واتسعت الخسائر يوم الثلاثاء 14 مارس، حيث انخفض مؤشر "إم إس سي آي" للأسهم المالية لمنطقة آسيا والمحيط الهادئ بنسبة 2.7 في المائة إلى أدنى مستوى منذ 29 نوفمبر 2022.

وانخفضت عوائد سندات الخزانة يوم الاثنين 13 مارس وسط توقعات بأن يقوم الاحتياطي الفيدرالي بتأجيل رفع أسعار الفائدة بسبب الاضطرابات في النظام المصرفي، بحسب "بلومبيرغ".

وانخفضت القيمة السوقية الإجمالية للشركات المدرجة في مؤشر "إم إس سي آي" المالي العالمي ومؤشر "إم إس سي آي المالي للأسواق الناشئة " بنحو 465 مليار دولار خلال جلستي الجمعة والاثنين.

 

من يتحمل تكاليف الخسارة

 

المخاوف حيال القطاع المصرفي بالولايات المتحدة الأمريكية زعزعبورصة وول ستريت مجددا، وأثرت على أسعار الدولار والنفط والأسهم.

تتحدث شبكة "سي أن أن" عن كلفة إنقاذ تقدر بـ200 مليار دولار، لضمان ودائع المصارف المنهارة. 

وتلفت الشبكة إلى أن الاحتياطي الفيدرالي، وافق في المقابل، على إقراض مبالغ قياسية للبنوك الأخرى خلال الأسبوع، فحصلت المصارف على نحو 153 مليار دولار خلال الأيام الأخيرة، متجاوزة بذلك المجموع السابق البالغ 112 مليار دولار الذي سجل خلال أزمة عام 2008.

وحسب فرانس برس، أوضح الاحتياطي الفيدرالي، الخميس، أنه أقرض حوالي 12 مليار دولار للمصارف منذ الأحد من خلال برنامج جديد يسمح لهذه البنوك بتفادي مشكلات السيولة والاستجابة لطلبات عملائها سحب ودائعهم.

أما القروض الاعتيادية لآجال قصيرة جدا، فسجلت ارتفاعا كبيرا خلال أسبوع من نحو خمسة مليارات دولار إلى 152 مليار دولار.

كما أقرض الاحتياطي الفيدرالي 164,8 مليار دولار إلى الكيانين اللذين أنشأتهما الهيئات الضابطة لخلافة سيليكون فالي بنك وسيغنتشر بنك.

أما النفط، فأنهى التعاملات منخفضا، الجمعة، متخليا عن مكاسبه المبكرة التي تجاوزت الدولار للبرميل إذ دفعت مخاوف بشأن القطاع المصرفي الخامين القياسيين لتسجيل أكبر خسائرهما الأسبوعية في شهور، حسب رويترز

وانخفضت العقود الآجلة لخام برنت 1.73 دولار أو 2.3 في المئة إلى 72.97 دولارا للبرميل عند التسوية، بينما خسر خام غرب تكساس الوسيط الأمريكي 1.61 دولار، أو 2.4 في المئة، ليبلغ 66.74 دولارا.

توقع JPMorgan Chase أن يضخ الاحتياطي الفدرالي ما يصل إلى تريليوني دولار في النظام المصرفي. وقال المصرف الأمريكي في مذكرة الأربعاء الخامس عشر من مارس: استخدام الاحتياطي الفدرالي لبرنامج التمويل البنكي لأجل سيكون كبيراعلى الأرجح.

وتستهدف تلك المبادرة منع تهافت المودعين على البنوك لاسترداد ودائعهم كما حدث مع SVB. ويسمح البرنامج الذي أطلقه الفدرالي للبنوك بالحصول على سيولة عبر وضع حيازتهم من السندات كضمانات.

وعلى الرغم أن الفدرالي لم يفصح عن الكمية الرسمية في البرنامج، لكنه شدد أنه كبير بما يكفي لتغطية كافة المودعين غير المؤمن عليهم.

أما JPMorgan Chase فيرى أن تلك الكمية ستبلغ 7 تريليونات دولار، مع الإشارة إلى أن المصارف الخمسة الكبرى لن تستخدم البرنامج على الأرجح، بما يدفع الكمية التي سيوفرها الفدرالي بالفعل إلى تريليوني دولار.

 

63.9 تريليون دولار 

 

تواصل إفلاس البنوك الكبرى في العالم يهدد بكارثة أساسا في النظام المالي الغربي. بلغت أصول أكبر 100 بنك من حيث الأصول في العالم نحو 63.9 تريليون دولار، بما يعادل أكثر من ضعف حجم الاقتصاد الأمريكي "أكبر اقتصاد في العالم" البالغ 25 تريليون دولار خلال 2022، في حال المقارنة الافتراضية معه.

ووفقا لرصد وحدة التقارير في صحيفة "الاقتصادية" استند إلى بيانات رسمية، استحوذت عشرة بنوك على نحو 47 في المائة من إجمالي الأصول لأكبر 100 بنك.

وسيطرت الصين على نصيب الأسد من أكبر عشرة بنوك في العالم، بستة بنوك منها تبلغ أصولها 22.77 تريليون دولار، تمثل نحو 76 في المائة من أصول البنوك العشرة الكبرى. وذلك إضافة لبنكين من فرنسا بأصول تبلغ 3.34 تريليون دولار، وبنك واحد لكل من بريطانيا وإسبانيا.

والبنوك العشرة جميعا تتجاوز أصول كل منها على حدة 1.5 تريليون دولار، ما يؤكد ضخامة حجمها.

وتصدر ترتيب أكبر بنوك العالم أربعة بنوك صينية بفارق كبير عن البقية من حيث حجم الأصول الذي يتجاوز لكل منهم أربعة تريليونات دولار، وهي: البنك الصناعي والتجاري الصيني بأصول 5.53 تريليون دولار، ثم البنك الزراعي الصيني 4.84 تريليون دولار، ثالثا بنك التعمير الصيني بأصول 4.75 تريليون دولار، ويحل رابعا بنك أوف تشاينا بأصول أربعة تريليونات دولار.

في الترتيب الخامس بنك باركليز - بريطانيا، 1.9 تريليون دولار، وسادسا، بنك التوفير البريدي الصيني بأصول 1.89 تريليون دولار، ثم بانكو سانتاندير - إسبانيا، 1.81 تريليون دولار، و بنك الاتصالات - الصين، 1.77 تريليون دولار.

وفي المركز التاسع بي بي سي إي غروب - فرنسا، بأصول 1.73 تريليون دولار، وعاشرا، سوسيتيه جنرال - فرنسا بأصول 1.61 تريليون دولار.

وضع البنوك الصينية مختلف كثيرا عن مثيلاتها الغربية، لأن النظام الاقتصادي الصيني شيوعي.

 

ماذا ينتظر الدولار ؟

 

يرى الخبير الاقتصادي ألكسي بوروفسكي، أن المستثمرين سيقبلون على الدولار الأمريكي على المدى القصير بصفته ملاذا آمنا، مشيرا إلى أن تصرف المستثمرين هذا يعد أمرا طبيعيا في فترات الأزمات الكبيرة. غير أن دول العالم ستستمر في الابتعاد عن العملة الأمريكية على المدى المتوسط والطويل كما أن المستثمرين سيبحثون عن بدائل للدولار لحفظ أموالهم.

وقال بوروفسكي بهذا الصدد: "نشاهد كيف تنمو تجارة روسيا الخارجية بالعملات الوطنية بالروبل واليوان الصيني والروبية الهندية، ونراقب دول في منطقة الشرق الأوسط أعربت عن استعدادها للتجارة مع الصين باليوان ومع أوروبا وغيرها من الاقتصاديات الرائدة بعملاتهم الوطنية. بشكل بطيء يتم التخلي عن الارتباط بالدولار". هناك ابتعاد عن الدولار، إذ تفقد هذه العملة صفتها كملاذ آمن.

وعن تأثير انهيار "سيليكون فالي بنك" على الاقتصاد العالمي عامة، ومنطقة الشرق الأوسط خاصة، قال الخبير إن "مشاكل السوق الأمريكية تؤثر على اقتصاديات العالم، وإذا انتقلت الأزمة المصرفية هذه من بنوك على مستوى الولايات إلى بنوك تشكل عصب القطاع المصرفي والمالي ستخلق موجة بيع في الأسواق الأوروبية وغيرها من الدول والتي ستؤدي إلى نزوح رؤوس الأموال من هذه الأسواق إلى الملاذات الأمنة.

وتابع قائلا: "سنراقب موجة بيع الأسواق الأوروبية والآسيوية وارتفاع الأصول الآمنة وفي مقدمتها الذهب وغيرها من المعادن النفيسة الأخرى وسيشكل ذلك ضربة لعملات الدول الأخرى".

ورجح الخبير حدوث حالات إفلاس جديدة في القطاع المصرفي، وتحديدا لدى بنوك على مستوى الولايات الأمريكية وليس لدى بنوك قيادية، لكنه لم يستبعد أيضا إفلاس بنك كبير في غضون نصف عام.

من جانبه حذر الخبير ألكسندر نازاروف من حدوث أزمة عميقة في الاقتصاديات الغربية، وقال إن "الغرب محكوم عليه بالفناء ولا يمكنه إلا أن يختار الموت من الانكماش أو من التضخم المفرط".

وتوقع الخبير انهيار الاقتصاد الغربي، وقال: "لقد قلت مرات عديدة، إن الغرب محكوم عليه بالفناء، وسوف يسقط على أي حال، ولا يمكنه إلا أن يختار الموت من الانهيار الانكماشي أو من التضخم المفرط. لذا سيحاول بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي الآن أن يبقينا على مسار الانكماش لبضعة أشهر أخرى، ولكن بعد أن يكون هناك عدد كبير جدا من حالات الإفلاس، سوف يستأنف طباعة النقود الورقية، وسوف نعود إلى مسار التضخم المفرط. ليس من الضروري أن نقول إن الأزمة آتية في المستقبل، فمنذ عام 2008 ونحن نعيش داخل الأزمة، فهي مستمرة".

 

عمر نجيب

[email protected]