في منحى تصاعدي وحتى قبل اكتمال عام على الصراع العسكري بين روسيا من جهة وحلف الناتو من جهة أخرى في وسط شرق أوروبا بأوكرانيا وجدت الولايات المتحدة وحلفاؤها في الناتو أن عليهم التعامل مع معطيات وتطورات وأحداث لم يتوقعوها، وهي في غالبها تعاكس خططهم وتتناقض مع انتظاراتهم وتهددهم بأخطار تكبد خسائر كالتي واجهوها في الفيتنام في عقد السبعينات من القرن العشرين بعد حرب دامت زهاء 20 سنة، وأفغانستان في إنسحاب مذل في 31 أغسطس 2021 بعد عقدين من الزمن من التدخل لإسقاط حركة طالبان، وتعثر وتكلفة عالية في حرب غزو العراق التي لا يعترفون في البنتاغون أو البيت الأبيض حتى سنة 2023 بنهايتها، رغم إنه يِنتظر أن يصوت مجلس الشيوخ الأمريكي بالكامل خلال الأسابيع القادمة من شهري أبريل أو مايو 2023على إلغاء تفويضي 1992 و 2002، و"إنهاء الحرب الأمريكية ضد العراق رسميا".
في الصراعات العسكرية للولايات المتحدة وحلفائها في الناتو، يعتبر الدعم والإنفاق المادي أحد العناصر الأساسية التي تبنى عليها الرهانات طبعا إلى جانب نوعية الأسلحة وقدرة الخصوم على الصمود ودرجة تحملهم للخسائر. منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ومن حرب كوريا في بداية عقد الخمسينات وصراع الفيتنام واللاوس والكمبودج وأفغانستان والعراق حسمت الصراعات لغير صالح الغرب لأسباب عدة شكلت فيها التكلفة البشرية والمادية العالية التي تحملها التحالف الغربي أهم أسباب انكساره، في حين أن الفيتنام رغم خسارتها مليوني قتيل لم تنكسر وصمدت وانتصرت وكذلك افغانستان.
منذ عقود تلجأ الإدارة الأمريكية في واشنطن إلى أسلوب رفع الضرائب أو الاقتراض الداخلي والخارجي لتمويل العمليات العسكرية الواسعة النطاق في الخارج.
كلفت حرب واشنطن على العراق حوالي 4000 مليار دولار حسب دراسة أعدها معهد واتسون للدراسات الدولية بجامعة براون الأمريكية والتي صدرت في 14 مارس سنة 2013 ومنذ ذلك التاريخ أي العشر سنوات الماضية لم تتح معرفة التكاليف التالية.
وتقول المصادر الرسمية الأمريكية أنه بحلول 2050، من المتوقع أن تصل تقديرات فوائد قروض الولايات المتحدة من أجل الحرب في العراق وأفغانستان إلى 6.5 تريليون دولار.
في حرب أوكرانيا تجاوزت الإنفاقات الأمريكية ودول حلف الناتو وغيرها الرسمية على الورق نحو 150.8 مليار دولار، وهناك الآن في الربع الأول من سنة 2023 خلاف حول ما وصل وما لا يزال لم يصل.
هذه التكلفة ليست سوى جزء من قمة جبل الجليد العائم، حيث أنه وبعيدا عن تبعات الحرب على اقتصاد مختلف دول العالم تتكبد دول الناتو خسائر مادية فاقت حسب إحصائيات أوروبية 784 مليار دولار للإتحاد الأوروبي وحده.
دراسة ألمانية نشرت نتائجها في 23 فبراير 2023 أفادت إلى أن الحرب الروسية الأوكرانية الجارية كلفت الاقتصاد العالمي 1.3 تريليون دولار في عام 2022. ووفقا للدراسة التي نشرها المعهد الاقتصادي الألماني "IW"، تأثرت الاقتصادات الغربية بشكل خاص حيث فقدت ثلثي إنتاجها العالمي، وفقا لما ذكره موقع "The Meghalayan".
المشاكل الاقتصادية التي تتضخم في الدول الأوروبية والولايات المتحدة ولدت بسرعة لم تكن متوقعة معارضات شعبية وسياسية متصاعدة في الغرب لمواصلة الحرب في وسط شرق أوروبا رغم أنه لم تسجل حتى الحين خسائر بشرية أمريكية أو أوروبية من الناتو في الصراع، زيادة على ذلك لم تتحقق الوعود الغربية عن أنها ستنجح في تدمير اقتصاد روسيا وبالتالي إنهاء الحرب، في وقت طبق فيه ساسة الكرملين تكتيكا حربيا جديدا ربما يطلق عليه يوما ما تسمية "البالوعة" أي الثقب الذي يبتلع كل شيئ.
جوهر التكتيك: لا تتوغل عميقا في ارض معادية، حافظ على خطوط تموينك أقصر ما يمكن والعكس بالنسبة للعدو، اجبر الخصم على تركيز دفاعه في مواقع من اختيارك واستنزفه هناك وكلما أبدى توجها للإنسحاب تراجع ليتوهم أنه ينتصر ثم واصل عملية الاستنزاف لتصل في النهاية إلى الحسم بعد أن يستهلك خصمك كل مقدراته، وهنا تفرض شروط المنتصر.
الاعتراف
جاء في تقرير نشر في العاصمة الأمريكية واشنطن يوم 2 مارس 2023:
قبل عام وبضعة أيام، وعندما هاجمت قوات الكرملين أوكرانيا، تعهدت أعداد كبيرة من الشركات الغربية بالخروج بسرعة مما كان سوقا مهما بالنسبة لها، إذ فككت سلسلة مطاعم "ماكدونالدز" أقواسها الذهبية بعد 32 عاما من الاستثمارات المجزية.
وسارعت شركة النفط العملاقة "بريتيش بتروليوم" للتخلص من استثماراتها الروسية العملاقة، في حين باعت شركة رينو الفرنسية لصناعة السيارات مصانعها مقابل مبلغ رمزي قدره روبل واحد.
ورغم كل ذلك، فلا تزال مئات الشركات الغربية في روسيا، بما في ذلك شركات أمريكية وأوروبية كبرى ومتوسطة الحجم تمارس أعمالها في روسيا غير مكترثة للعقوبات الغربية التي جرى فرضها على موسكو.
وبحسب تقرير لصحيفة "نيويورك تايمز"، فإن بعض الشركات الغربية، التي تواجه اتهامات بأنها تساهم في تمويل حرب الكرملين، فإنها تتذرع بالبقاء في روسيا بحجة أن عملائهما يحتاجون إلى خدماتها الضرورية.
وبالنسبة للعديد من الشركات، فقد كان الخروج من روسيا بالنسبة لها أصعب مما كان متوقعا. وكثيرا ما ردد رؤساء الشركات الغربية أن لديهم مسؤولية تجاه المساهمين لجهة العثور على مشترين يدفعون بعضا من قيمة أصول تلك الاستثمارات، بدلا من تسليمها مجانا إلى موسكو.
وقد دفعت هذه المخاوف شركة التبغ العملاقة "فيليب موريس" إلى القول شهر فبراير 2023 إنها قد لا تبيع شركاتها في روسيا أبدا، على الرغم من الجهود المبذولة للقيام بذلك.
من جانب آخر، لا ترغب العديد من الشركات في المخاطرة بالتنازل عن حصتها في السوق الروسية لشركات من الصين أو تركيا أو الهند أو أمريكا اللاتينية، والتي لا تخضع لنظام العقوبات مما يجعلهم يسعدون بالحصول على عقارات وحصص الأسهم بأثمان رخيصة.
وفي هذا الصدد يقول، المحامي الفرنسي، أوليفييه أتياس، من مؤسسة "August Debouzy"، وهي شركة محاماة في باريس تقدم المشورة للشركات الفرنسية الكبرى التي لها استثمارات في روسيا: "كانت روسيا سوقا كبيرا للعديد من الشركات.. وكان اتخاذ قرار الخروج صعبا، ولذلك فإن عملية المغادرة ليست بالأمر الهين".
وأظهرت البيانات التي جمعتها جامعة، ييل الأمريكية، أنه من بين ما يقرب من 1600 شركة في روسيا قبل الحرب، قد استمر أكثر من ربعها في العمل بشكل كامل هناك، مع تأجيل بعضها فقط للاستثمارات المخطط لها في قادم السنوات.
وفي دراسة استقصائية أجرتها كلية كييف للاقتصاد، كانت نسبة بقاء تلك الشركات قريبة من 50 في المائة.
لكن دراسة غربية أخرى تشير إلى قلة عدد الشركات التي قطعت العلاقات تماما مع موسكو، إذ وجدت أن أقل من 9 في المائة من حوالي 1400 شركة من أوروبا والولايات المتحدة واليابان وبريطانيا وكندا قد تخلت عن شركة تابعة لها في روسيا منذ بدء الحرب في 24 فبراير من عام 2022.
وكانت شركة "بريتيش بتروليوم" قد تصدرت عناوين الصحف بعد ثلاثة أيام من بداية الحرب من خلال تعهدها بسحب ما يقرب من 20 في المائة من حصتها في شركة روسنفت النفطية التي تسيطر عليها موسكو، وهو قرار أدى إلى فرض رسوم قدرها 24 مليار دولار على دفاترها.
ولكن بعد مرور عام، لم تتنازل الشركة بعد عن أسهمها، وألقت باللوم في ذلك على "عملية مطولة"، مقيدة بالعقوبات الدولية والحكومة الروسية، التي تتمتع بحقوق موافقة فعالة على أي مشتر محتمل.
وتحاول شركات أخرى ترك الباب مفتوحا للعودة، إذ تهدف شركة كارلسبرغ الدنماركية إلى إيقاف استثماراتها في روسيا بحلول منتصف عام 2023.
لكن الرئيس التنفيذي للشركة، سيس تي هارت، قال إن شركته تسعى للحصول على شرط إعادة الشراء الذي من شأنه أن يمنحها الفرصة لإعادة شراء استثماراتها مرة أخرى.
وبالنسبة لرينو، فقد تضمن بيع مصانعها صيف 2022 إلى كيان حكومي روسي بندا حاسما يسمح لشركة صناعة السيارات بإمكانية إعادة شراء استثماراتها في غضون ست سنوات.
وقالت الشركة إنها ستتعرض لضربة مالية قدرها 2.2 مليار يورو لمغادرة روسيا.
وفي غضون ذلك، يقوم المالك الروسي الجديد بإنتاج سيارات روسية، مصنوعة في الغالب من قطع غيار مستوردة من الصين أو مصنعة محليا.
تحذيرات
دعت الولايات المتحدة، يوم الخميس 2 مارس 2023، شركات القطاع الخاص إلى الحذر من الأنشطة والمعاملات التجارية التي يمكن أن تساعد روسيا على الالتفاف على العقوبات الغربية، حيث يتطلع المسؤولون إلى تكثيف إنفاذ العقوبات.
وأكدت مذكرة صادرة عن وزارات التجارة والعدل والخزانة، أن الشركات مطالبة بأن تكون على اطلاع تام على "نقاط إعادة الشحن"، حيث يتم شراء البضائع بشكل قانوني ثم يتم إرسالها إلى روسيا أو بيلاروسيا.
وتشمل هذه المواقع الصين وهونغ كونغ وماكاو وجيران روسيا المقربين أرمينيا وتركيا وأوزبكستان، بحسب المذكرة.
وأوضح بيان صحفي مشترك للوزارات الثلاث، أن هذه المذكرة أول جهد جماعي لها لإعلام القطاع الخاص "باتجاهات الإنفاذ وتقديم التوجيه لمجتمع الأعمال، بشأن الامتثال للعقوبات الأمريكية وقوانين التصدير المعمول بها".
وذكرت الوزارات، إن على الشركات من جميع الأطياف، أن تتصرف بمسؤولية "من خلال تنفيذ ضوابط امتثال صارمة، وإلا فإنها أو شركائها التجاريين يخاطرون بأن يكونوا أهدافا لإجراءات تنظيمية أو إجراءات تنفيذية إدارية أو تحقيق جنائي".
وكانت هذه الدعوة بمثابة تحذير من إمكانية تحميل الشركات المسؤولية إذا تبين أن الأطراف التي تتعامل معها، واجهة لمساعدة جهود الرئيس فلاديمير بوتين الحربية، بحسب بلومبرغ التي أشارت إلى أن واشنطن فرضت في السابق، غرامات باهظة على منتهكي العقوبات حتى في الحالات التي جادلوا فيها بأنهم لم يقصدوا خرق القانون.
ومع دخول الحرب عامها الثاني، ركزت الولايات المتحدة بشكل كبير على تضييق الخناق على مساعي موسكو الالتفاف على العقوبات الغربية.
وسافر مسؤولو وزارة الخزانة إلى دول مثل تركيا والإمارات، للتأكيد على رسالة مفادها أن تقديم الدعم المادي للجهود الحربية الروسية سيؤدي إلى تقويض سياسة العقوبات الأمريكية، بحسب الوكالة.
وتتعقد مساعي محاصرة موسكو، وفق المصدر ذاته، عندما يتعلق الأمر بالصين، التي زادت شحناتها من أشباه الموصلات وأشكال التكنولوجيا الحيوية الأخرى إلى روسيا، فيما تبقى بكين أحد أكبر الشركاء التجاريين للولايات المتحدة ومنافسها الجيوسياسي الرئيسي.
ويحذر البيان المشترك من سلسلة من الإشارات التي توحي بأن شركة أو دولة تساعد في إمداد روسيا. ويبقى أبرزها إخفاء طبيعةصفقاتها، واستخدام شركات وهمية، وعدم التواجد على الإنترنت، واستعمال عناوين إلكترونية شخصية أو عناوين منازل وغيرها..
ولتجنب التعارض مع العقوبات الأمريكية، دعت المذكرة الشركات إلى فحص عملائها الحاليين والجدد والأطراف الأخرى في سلاسل التوريد، ومقارنتها بالأفراد والكيانات في القوائم السوداء للولايات المتحدة.
كما طالبت القطاع الخاص بمواكبة الإرشادات الصادرة عن إدارتي التجارة والخزانة بشكل منتظم والعمل على تعزيز برامجها للامتثال للعقوبات السارية.
في ظل نظام العولمة وتوسع الشركات تظهر التهديدات الأمريكية لخارقي العقوبات كصراع بدون جدوى مع الرياح.
الضرب في الماء
يشير خبراء اقتصاديون في العاصمة الألمانية برلين أن كل جهود واشنطن لثني التعامل مع موسكو محكوم عليها بالفشل حتى مع شركات التحالف لأن هذه الكيانات لا تريد سوى الربح.
جاء في تقرير نشر في واشنطن يوم 2 مارس 2023 يضغط الحلفاء الغربيون على الإمارات لوقف صادراتها من السلع الحيوية إلى روسيا، مع استمرار مساعيهم لتجفيف مصادر موسكو المالية لتقويض قدراتها على تمويل الحرب في أوكرانيا، بحسب تقرير لصحيفة "فاينانشيال تايمز".
وقام مسؤولون من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة، في الأسابيع الأخيرة، بزيارة الدولة الخليجية الثرية لتوضيح "النطاق الواسع لقيودهم التجارية على موسكو، والضغط على المسؤولين الإماراتيين لتضييق الخناق على الخرق المزعوم للعقوبات"، وفق ما كشفه أشخاص حضروا المباحثات.
وتشعر حكومة الولايات المتحدة بـ"القلق" من أن تصبح الإمارات مركزا لشحن عناصر مثل الإلكترونيات التي يمكن أن تستخدمها موسكو في المجالات العسكرية، بحسب الصحيفة التي تشير إلى أن الحلفاء الغربيين، أبدوا مخاوف مما يطلق عليه "إعادة التصدير"، حيث يتم توجيه البضائع عبر الإمارات لتجاوز القيود المفروضة، وفقا لأشخاص مطلعين على المناقشات.
وانضم جيمس أوبراين، رئيس مكتب تنسيق العقوبات الأمريكي إلى المبعوث المكلف بعقوبات الاتحاد الأوروبي ديفيد أوسوليفان، وديفيد ريد، مدير مديرية العقوبات في المملكة المتحدة، في زيارة إلى الإمارات، شهر فبراير 2023، لمناقشة الموضوع مع المسؤولين الإماراتيين.
وكشف مسؤول غربي للصحيفة: "مطلبنا الرئيسي للإمارات، هو وقف عمليات إعادة التصدير والاعتراف بأن إعادة التصدير هذه إشكالية"، مضيفا أن "المحادثات مستمرة".
وتضاعفت صادرات الأجزاء الإلكترونية من الإمارات إلى روسيا بأكثر من سبعة أضعاف عام 2022، منتقلة إلى ما يقرب من 283 مليون دولار، مما يجعل هذه الفئة أكبر نوع من المنتجات التي يتم شحنها نحو موسكو، وفقا لبيانات الجمارك الروسية التي حللتها مؤسسة "Free Russia".
كما تضاعفت صادرات الإمارات من الرقائق الإلكترونية نحو روسيا بـ15 مرة في عام 2022 مقارنة بالعام الذي سبق. وقفزت التجارة في هذه المنتجات إلى 24.3 مليون دولار عام 2022 من 1.6 مليون دولار في عام 2021.
كما صدرت الدولة الخليجية 158 طائرة بدون طيار إلى روسيا عام 202، بقيمة تقارب 600 ألف دولار، وفقا لبيانات الصحيفة.
وصرح ديفيد أوسوليفان للصحيفة، شهر فبراير أن الدول الغربية سجلت "ارتفاعات غير عادية" في حجم التبادل التجاري بين روسيا وبعض الدول التي لم يسميها.
ويراقب حلفاء أوكرانيا الغربيون، دول الإمارات وتركيا ودول آسيا الوسطى والقوقاز. وينظر إلى الدولة الخليجية على أنها وجهة مفضلة للأثرياء الروس الباحثين عن ملاذات آمنة لأصولهم.
ويريد المسؤولون الأمريكيون، بحسب الصحيفة، التأكيد على العواقب التي يحتمل أن تواجه الشركات المشاركة في تسهيل تدفق البضائع التي يمكن للجيش الروسي استخدامها في حربه على أوكرانيا.
وقال رئيس مكتب تنسيق العقوبات بوزارة الخارجية الأميركية، جيمس أوبراين، إن "جزءا من الرسالة الموجهة للقطاع الخاص - في أي من هذه البلدان - هو أنهم يلعبون الروليت".
وتصنف الإمارات نفسها كقوة إقليمية محايدة، وتوازن بين روابطها الأمنية والتاريخية المتينة مع الشركاء الغربيين، وعلاقات متزايدة مع القوى العسكرية والاقتصادية الأخرى مثل روسيا والصين.
ولطالما كانت دبي مركز إعادة التصدير الأبرز في المنطقة، ولا يزال ميناء جبل علي أحد أكبر مناطق إعادة الشحن في العالم. ويرى محللون أنه لو صعدت واشنطن ضغطها على الإمارات يمكن لهذه الأخيرة مع السعودية إلحاق أضرار هائلة بالغرب عبر قدرتها في مجال النفط.
تكنولوجيا أساسية للحرب
ذكرت وكالة "بلومبرغ" الأمريكية، في تقرير مطول نشر يوم السبت 4 مارس 2023، أن روسيا تغلبت على العقوبات الغربية لتأمين توريد المعالجات الرقمية "Chips" الرئيسية.
ونقلت عن دبلوماسي أوروبي كبير قوله إن روسيا نجحت بالالتفاف على عقوبات الاتحاد الأوروبي ومجموعة السبع لتأمين أشباه الموصلات الهامة وغيرها من التقنيات، في نفس الوقت الذي تسارع فيه لتصنيعها محليا.
وأضاف الدبلوماسي، الذي طلب عدم نشر اسمه، أن الواردات الروسية عادت بشكل عام إلى مستويات ما قبل الحرب لعام 2020، ويشير تحليل البيانات التجارية إلى أن المعالجات الرقمية المتقدمة وقطع إلكترونية أخرى مصنوعة في الاتحاد الأوروبي ودول حليفة أخرى، يتم شحنها إلى روسيا عبر دول ثالثة مثل تركيا والإمارات وكازاخستان.
وأشار الدبلوماسي إلى أن الشحنات من الصين إلى روسيا ارتفعت أيضا، حيث تلعب بكين دورا متزايد الأهمية في إمداد موسكو. ولم تفرض تلك الدول خارج الاتحاد الأوروبي عقوبات على روسيا نفسها، لكن معظمها نفى مرارا وتكرارا مساعدة الكرملين.
عزلة معكوسة
مع قرب انقضاء الربع الأول من سنة 2023 يجد الغرب نفسه ينعزل عمليا عن بقية دول العالم "والتصويت لصالحه في الأمم المتحدة ليس سوى مجاملة" حيث التعامل والتجارة مع روسيا على أعلى مستويات، والهيمنة الغربية على الاقتصاد العالمي في تقلص والدولار يفقد المزيد من التأثير عالميا.
يوم 4 مارس 2023 أكد البروفيسور في جامعة أكسفورد بيتر فرانكوبان بدء تدهور علاقات الغرب مع دول قسم الكرة الأرضية الجنوبي وتسريع تغيير النظام العالمي وتقارب موسكو وبكين.
وقال فرانكوبان في مقالة تحت عنوان "هل ينتصر بوتين؟"، نشرتها مجلة The Spectator البريطانية أن الصراع "كان لحظة واحدة من أكبر عمليات إعادة توزيع الثروة في التاريخ، ما سمح للبلدان التي لديها احتياطيات كبيرة من موارد الطاقة بتحقيق أرباح فائقة، وأدى بدوره إلى تسريع التغيير في النظام العالمي".
ويشير البروفيسور إلى أن كلا من الصراع نفسه والطريقة التي تعاملت بها الدول الغربية معه "خلقت فرصا هائلة للتعاون الصيني - الروسي".
وبحسب رأيه، فإن البلدين متحدان من خلال "التأكيد المشترك على أهمية الاستقرار والفكرة التي يروجانها بأن الغرب هو الذي يقوم بالتدمير، وأنه لا يمكن التنبؤ به وهو غير مستقر".
وأردف أن خطاب موسكو المناهض لأمريكا يتردد في المستعمراتالغربية السابقة في كل قارات العالم. وذكر فرانكوبان إن الدول التي "لطالما شككت في القوة الأمريكية" تنجذب أيضا إلى صورة تعددية الأقطاب، حيث "لن تكون الولايات المتحدة شرطي العالم بعد الآن".
واعتبر بروفيسور جامعة أكسفورد، أن العمود الفقري للتحالف الغربي لا يزال قويا، "لكنه فشل في حشد دعم العديد من الدول التي رفضت الانحياز إلى أي طرف".
مفترق طرق
جاء في تحليل نشرته صحيفة الاندبندنت البريطانية يوم الأحد 27 فبراير 2023: أدى سقوط الاتحاد السوفياتي وتفكك حلف "وارسو" وانضمام أغلب أعضائه، باستثناء روسيا إلى حلف شمال الأطلسي "ناتو" إلى تراجع حماس الولايات المتحدة لدعم الحلف، وظهور دعوات عديدة إلى حل الحلف بعد تلاشي عدوه الأول وتراجع التزام أعضائه الثلاثين بالإنفاق الدفاعي على الحلف، لكن وصول الرئيس الأمريكي جو بايدن، الذي يعد من أشد مؤيدي "الناتو"، إلى الرئاسة أعاد التفاؤل بإحياء العلاقات عبر الأطلسي وتعزيز الحلف الذي يصفه بأنه "أهم تحالف عسكري في تاريخ العالم"، بيد أن هذا الاتجاه تعرض الآن إلى اختبار صعب مع الحرب الروسية في أوكرانيا الذي يمثل ضربة غير مسبوقة لطموحات الحلف واستراتيجيته للتوسع شرقا، أو على الأقل ردع خصومه عن تحدي مصالحه وتهديد شركائه.
يرى بعض المراقبين أن حلف شمال الأطلسي يقف أمام مفترق طرق في ظل تمسكه بسياسة التوسع شرقا في مقابل تنامي التهديدات الروسية وسط إخفاقه في ردع الهجوم الروسي على حليف محتمل، بينما يذهب الآخر إلى أن الحرب الروسية على أوكرانيا تمثل فرصة لتمدد الحلف والتكشير عن أنيابه، لا سيما بعد قراره نشر قواته للرد السريع للمرة الأولى في مسعى لتعزيز جناحه الشرقي بمواجهة الاجتياح الروسي لأوكرانيا.
لكن انغماس الحلف في كثير من الأزمات كشف عن هشاشته، من خلال انسحابات متكررة وعجولة من العراق وأفغانستان وليبيا وغيرها، وكأنه لم يعد قادرا على تنفيذ المهام المناطة به، فتحول منذ أكثر من 5 سنوات إلى مزود للأمن الناعم المتمثل في التدريب والاستشارات والاستخبارات، فوجد ضالته في الدول التي تتبع الناتو ولا تنتهي علاقتها بالانضمام كعضو به، مثل بعض دول الخليج العربي وشرق أوروبا، فركز على هذا المجال وترك شأن الدول المنضمة إليه".
ما حدث خلال السنوات الأخيرة أدى إلى تعمق الخلافات بين الأعضاء مثل الخلاف الفرنسي - التركي والتركي - اليوناني وغيره، وزاد عن هذا الانكشاف النظر إلى الحلف على أنه عبء على الولايات المتحدة الأمريكية بنفسها والتهديد بالانسحاب منه أو تخفيض مساهمتها، حيث تدفع ما يوازي 4.2 في المئة من دخلها القومي لتمويل الحلف، بينما مساهمة ألمانيا لا تصل إلى 1 في المئة من دخلها، ما أدى إلى ضعف حماس والتزام الولايات المتحدة تجاه الناتو".
تفكك من الداخل
تتزايد اصوات السياسيين في الغرب المعارضين لمواصلة حرب أوكرانيا مؤكدين صعوبة التمسك بأمل الحاق هزيمة بموسكو خاصة وأنها تتمتع بدعم غير محدود من طرف بكين، ويشير هؤلاء إلى أن القوى الغربية وفي مقدمتها أمريكا في انحدار ويجب عليها البحث عن مخرج ملائم حتى لا يكون اندحارها مدويا.
وصف الفيلسوف والمؤرخ الأمريكي نعوم تشومسكي تصريحات نائبة الرئيس الأمريكي كامالا هاريس حول أخطار الحروب بـ"الطرفة".
وأوضح تشومسكي عبر قناة "In Context" أن تصريحات هاريس خلال مؤتمر الأمن الدولي في ميونيخ والموجهة إلى الدول الرافضة للمشاركة في العقوبات الغربية ضد روسيا، وإشارتها إلى أن مهاجمة بلد لبلد آخر قد تعرض العالم بأسره للخطر، مثيرة للسخرية وتذكر بـ"الأساطير اليونانية القديمة".
وأضاف تشومسكي أن الولايات المتحدة هي آخر دولة يحق لها أن تتحدث عن أخطار الحروب وتوجيه أصابع الاتهام إلى البلدان المسالمة مثل الهند وإندونيسيا والبرازيل وجنوب أفريقيا وكولومبيا، وغيرها من دول أمريكا اللاتينية، الذين أجابوها بكل أدب "هذا الكلام لا ينطبق علينا".
وأشار تشومسكي إلى أن دول الجنوب هذه أكدت مرارا أن الأزمة الأوكرانية لا تعنيها، وأنها بخلاف غيرها من الدول تسعى إلى إحلال السلام لا إلى التصعيد ونثر بذور الكراهية، مشددا على أن الولايات المتحدة باتت معزولة خارج نطاق الدول الناطقة بالإنجليزية، وموضحا أن تأييد سياساتها ودعمها لا يتجاوز نطاق النخب السياسية الأوروبية التي لا تعبر عن آراء شعوبها، فلطالما عبرت هذه الشعوب بأغلبية ساحقة تجاوزت الـ 90 في المئة عن رفضها للسياسات الغربية، وتحديدا العقوبات المفروضة ضد روسيا.
وكانت نائبة الرئيس الأمريكي كامالا هاريس قد قالت إن روسيا باتت أضعف بعد عام من الحرب في أوكرانيا، مشددة على أن واشنطن ستدعم كييف مهما طال الوقت.
وأوضحت هاريس خلال كلمتها أمام مؤتمر ميونيخ للأمن في 18فبراير 2023 أنه "كما قال الرئيس جو بايدن فإن واشنطن ستدعم كييف مهما طال الوقت ولن نتخلى عن أوكرانيا"، مضيفة أن "المصالح الأخلاقية والإستراتيجية هي سبب اهتمام شعوب العالم بأوكرانيا، وكانت هناك هجمات على قيمنا وإنسانيتنا المشتركة".
وذكرت نائبة الرئيس الأمريكي أنه "إذا نجحت روسيا في حربها على أوكرانيا فسيشجع ذلك دولاً أخرى على القيام بانتهاكات مماثلة".
كما أعربت عن قلق الإدارة الأمريكية من التقارب الروسي - الصيني بعد الحرب في أوكرانيا، مشيرة في المقابل إلى أن "حلف الناتو بات أقوى من أي وقت مضى".
الحل الكوري
على ضوء فشل الغرب في اضعاف قدرات الكرملين الاقتصادية والعسكرية ذكر موقع Responsible Statecraft الأمريكي في تقرير نشر في فاتح شهر فبراير 2023: إنه يجب أن يبدأ القادة والزعماء في البحث عن سبل حقيقية لإيقاف هذا النزيف من الخسائر البشرية. وقد يكون "السيناريو الكوري" أحسن فرصة لحقن دماء الشعب الأوكراني وأيسر سبيل للعودة إلى الاستقرار العالمي. فهذا المسار يتضمن إيقاف القتال من الجانبين بهدنة فورية على طول خط التماس الحالي، وتنحية معظم العقبات التي تعترض طريق السلام.
وقعت "اتفاقية الهدنة الكورية" بين جمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية "الشمالية" والولايات المتحدة بوساطة من الأمم المتحدة في 27 يوليو 1953، وتضمنت "إيقافا كاملا لجميع الأعمال العدائية بين القوات المسلحة للجانبين"، وهي اتفاقية لوقف إطلاق النار وليست معاهدة سلام، وقد تمخض عنها إقرار منطقة منزوعة السلاح بين الدولتين وإعادة أسرى الحرب إلى أوطانهم.
يختلف الخبراء بين من يقول إن الاستيلاء الروسي على البلدات المحيطة بجبهة باخموت تمهيد لهجوم روسي على هذه الجبهة، وثان يذهب إلى أن استخدام قوات فاغنر يدل على أنها تدابير لإنهاك القوات المسلحة الأوكرانية والتمهيد لهجوم روسي أكبر على الأجنحة، وثالث يرى أن الهجوم الروسي قد يأتي عبر بيلاروسيا أو من الجنوب على طول نهر دنيبر باتجاه زابوريجيا.
مع ذلك، لا يمكن أن نستبعد احتمال أن يكون الجيش الروسي قد اختار أكثر الأهداف تحفظا وأقربها إلى إمكان التحقق على المدى القريب، وهو السعي تدريجيا ومنهجيا إلى تأمين المناطق التي ضمها في دونباس.
من جهة أخرى، فإن النقاشات المحتدمة في الصحافة الغربية حول إمداد أوكرانيا بالدبابات، وما أثارته هذه المسألة من شقاق في العلاقات الأمريكية الألمانية، ربما تنطوي على أهمية رمزية وسياسية تفوق الأهمية المفترضة للمزاعم بأن تسليم الدبابات يعني تحولا "يغير مسار الأمور" في مساعي الغرب المتعلقة بتعزيز القوات الأوكرانية. فقد يحتاج الأمر إلى عدة أشهر قبل ظهور الدبابات الأمريكية في البلاد لأسباب كثيرة، منها التدريبات المكثفة المطلوبة.
يقول الموقع الأمريكي إن ثمة أسبابا كثيرة للشك في أن إمداد أوكرانيا بالدبابات، ومنها دبابات ليوبارد الألمانية، سيفضي إلى تغيير مسار المعركة تغييرا كبيرا. ويكفي هنا أن نستحضر أن معظم خبراء الدراسات الاستراتيجية كانوا يشككون منذ عام واحد في أهمية الدبابات بالجيوش الحديثة، بل نفى بعضهم أي قيمة لها في المستقبل، بالاستناد إلى انتشار الطائرات المسيرة والصواريخ المحمولة على الكتف.
في غضون ذلك، لم تفتر نيران المدفعية الروسية، بل زادت ضرباتها دقة بعد الاستعانة بأدوات الرصد التي توفرها الطائرات المسيرة. وبرهنت طائرات الكاميكازي، مثل لانسيت الروسية، على نجاعة مشاركتها. ولا تزال طائرات الهليكوبتر الهجومية والطائرات ذات الأجنحة الثابتة تعمل على طول الجبهة.
يشكك بعض الخبراء أيضا في فاعلية دبابات الناتو، لأوزانها الثقيلة وقلة ملاءمتها للأراضي الطينية في الربيع الأوكراني، فضلا عن صعوبة الصيانة والتكاليف العالية للوقود.
يقول موقع Responsible Statecraft إنه قبل سبعين عاما، شهدت شبه الجزيرة الكورية أنهارا مماثلة من الدماء والأرواح المزهقة بلا داع ولا طائل، وقتل عشرات الآلاف من الرجال في خنادق القتال. واستعان الجانبان بالقاذفات الثقيلة والمدفعية عالية التقنية، ومع ذلك لم تتقدم الخطوط الأمامية للقتال تقدما يعتد به خلال عامين من الحرب. وتعددت التهديدات النووية. وطالت الحرب بعض الوقت حتى اقتنع الجانب الشيوعي بأنها لن تجدي نفعا. وأراد الغرب أيضا آنذاك "نظاما قائما على القواعد"، لكن العالم أكثر اضطرابا من الانصياع لهذا المفهوم الصارم، وما زالت الحال كذلك اليوم.
ترشح الرئيس الأمريكي دوايت أيزنهاور للرئاسة في خريف 1952، وطالب خلال حملته بإنهاء الحرب الكورية. ولما كان أيزنهاور قائدا سابقا لجيش الولايات المتحدة وقوات الحلفاء خلال الحرب العالمية الثانية، فقد كان على دراية كاملة بالآثار المدمرة للحرب ومعاناة الواقعين فيها، وأدرك أنه لا غنى عن إنهاء هذه النزاع إنهاء تاما.
على الرغم من الأزمات المتوالية وتعاقب الاضطرابات بين العالم الغربي والعالم الشيوعي، فقد وقف أيزنهاور في صف السلام والتسوية. ولم يكن الداعي إلى هذا الموقف داعيا أيديولوجيا، بل كانت أسباب براغماتية واقعية وميلا لدى أيزنهاور إلى التوجه السلمي.
والآن، لا شيء يمنع إنهاء الحرب في أوكرانيا بالطريقة ذاتها التي أُنهيت بها الحرب الكورية. وفي ظل اقتراب الذكرى السبعين للهدنة بين الكوريتين في 27 يوليو 2023، فإن بايدن لديه فرصة سانحة ليضطلع بدور "صانع السلام".
عمر نجيب