نواصل رحلة “كشف الأضاليل وفضح الأباطيل”، ووصلنا إلى المقال السادس ، وأصبحنا نقترب أكثر من محطة المكاشفة و المصارحة و لما لا المصالحة التي نرى أنها قاب قوسين أو أدنى، و لا تحتاج إلا لبعض الحكمة و البرغماتية، و أشكر أستاذي الفاضل الدكتور عميمور الذي يتقن بفعالية فن الحوار، و أحيي فيه حرصه الشديد على تقريب وجهات النظر بين الشعبين، بل يملك القدرة على الدفاع عن وجهة نظر بلاده بأسلوب سلس و موضوعي و عقلاني، تفرض على القارئ و المتلقي متابعة أطراف الحديث بسلاسة ، و الإطلاع على وجهة نظر مغايرة و إخضاعها للمنطق و للحجة و البرهان …
و أنا أتابع تعليقات القراء على مقال الدكتور محي الدين أو مقالاتي، أستخلص أن هذا الطريق -الذي سلكناه دون سابق ترتيب أو إتفاق بيني و بين الدكتور عميمور – قد أنتج و أفرز نتائج إيجابية و أثمر ثمار محمودة، فعلى الأقل بدأ الجدال والحوار بين القراء و الكاتبين، يتقدم تدريجيا نحو تغليب المنطق و العقل، و تجنب قدر الامكان تكرار قصاصات إخبارية أو تاريخية أو رسمية تحتاج لكثير من التدقيق والتمحيص..
و قد حرص الدكتور محي الدين مشكورا في مقال ” المغرب العربي: كشف الأضاليل وفضح الأباطيل” أن يرد على بعض ما طرحته في المقال السابق “محاصرة فيروس التفرقة و التفتيت لن يتحقق إلا بكشف الأضاليل و دحض الأباطيل ..”، و على العموم نتفق في ماهو أساسي و جوهري و نختلف في بعض الجزئيات، و من ذلك الدواعي الأمنية التي جعلت السلطات الجزائرية ترفض منح ترخيص لطائرة المنتخب المغربي، و رغم أني لم أقتنع بالتبريرات التي طرحها النظام الجزائري و كما ساقها الدكتور عميمور في مقاله، و إن كنت أتفق معه أن الذباب الإلكتروني وجد فرصة لتأجيج الخلافـ …
لكن أكثر ما أثار انتباهي في المقال أعلاه قول الدكتور : ” وكان الرئيس بومدين والملك الحسن في بداية السبعينيات أكثر ذكاء وحكمة وبراغماتية، وهكذا تجاوب العاهل المغربي مع تعبير الرئيس الجزائري الذي قال: نرسم الحدود لمَحْو الحدود، ومن هنا تم الاتفاق على ترسيم الحدود الموروثة بين البلدين مع خلق مجالات التعاون المشترك الذي يُحوّل “أسوار” الحدود إلى “جسور” تعاون وتفاهم ووئام، ومن هنا كان إدماج مشروع “غار جبيلات” في الاتفاقية، حيث ينقل الحديد المستخرج من المنجم الجزائري في الجنوب عبر التراب المغربي إلى شمال المملكة حيث يقام معمل للحديد والصلب يعمل به أبناء البلدين، وبأغلبية مغربية بحكم الموقع الجغرافي، ويفتح المجال أمام صناعة مُصَنِّعة تفيد الشعبين، ويمكن أن يكون من النتائج قيام مؤسسات صناعية توجد في كل بلدان المغرب على غرار مؤسسة “إير- بوس” ( AIR BUS) حيث تصنع أجزاء الطائرة في أكثر من بلد أوربي، ويستفيد الجميع من فائض القيمة ومحاربة البطالة وحماية العملة الوطنية والحفاظ على العملة الأجنبية..”
و لعل هذه الحكمة و البرغماتية هي التي عبرت عنها في مقال ” الاتحاد المغاربي: الشعوب المغاربية في أمس الحاجة لحكمة وبرغماتية ” دنغ شياوبينغ” …و من خلال مقالاتي أدعو لتغليب البرغماتية و العقلانية الاقتصادية كمرحلة أولى، لأن شعوب المنطقة في حاجة للتنمية و لتوسيع خياراتها…
وإذا كان الدكتور عميمور قد أشاد في نهاية مقاله بالأستاذ بنكيران ، و موقفه من التطبيع فاني أوجه انتباهه إلى أن إشادته بهذا الرجل تحتاج لبعض التدقيق، لأننا كمغاربة لن ننسنى أن اتفاق التوقيع قد وقع عليه رئيس الحكومة وأمين عام حزب العدالة و التنمية في جينه السيد سعد الدين العثماني، و الذي يترأس السيد بنكيران أمانته بعد انتخابات 8 شتنبر2021، فالإشادة ينبغي ان تتجه لعموم الشعب المغربي الذي اسقط هذا الحزب في انتخابات 8 شتنبر، رغم ان لنا ملاحظات كبيرة على هذه الانتخابات و قد دعوت شخصيا لمقاطعتها، و يمكن للدكتور محي الدين العودة لمقالاتي بهذا المنبر والتي وجهت فيها نقدا شديدا لحزب العدالة وللسيد سعد الدين العثماني بعد توقيعه على الاتفاق المشؤوم، مع العلم أن لي صداقة –قديمة- للسيد سعد الدين العثماني منذ حراك 20فبراية 2011، و أكن له إحتراما شديدا لأن الرجل صادق ورجل علم و ليس بانتهازي ولا يصلح للسياسة “ودروبها العفنة”، و لن ننسنى أن الرجل عندما تم تعيينه وزير للخارجية بعد 2011 قام بزيارة للجزائر كأول بلد يزوره..
وليسمح لي الدكتور على هذه الملاحظات الشكلية ، و سأحاول في هذا المقال استكمال نفس رحلة المكاشفة و المصارحة، خاصة و أن الدكتور أثار موضوع الحدود الموروثة، وأنا في هذا المقال لن أدافع عن هذا الرأي أو ذاك ، وإنما سأطرح حقائق تاريخية، وسأعتمد على محطة مفصلية الحدود الموروثة عن الاستعمار، والاستعمار الذي يعنينا هو الاستعمار الأوربي للمنطقة المغاربية، وما كان لهذا الاستعمار أن ينجح في احتلال الجزائر وباقي البلدان المغاربية لولا ضعف سلطة الإمبراطورية العثمانية و ضعف الدولة المغربية، على إعتبار أن المغرب لم يخضع للسلطة العثمانية..
و نقطة البدء في فك شفرة هذا الخلاف التاريخي يبدأ من معركة إيسلي و ما ترتب عنها من معاهدات.. بل ويمتد إلى لحظة ما قبل الاحتلال الفرنسي للجزائر..
أولا – معركة إيسلي ومخرجاتها :
معركة إيسلي قامت بالقرب من مدينة وجدة بين جيوش المغرب وفرنسا في 14 غشت 1844 م بسبب مساعدة السلطان المغربي المولى عبد الرحمن (1822 -1859) للمقاومة الجزائرية ضد فرنسا واحتضانه للأمير عبد القادر، الشيء الذي دفع الفرنسيين إلى مهاجمة المغرب عن طريق ضرب ميناء طنجة حيث أسقطت ما يزيد عن 155 قتيل ثم ميناء تطوان ثم ميناء أصيلة. انتهت المعركة بانتصار الفرنسيين وفرضهم شروطا قاسية على المغرب. تمثلت هذه الشروط في استيلاء فرنسا على بعض الأراضي المغربية عقابا له، وفرضت فرنسا غرامة مالية على المغرب ومنعها المغاربة من تقديم الدعم للجزائر. و من تبعات معركة إيسلي معاهدة طنجة واتفاقية للّا مغنية:
– معاهدة طنجة Traité de Tanger وُقِّعت في 10سبتمبر 1844 حيث اعترف فيها المغرب رسميا بالجزائر كجزء من الامبراطورية الفرنسية، إذ وافق المغرب فيها على اعتقال وتجريم الأمير عبد القادر، وتخفيض حجم حاميتها في وجدة، وتأسيس لجنة لترسيم التحدود.
– اتفاقية للا مغنية Traité de Lalla maghnia وقعت سنة 18 مارس 1845م هي تقييد إلزامي للمملكة المغربية بعدم دعم المجاهدين الجزائريين. يأتي هذا الإلزام بعد تعنت من السلطان المغربي ضد مطالبة فرنسا المتكرر له بالكف عن دعم المجاهدين ضدها بالجزائر.
و قد وقع المعاهدة عن الجانب المغربي عامل وجدة احميدة بن علي الشجعي وعن الجانب الفرنسي الجنرال الكونت دو لا ري.
و تضمنت المعاهدة 7 شروط. وكان من أهم بنودها رسم الحدود بين الدولة المغربية ومستعمرة الجزائر الفرنسية. فتم الاتفاق على أن تمتد الحدود من قلعة عجرود ـ-السعيدية حاليا – ـإلى ثنية الساسي،(في طول يبلغ حوالي 140 كلم من الساحل إلى ثنية الساسي ) في حين بقيت المناطق الجنوبية دون تحديد للحدود بدعوى أنها أراضي خالية لا تحتاج إلى رسم وتوضيح للحدود.
و قد تعمدت فرنسا عدم تحديد الحدود الجنوبية لتسهيل التوغل داخل الأراضي المغربية. كما فقد المغرب بموجب معاهدة مغنية (كما يشير إلى ذلك الشرط 5) جزءا من أراضيه (الصحراء الشرقية) التي ألحقت بالجزائر…
ثانيا – ثنائية الحدود الحقة و الحدود الموروثة عن الاستعمار
أشرنا أعلاه إلى معركة إيسلي و مخرجاتها و الحدود التي رسمتها و التي أصبحت فيما بعد تعرف ب ” الحدود الموروثة عن الاستعمار، حدود تم رسمها بقلم أحمر و مسطرة من قبل المستعمر الذي سفك دماء و هتك أعراض و نهب ثروات البلدان المستعمرة ، و لذلك ينبغي تكريمه بتكريم حدوده؟!
و للأسف هذه حقائق تاريخية مدونة و موثقة و يصعب القفز عنها ، و التركيز كثيرا عن الحدود الموروثة عن الاستعمار ، يطرح أكثر من استفهام ، بالقدر الذي يثيره مفهوم ” الحدود الحقة” فقد صرح وزير الخارجية الجزائري “رمطان لعمامرة” بتاريخ 12-11-2021 ، إلى أن ” النظام المغربي لديه سياسة توسعية مكرسة في الدستور تحت تسمية “الحدود الحقة” وقبل “الصحراء الغربية”، سبق وأن طالب بمناطق جزائرية كما رفض الاعتراف بالجمهورية الموريتانية الإسلامية ” وأوضح أن المغرب “ذهب بعيدا في محاولته لتكريس الأمر الواقع “الاستعماري في الصحراء الغربية ” والمغرب مع الأسف الشديد تدفعه سياسة توسعية مكرسة في دستور المملكة الذي يتحدث عن الحدود الحقة وليس الحدود القانونية أو المعترف بها دوليا…وشدد لعمامرة على أن هذا يعني أن الجانب المغربي هو وحده من يقرر أين تبدأ وأين تنتهي الحدود..” وتصريح وزير الخارجية الجزائري جانب الصواب، و أهمل كثيرا من الحقائق التاريخية التي ينبغي العودة إليها من باب الموضوعية و الشفافية ..حقا نحن في حاجة إلى سياسة توسعية لكن في سياق الوحدة و تجميع المفتت، تحت قيادة واحدة جزائرية أو مغربية او تونسية المهم أن تكون معبرة عن إرادة الشعوب المغاربية، و في ذلك فليتنافس المتنافسون…
والغرض من طرح هذا الموضوع ليس إثارة الخلاف بين البلدين والشعبين الشقيقين، وإنما الغاية والهدف وضع الأصبع بصدق وشفافية على مكامن الداء، وعلى المشكل الحقيقي الذي تعاني منه الأمة ككل.. فعلينا ان نتفق جميعا كمسلمين أن الحدود الحقة ليست هي الحدود القائمة والموروثة عن المستعمر، فقبل تغلغل الغرب الإستعماري في العالم الإسلامي مستغلا ضعف الإمبراطورية العثمانية، كانت كل هذه الدول تابعة لخليفة المسلمين، باستثناء المغرب الذي ظل محتفظا باستقلاله عن الإمبراطورية العثمانية و هذه حقيقة تاريخية لايمكن إنكارها…
والجدير بالذكر، أن فكرة الحدود السياسية دخلت إلى الدول المغاربية مع الوجود العثماني في غرب البحر الأبيض المتوسط.. وبالتالي فإن أتراك الجزائر يتحملون جزءا من المسؤولية التاريخية في إدخال فكرة الحدود السياسية بين الدول المغاربية، ولعل حكام المغرب في هذا التاريخ أقروا بوجود حدود فاصلة بين المغرب والسلطة العثمانية…ففي عهد الدولة السعدية طفت بوادر الخلاف حول الحدود، عندما تم الاعتراف على بقاء تلمسان تحت النفوذ الجزائري ووجدة تحت النفوذ المغربي. كما أن “أحمد المنصور” نظم مجموعة من الحملات على واحات توات وفكيك نظرا لأهميتها التجارية، إلا أنها كانت تجر المغرب في الكثير من الأحيان إلى اصطدامات مع أتراك الجزائر نظرا لقربها من الحدود المغربية الجزائرية.
أما في عهد العلويين الأوائل، فقد ركزت حملاتهم على الجهات الجنوبية الشرقية من المغرب باتجاه المنطقة الغربية “لإيالة” الجزائر، في وقت كانت فيه الدولة العثمانية تعرف تراجعا وفقدانا لقدرتها على إحكام قبضتها على إيالاتها في شمال افريقيا بما في ذلك الجزائر، وقد وصل محمد بن الشريف إلى الأغواط وعين ماضي والغاسول…وأمام الهزائم المتتالية لأتراك الجزائر، اضطروا للدخول في تسوية سياسية مع الجانب المغربي، فتم إرسال بعض علماء الجزائر سنة 1654 إلى “محمد بن الشريف” وكانت نتيجة المقابلة، هي انتزاع أول تعهد مكتوب يقضى بتحديد الحدود بين المغرب والجزائر العثمانية، وهو “وادي تافنا”…
هذه حقائق تاريخية لابد من إعادة التذكير بها، فليس من العيب الحديث عن الحدود و التاريخ، فمن لا ماضي له لا حاضر و لا مستقبل له، و كم نود العودة إلى الحدود التاريخية، و إلى تأسيس فيدرالية إسلامية و لو في حدود الدول المغاربية، و العمل على إسقاط حدود المستعمر الفرنسي و الإسباني و البريطاني و الإيطالي بشكل نهائي، خدمة للإنسان و المواطن المغاربي و حقه في مستقبل يضمن كرامته و عزته و استقلاله الاقتصادي و السياسي، و يحقق أمنه الغذائي و الدوائي والدفاعي و التنموي…
و بنظرنا، الحدود القائمة حاليا بين بلدان العالم العربي و الإسلامي ليست مقدسة، و ينبغي العمل على العودة لما قبل الحدود الموروثة عن الحقبة الاستعمارية الغربية، و العمل على إذابة جمودها بل و إزالتها أمام حركة الأشخاص و السلع ورؤوس الأموال فالمستقبل مع الوحدة لا الفرقة.. و صدق رب العالمين الذي قال في محكم كتابه: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ )( آل عمران:103)..
فالحدود التي صنعها المستعمر الغربي حدود باطلة وزاهقة حتما، لكن الأمر الخطير هو أن “الحدود الباطلة والزائفة” انتقلت من حقل الجغرافيا وأصبحت حدود ذهنية تستوطن كثيرا من الأنفس والذهنيات، و التي صار أفقها ضيقا ومحدودا، و إنتماءها مقزما.. بل و النموذج التنموي الذي أنتجه المستعمر الغربي أصبح متجاوزا و ثبت أنه لا يصلح للإستمرار و يعيش لحظة إحتضار ..لذلك، علينا البحث في كيفية تجاور “أسوار و أشواك ” الحدود الحقة و المروثة” إلى “جسور” تعاون وتفاهم ووئام.. و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون ..
دكتور طارق ليساوي إعلامي وأكاديمي متخصص في الاقتصاد الصيني و الشرق آسيوي، أستاذ العلوم السياسية و السياسات العامة