تابعت تعليقات القراء الأفاضل على مقال ” نقاش مفتوح مع القراء : انتهى زمن الهزل” و أجد ان هناك ردود فعل متابينة، البعض مع و الاخر ضد ، و ذلك أمر طبيعي و عادي..لكن كلا الطرفين الذين لهما موقف هم من القلة ، لكن الغالبية لا موقف لها إختارت الحياد او الصمت ، و هذا الصمت ليس في مصلحتها..
و بعيدا عن المقال نجد أن هذا السلوك يمكن تعميمه، خاصة و أن الظرفية و المتغيرات الحالية و المستقبلية تقتضي موقفا واضحا للخروج من حالة التيه و دورة الأزمات ، و استطيع ان أشبه موقف الغالبية بموقف أهل ” الأعراف”، و اسميتها ب” أهل الأعراف” لأن الله تعالى ذكرهم في سورة الأعراف …
و الأعراف منطقة في المنتصف بين الجنة و النار ، يخبرنا الله تعالى في محكم كتابه بأنه تعالى فصل أهل الجنة عن أهل النار {بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} .. [آية 13: سورة الحديد]و قوله تعالى : {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ } [آية 46 : سورة الأعراف]
في هذا “السور العظيم ” يقف أصحاب الأعراف، على شُرفة ينظرون إلى أهل الجنة في اليمين، وأهل النار في اليسار..وهم قادرين على التمييز بين أهل الجنة المُنَعّمين وأهل النار المُعذَبين بمجرد النظر إليهم، يميزونهم بعلامات لا تخطئها العين، علامات تدل على النعيم و اخرى على العذاب {وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ}.
و أصحاب الأعراف هُم أشخاص لما وُضِعت حسناتهم وسيئاتهم في الميزان تساوت الحسنات بالسيئات، فلا هُم يستحقون العقاب بالنار ولا هُم أهلٌ لدخول الجنة.. وبالتالي أصبح موقفهم مُحايد على سور الأعراف، ومَصيرهم متروك لمشيئة الله، إن شاء رَحمهم فأدخلهم الجنة، وإن شاء عاقبهم بذنوبهم فأدخلهم النار…
و في سورة الأعراف تم ذكر قصة أصحاب السبت، و التي تلخص حال كثير من الناس في هذا الزمان، و خاصة ممن إختاروا الصمت و الانسحاب السلبي ، و أجد من الجيد استحضار قصة القرية التي تحايل بعض أهلها على أمر الله بأن وضعوا شباكهم ونصبوا الفخاخ للأسماك يوم الجمعة، و بداية من لحظة التحايل إلى التنفيد و نزول العقاب الرباني انقسم أهل القرية إلى ثلاث فئات :
الأولى: عملت على إيجاد و ابتكار الأدوات و الأليات للتحايل على أمر الله تعالى ، وقاموا بنصب الفخاخ للأسماك والابقاء عليها في الماء حتى صباح الأحد..
الثانية: استنكرت ما فعلته الفرقة الأولى ونهتهم عنه، وامتثلت لأمر الله تعالى وأدت واجبها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثالثة: فئة لم تعصِ الله ولم تفعل ما فعلت الفرقة الأولى، لكنها سكتت عن المعصية ولم تنهَ عنها، بل وحاولت اسكات الدعاة والمصلحين من الفرقة الثانية وإحباط همتهم في الدعوة : ( وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أو مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا)، هذه الفئة المثبّطة من أنصار ” لا فائدة و لا جدوى ” قد غفلت عن حقيقة أن الدعوة إلى الله تعالى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي واجب وفريضة اسلامية بغض النظر عن النتائج و المخرجات فالنصر و التمكين بيد الله تعالى المعز المذل …
نأمل ألا نكون من الفئة الأولى أو الثالثة و أن يجعلنا الله تعالى من أهل الطائفة الوسطى و أهل الطائفة المنصورة و مع أهل الحق، و حذاري أخي القارئ الكريم و أختي القارئة الكريمة أن تكون –ي- من أهل الطائفة الثالثة و هم من سميتهم ب”أهل الأعراف”…
و هذا التقسيم الرباني المصدر، يمكن إسقاطه على حالنا اليوم ، و لا سيما حالة الصراع بين الحق و الباطل ، العدل و الجور..نعيش في معاشنا اليومي-إن على المستوى الفردي و الجماعي- في قلب هذه المعركة ، و ليس فقط في عالمنا العربي او الإسلامي و إنما هي معركة كونية ، معركة الإنسانية ككل التي تعيش في مفترق طرق ، و تعيش حالة من الحيرة و “غبش” الرؤية، و أي طريق ينبغي سلكه..
و الظروف الحالية و السياسات العامة المتبعة لن تقود إلا إلى المزيد من التدهور و النزول إلى القاع، و الأمل يظل – بنظري- في حدوث معجزة ربانية تخرج الشعوب العربية من سباتها العميق، و تخرجها من حالة التيه إلى التكتل و توحيد الجهود و تجاوز الخلافات الجزئية و التركيز على المشترك، و نقطة الإلتقاء التي لا يختلف عليها إثنين هو فساد الأنظمة الحاكمة و غياب الحكم الرشيد و إنعدام أي رؤية تنموية أو سياسة إصلاحية ذات جدوى، و التركيز على الأقوال لا الأفعال..
كما أصبح من الواجب والضروري، أن يسهم أهل العلم من المسلمين، في توضيح وتبسيط ملامح الفكرة الإسلامية لعموم المسلمين، وتحديد الموقـف الإسـلامي، من القضايا السياسية والاقتصادية و الاجتماعية…والغاية الوصول إلى تطبيق متدرج للمنهج الاسلامي في كل مناحي الحياة و بناء مجتمعات إسلامية بالفعل و العمل، لا بالأقوال و الشعارات، لأن ذلك هو البديل العملي للخروج من الغثائية، ومن دائرة التيه في التطبيق و الممارسة و محاكاة الغير، خاصة و أن المنهج الذي ندعوا له منهج رباني سماته العدل و الكمال…فالفكر الاقتصادي و التنموي في الإسلام جعل من الإنسان غاية وسيلة التنمية، لذلك اهتم الإسلام بإعداده للقيام بمهمة “الاستخلاف” و عمارة الأرض، و التي تعد فريضة ربانية و إمتداد أوسع و أشمل لمفهوم العبادة و العبودية لله تعالى… فقد قدر الله عز وجل بمشيئته أن يكون الإنسان مستخلفا في الأرض وقدمه في ذلك على سائر خلقه بما في ذلك الملائكة، فكانت تلك بداية التقدير له، بوضعه محورا لما سيجري على الأرض من أحداث جسام، كان على رأسها اصطفاء الرسل و الأنبياء الذين سيكونون حلقة الوصل بين الله -عز وجل ” المستخلِف”، والإنسان” المستخلَف”..
و بالعودة إلى دورة الأزمات نجد أن لا أحد من البلدان بعيد عن تأثير متتالية الأزمات ، فعالمية الحضارة الغربية أو “العولمة” بقدر ما لها إيجابيات لها سلبيات، و في البلدان الهشة و الضعيفة سياسيا و اقتصاديا لا تجني من العولمة إلى الطالح، أما الصالح فمن نصيب البلدان والحكومات القوية، بل حتى في هذه البلدان القوية و الغنية، فإن الثروة تحتكر في أيدي القلة و الأغلبية الساحقة تعاني بدرجات متفاوتة، و سيادة المجتمع الربوي بقيمه ووحشيته و طغيانه و استغلاله العنوان الأكبر للمجتمعات المعاصرة..
فالنظام الرأسمالي السائد أصبح أقرب لإنتاج الأزمات و الكوارث الاقتصادية و المالية و الصحية، بدلا من إنتاج الثروة و تعميم الرفاه وتعزيز الاستقرار والانضباط…و لو أتيحت الفرصة للشعوب الغربية و الشرقية، إمكانية معرفة مقاصد الإسلام كما أنزلها رب العالمين على نبيه محمد عليه الصلاة و السلام ، دون تحريف أو تزييف أو سوء فهم أو تطبيق ، لدخلت هذه الشعوب في دين الله أفواجا، و جهود تشويه الإسلام من خلال تفريخ الجماعات المتطرفة التي تدعي زورا تطبيق تعاليم الإسلام، و الهدف منها شيطنة الإسلام و تشويه تعاليمه، و الإسلام بريء منها بل ينبغي مقاومة هؤلاء الخوارج المدعومين و الممولين من قبل أنظمة غربية و عربية و صهيونية اتفقت و إجتمعت على أن الإسلام الحق يهدد سطوتها و سيطرتها على مقدرات الشعوب ، ويهدد نظمها الاقتصادية و السياسية و الاجتماعية، فالإسلام يقوم على مبادئ عامة تصب في مجموعها باتجاه تحرير الإنسان و توسيع خياراته و تزكيته، و منع الإحتكار و الاستغلال و محاربة المجتمع الربوي الذي يهلك الحرث و النسل و يخرج الناس من عبادة الله إلى عبادة الطواغيت الجدد.. و الاستخلاف رسالة كل إنسان في الأرضو الغاية منه العمارة والإصلاح وليس الهدم والإفساد، غايته الإرتقاء بالنفس البشرية والنظام البشري لا الانحدار بالفرد والجماعة إلى مستنقع “الحيونة”..لذلك ينبغي الا نكون من أهل الأعراف او اهل السبت ، فالصمت مشاركة في استدامة الباطل و نجاحه في استقطاب انصار جدد ليكونوا حطب معارك دامية على الابواب … و الله غالب على أمره و لكن أكثر لناس لا يعلمون..
د. طارق ليساوي أكاديمي متخصص في الاقتصاد الصيني و الشرق آسيوي، أستاذ العلوم السياسية و السياسات العامة..