بينما تستمر الحرب في وسط شرق أوروبا بين روسيا التي تساندها بشكل خجول بعض الدول من جهة والغرب في حلف الناتو بقيادة الولايات المتحدة من جانب آخر، يتسارع تآكل النظام العالمي الاحادي القطبية مما يدفع واشنطن إلى رفع معدلات مخاطراتها في مواجهة موسكو التي تدرك بدورها أن نتيجة الحرب في أوكرانيا سيكون لها كلمة فصل في معادلة الصراع الدولي.
البناء الاقتصادي للغرب والولايات المتحدة الأمريكية بشكل خاص يظهر شروخ تصدع كبير يخشى البعض من المدافعين عن النظام العالمي الأحادي من أن يكون مؤشر الفصل الختامي في مسار نظام الإمبراطورية. وفوق ذلك تبرز التباينات والخلافات بين مكونات ما يسمى التحالف الغربي الذي نجح المحافظون الجدد في إقناع أقطابه أنه السبيل الأفضل للإبقاء على ازدهارهم وتفوقهم الاقتصادي والسياسي والعسكري على بقية دول العالم.
الخطأ الكبير في هذا التقدير إنكار حقيقة أن أغلبية القوى العظمى في عالم ما بعد الحرب الباردة تنتمي إلى حضارات مختلفة. وبهذا المعنى سوف يهيمن "صراع الحضارات" على السياسات الدولية. ويقدر بعد المحللين أن الصدام سينخرط، على وجه الخصوص، بين الدول الغربية في مواجهة روسيا والصين والهند والدول المسلمة وعمالقة آسيا الجدد.
منذ عقد التسعينيات من القرن العشرين وحتى بدايات العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، تحولت الإمبراطورية الأمريكية زعيمة النظام العالمي الليبرالي الجديد، أو ما يطلق على تسميته بالقطب العالمي الأوحد، إلى ممارسات سياسية انفرادية امبريالية في علاقاتها الدولية على المستويين الثنائي والعالمي، يدفعها إلى ذلك امتلاكها أعتى قوة عسكرية عرفها العالم على امتداد تاريخه واقتصادا مهيمنا وتحكما في المعاملات الدولية، حتى استبد بها شعورها المفرط بالقوة تلك إلى تحدي الحلفاء والأعداء على حد سواء، وإلى محاولات متكررة، ناجحة في أحيان عديدة، لمصادرة مسؤوليات الأمم المتحدة، وتحديدا مجلس الأمن، ولسلبه، رغما عنه، البت في قضايا دولية، أو إرغامه، باستخدام وسائل الترهيب والترغيب، على اتخاذ القرارات التي تمليها عليه مثل التدخل في ليبيا.
خلال شهر سبتمبر سنة 2008 عندما حسم الصراع في جمهورية جورجيا التي فصلت عن تكتل الاتحاد السوفيتي، كان السؤال الكبير الذي أطَـل برأسه بعد النصر العسكري الروسي الكبير، كان: هل هذه نهاية النظام العالمي أحادي القطبية الذي تزعـمته الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب الباردة ؟.
السؤال مهِـم بالطبع، ليس فقط لأن الخطوة النوعية الروسية صدت إلى حد كبير الاندفاعة الأمريكية في المثلث الإستراتيجي، القوقاز - قزوين - آسيا الوسطى، وربما أيضا في أوروبا الشرقية، بل أيضا لأنه يأتي بعد أن أوضحت حربا أفغانستان والعراق حدود القوة العسكرية الأمريكية أو على الأقل حدود قدرتها على فرض هيمنتها بالقوة العسكرية المجردة.
الحروب الثلاث، في القوقاز الجنوبي وأفغانستان والعراق ثم الانسحاب الفوضوي من كابل في نهاية أغسطس 2021، أثبتت أن الولايات المتحدة غير قادرة وحدها على الحفاظ على تحكمها على ما تصفه بأمن النظام العالمي، وأن كل محاولات المحافظين الجدد الأمريكيين للإثبات بأن قانون "التمدد الإستراتيجي الزائد"، الذي كان السبب الرئيسي لزوال الإمبراطوريات في التاريخ، لا ينطبق على أمريكا، باءت بالفشل. ومن سنة 2014 واستعادة موسكو لشبه جزيرة القرم وحتى 24 فبراير 2022 بداية المرحلة الثانية من المواجهة على ارض وسط شرق أوروبا انطلق فصل آخر في معادلة الصراع الدولي.
هذه التطورات أدت بالتدريج إلى تبلور إجماع أو على الأقل شِـبه إجماع، بأن رحلة القطبية الأحادية الأمريكية وصلت إلى خواتيمها، لكن ما لم يحز على إجماع، هو شكل النظام العالمي البديل الذي سيحل مكان القطبية الأحادية.
القمة العربية الصينية
لا يمكن لأحد مهما كانت قناعاته السياسية أن ينكر أن زيارة الرئيس الصيني للسعودية لمدة ثلاثة أيام بداية من 7 ديسمبر 2022 والقمة العربية الصينية التي تزامنت معها شكلت صدمة أولا للولايات المتحدة الأمريكية وللتكتل الغربي ثانيا لأنها كانت مؤشرا جديدا على تحولات التحالفات والتوازن في النظام العالمي.
قبيل انطلاق القمة الصينية - العربية في المملكة العربية السعودية، حرص الصينيون على التأكيد على الدور الذي يريدون لعبه في الشرق الأوسط. وقد أصدرت وزارة الخارجية الصينية تقريرا من 19 ألف كلمة حول "التعاون الصيني - العربي في عصر جديد"، أكدت فيه أن بكين "شريك استراتيجي وصديق مخلص" سيلعب دورا بناء في الشرق الأوسط ويتجنب القيام بأي شيء يمس "مصلحته الجيوسياسية".
البعض قدر أن ذلك يتضمن انتقادا مبطنا وغير مباشر لسلوك الولايات المتحدة في الشرق الأوسط وتدخلاتها في شؤون دولها تحت غطاء مبررات مختلفة.
وتقف العلاقات بين الرياض وواشنطن في الوقت الحالي عند درجة متدنية، وقد جرى الحديث كثيرا عن "الاستقبال المتحفظ او بالأصح البارد"، الذي لقيه الرئيس الأمريكي جو بايدن عندما زار السعودية في يوليو بالمقارنة بذلك الذي خصص للرئيس الصيني.
البيت الأبيض لم يخف غضبه من الزيارة حيث وفي رده على سؤال بشأن زيارة الرئيس الصيني شي جين بينغ، قال الناطق باسم مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض، جون كيربي للصحافيين، إن السعودية لا تزال حليفا مهما للولايات المتحدة، لكنه أصدر تحذيرا بشأن الصين. وقال: "نحن مدركون للنفوذ الذي تحاول الصين توسيعه حول العالم. الشرق الأوسط هو بالتأكيد من بين هذه المناطق حيث يرغبون بتعميق مستوى نفوذهم"، مضيفا: "نعتقد أن العديد من الأمور التي يسعون إليها، وطريقة سعيهم إليها، لا تتلاءم مع الحفاظ على النظام الدولي الذي تحكمه قواعد" محددة.
وتابع كيربي: "لا نطلب من الدول الاختيار بين الولايات المتحدة والصين، لكن كما قال الرئيس بايدن مرات عدة، نعتقد أن الولايات المتحدة بالتأكيد في وضع يتيح لها القيادة في إطار هذه المنافسة الإستراتيجية".
وذكر كيربي بأن السعودية كانت شريكا استراتيجيا للولايات المتحدة على مدى نحو 80 عاما، لكنه أشار إلى أن بايدن أمر بإعادة النظر في العلاقات.
وقال “نعم، غداة قرار أوبك بلس قبل عدة أشهر، نعيد النظر في العلاقة الثنائية لنتأكد من أنها تناسب على أفضل وجه المصالح القومية الأمريكية. العمل جار” في هذا الصدد.
معركة النفط
منذ مطلع العام 2022، كافحت إدارة الرئيس الأمريكي، لإيجاد طرق لخفض أسعار النفط لتقليص مداخيل روسيا وسط صدمة الحرب الروسية في أوكرانيا. لذلك عندما قررت منظمة "أوبك بلس" خفض إنتاج النفط بمقدار مليوني برميل يوميا في أوائل أكتوبر 2022، كان رد فعل واشنطن غاضبا، إلى حد أن وصفت المتحدثة باسم البيت الأبيض، كارين جان بيير، أوبك بلس بأنها "تتحالف مع روسيا". وحينها كان واضحا أن هذا النقد الصريح موجه إلى السعودية، التي بالإضافة إلى كونها أكبر منتج في المنظمة، تعد شريكاً مهما للولايات المتحدة في الشرق الأوسط.
تقول مجلة foreign affairs الأمريكية، إن اتهام البيت الأبيض للرياض بالتحالف مع موسكو لم يأتِ من فراغ، إذ تنتمي كل من السعودية وروسيا إلى أوبك بلس، وهي منظمة ملزمة بالرغبة المشتركة بين منتجي النفط لتجنب المنافسة التي من شأنها أن تخفض عائدات صادراتهم، وأعضاؤها متحالفون في هذا السعي لتحقيق المصلحة الذاتية.
مع ذلك، بدا أن البيان أعمق من ذلك: فقد كانت إدارة بايدن تؤكد أنه على الرغم من العلاقات الأمنية الطويلة للرياض مع واشنطن، فإن الرياض كانت تقف إلى جانب روسيا سياسيا، ما يدعم في الواقع حرب موسكو في أوكرانيا ويقوض الجهود الغربية لفرض تكاليف عليا عليها.
تتماشى رؤية الإدارة الأمريكية للدوافع السعودية مع منظورها الأوسع للشركاء حول العالم. فمنذ توليه المنصب، اتخذت بايدن مرارا وجهة نظر ثنائية للنظام الدولي: منافسة الديمقراطيات وما يسميه بالأنظمة الاستبدادية أي تلك التي لا تطبق التعاليم الأمريكية، وفقا لإستراتيجية الأمن القومي لعام 2022. ونتيجة لذلك، تميل إدارة بايدن إلى التعامل مع قرارات شركائها على أنها اختبار أساسي للولاء للولايات المتحدة.
لكن هذه رؤية لم يعد يشاركها العديد من شركاء الولايات المتحدة، وخصيصا في الشرق الأوسط. وليس من الواضح لمعظمهم أن التحالف الدائم مع روسيا أو الصين أو حتى الولايات المتحدة يعد خيارا. في غضون ذلك، تمر الولايات المتحدة بفترة تقلب في أولوياتها الدولية، مما يترك لشركائها القليل من التأكيد على أن الأماكن أو القضايا التي تركز عليها واشنطن اليوم ستلفت انتباهها غدا، أو أن دعم الولايات المتحدة في قضية معينة سوف يكسب المعاملة بالمثل مع الولايات المتحدة.
نتيجة لذلك، يسعى عدد متزايد من شركاء الولايات المتحدة إلى تجنب اختيار أي طرف تماما والحفاظ على العلاقات مع جميع القوى العظمى في وقت واحد. بالنسبة للولايات المتحدة، هذا يعني أن هناك حاجة إلى إستراتيجية أكثر دقة في مواجهة شركاء من غير المرجح أن يلبوا لها كل ما تريده، كما تقول فورين أفيرز.
وتنظر معظم الدول إلى التنافس بين القوى العظمى مثل الصين وروسيا وأمريكا، بدلا من التهديد الذي تشكله أي قوة بمفردها، على أنه التحدي الأكبر لمصالحها. السعوديون، على سبيل المثال، يعتبرون الصين أكبر شريك اقتصادي لهم ووجهة لنحو خمس صادراتهم، وقوة موازنة وبديلة للعجرفة الأمريكية التي تهدد استقرارهم وتحرك مؤامرات تستهدفهم.
البدائل
زيارة الرئيس الصيني شي جين بينغ للسعودية هي ثالث رحلة له إلى الخارج منذ بداية وباء كورونا، وهذا دليل على حجم قوة العلاقة بين الطرفين ونوايا تطويرها في نطاق تبدل التوازنات الدولية.
الانضمام لمنظمات مثل شنغهاي وبريكس ستكون خطوة غير مسبوقة لدول المنطقة، وهذا النهج يتبعه السعوديون وغيرهم أيضا من شركاء الولايات المتحدة الآخرون في علاقاتهم الدولية بشكل واضح ومتصاعد خلال السنوات الأخيرة. ففي الشرق الأوسط وحده، تعد البحرين ومصر والكويت وقطر والسعودية والإمارات وتركيا شركاء حوار حاليين أو محتملين لمنظمة شنغهاي للتعاون (SCO)، وهي مجموعة سياسية واقتصادية وأمنية متمركزة حول الصين.
وتعد شنغهاي أضخم تحالف سياسي إقليمي في العالم، حيث يشكل أعضاؤها ما يقرب من نصف سكان العالم، وما يقرب من 3 أخماس كتلة اليابسة الأوروبية الآسيوية، وكثيرا ما يتم وصفها بـ"التحالف الشرقي" أو "ناتو الشرق" المنافس للتحالف الغربي.
كما أفادت التقارير بأن السعودية ومصر أعربتا عن اهتمامهما بالانضمام إلى مجموعة بريكس الاقتصادية، وهي مجموعة من دول الأسواق الناشئة، البريكس تعني البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا. وهي منظمة توصف بأنها تسعى لإنهاء نظام القطب الأوحد في العالم. كما أبدت تركيا الدولة القوية في الشرق الأوسط والمتحالفة رسميا مع الولايات المتحدة والعضو بالناتو، اهتماما بأن تكون عضوا في كلتا المنظمتين.
ويرى بعض المحللين الكبار مثل بول بواست من جامعة شيكاغو، أن توسع بريكس ومنظمة شانغهاي للتعاون يمثل ظهور "نظام دولي بديل". لكن تلك الدول التي تسعى إلى مشاركة أكبر مع منظمة شنغهاي للتعاون ودول البريكس لا تنأى بنفسها عن مجموعة الدول السبع، أو الناتو، أو الأمم المتحدة. وبدلا من بناء نظام منافس، فإن عددا متزايدا من الدول ترفض ببساطة أو على الأقل تسعى للهروب من قيود وعواقب نظام عالمي ثنائي من خلال إبقاء قدم واحدة في المعسكر الذي تقوده الولايات المتحدة، بينما تزرع الأخرى في المؤسسات المتعددة الأطراف بقيادة روسيا والصين.
وكانت العديد من هذه الدول أيضا غير منحازة في السابق لأحد المعسكرين فترة خلال الحرب الباردة، لكنها اليوم تكاد تكون متحالفة مع كل شيء. ومن خلال تبني مثل هذا النهج، تسعى دول الشرق الأوسط بما في ذلك تركيا والسعودية إلى تقليل التكاليف وتعظيم فوائد منافسة القوى العظمى.
مع تصاعد التنافس بين القوى الكبرى، وجدت الدول الصغيرة والمتوسطة الحجم نفسها بشكل متزايد عرضة لمطالب متنافسة، مثل الطلبات الواردة من الصين لدعم سياساتها تجاه هونك كونغ وتايوان. أو من الولايات المتحدة لتجنب الاستثمار في البنية التحتية الصينية والجيل الخامس.
بالنسبة للعديد من هذه الدول، تحمل هذه الإستراتيجية فوائد أخرى أيضا، مثل أن تكون متحاذيا متعدد الأطراف، بدلا من عدم الانحياز الكامل، من خلال التأثير على عملية صنع القرار لدى القوى العظمى، فضلا عن الاستمتاع بامتيازات المحاذاة، والتي يمكن أن تزداد إذا كانت أي من القوى العظمى تخشى فقدان شريك لآخر.
وتعمل المحاذاة الشاملة أيضا كأداة تحوط بيد هذه الدول، ضد عدم القدرة على التنبؤ بسلوك القوى العظمى تجاهها. ويظهر هذا التحوط بوضوح في الشرق الأوسط، حيث لا يزال مستقبل انخراط الولايات المتحدة والصين في المنطقة غير واضح، حيث يجد حتى أقرب شركاء الولايات المتحدة علاقاتهم مع واشنطن غير مستقرة بشكل متزايد بسبب السياسة الداخلية للولايات المتحدة.
ومن المؤكد أن مثل هذا التحوط يمكن أن يكون له تكاليف في بعض الأحيان بحسب فورين بوليسي. فقد أدى شراء تركيا عام 2017 لنظام الدفاع الجوي الروسي S-400 إلى إخراجها من برنامج الطائرات المقاتلة F-35، بحجة تعريض مصالح الناتو للخطر.
وأدى إحجام الإمارات عن تقليص علاقتها الأمنية والتكنولوجية مع بكين إلى تعثر صفقة F-35 المخطط لها مع الولايات المتحدة. كما أن منع المجر للعقوبات الأوروبية ضد روسيا قد يعزز تصميم بروكسل على حجب أموال الاتحاد الأوروبي عن بودابست بسبب مخاوف تتعلق بسيادة القانون.
كيف يمكن لواشنطن التعامل
بشكل عام، تقول المجلة الأمريكية، إن الولايات المتحدة قد تميل إلى إصدار إنذار نهائي لشركائها الذين يمتلكون أداة التحوط هذه. وإذا استمروا في التعامل مع هؤلاء المنافسين مثل روسيا والصين، يمكن لواشنطن أن تضطر إلى تقليص علاقاتها مع هذه الدول.
لكن مثل هذا النهج غير عملي، لسبب واحد، هو أن العديد من أشكال التعاون بين شركاء الولايات المتحدة وروسيا أو الصين، مثل الجزء الأكبر من تجارة البضائع الضخمة، لا تشكل تهديدا كبيرا لمصالح الولايات المتحدة ولا تستحق معارضة شديدة.
علاوة على ذلك، فيما يتعلق بالصين، قد يكون من المستحيل تنفيذ مثل هذا الإنذار النهائي، نظرا لأن اقتصاديات شركاء الولايات المتحدة متشابكة مع اقتصاد بكين – وهو فرق رئيسي بين فصل اليوم من منافسة القوى العظمى والفصل الأخير. الأمر الآخر، من المرجح أن يدفع مثل هذا الطلب من شركاء الولايات المتحدة للحصول على ضمانات اقتصادية وأمنية أقوى، والتي قد تكون واشنطن مترددة أو غير قادرة على تقديمها لهم.
وبدلا من السعي إلى تقسيم العالم بشكل منظم، على غرار فترةالحرب الباردة، قد يتعين على صانعي السياسة الأمريكيين التخلي عن نرجسيتهم، وقبول فكرة أنه من غير المرجح أن يؤدي التكرار الأخير لمنافسة القوى العظمى إلى نظام ثنائي من الدول بشأن كل قضية.
بدلا من ذلك، يجب على المسؤولين الأمريكيين -كما تقول فورين أفيرز- السعي إلى زيادة الفرص للشركاء المحتملين للتوافق مع الولايات المتحدة، ويجب أن يجعلوا تلك التحالفات أكثر قيمة للشركاء، حتى لو كانوا منخرطين في نفس الوقت مع القوى العظمى الأخرى بقدرات مختلفة.
وبدلا من التركيز على المنتديات الواسعة ومتعددة القضايا، مثل قمة العشرين G-20 أو قمة الديمقراطيات، يجب على الولايات المتحدة أن تسعى لبناء وتعزيز شراكات أصغر للدول ذات جداول أعمال أكثر تركيزا، مثل الرباعية، واتفاقات أبراهام التطبيعية، وما يسمى بتجمع للهند وإسرائيل والإمارات والولايات المتحدة. ويمكن لمثل هذه التحالفات أن تعزز مصالح واشنطن مع هذه الدول، بما في ذلك الاستثمار في الأمن والبنية التحتية، مع تنحية القضايا الجدلية والتي يمكن أن تعكر العلاقات مع هؤلاء الشركاء، بحسب المجلة.
في الوقت نفسه، يجب على الولايات المتحدة العمل مع الحلفاء الحاليين لترسيخ القواعد واللوائح المشتركة، مثل خصوصية البيانات وتصدير التكنولوجيا، لزيادة الحوافز للشركاء غير المتحالفين للامتثال لتفضيلات واشنطن. ومن المرجح أن يستجيب الشركاء للطلبات الأمريكية للتخلي عن الفرص الاقتصادية التي تقدمها روسيا والصين إذا كانت الطلبات تعكس مميزات مستحقة على نطاق واسع.
يجب على الولايات المتحدة أيضا اختيار معاركها عند تقديم طلبات من الشركاء. غالبا ما تفشل عملية صنع السياسة في واشنطن في مراعاة كيف ينظر الشركاء إلى مصالحهم الخاصة. غالبا ما يفترض صانعو السياسة في الولايات المتحدة أن الشركاء يرون الأشياء كما تفعل الولايات المتحدة أو أن الشركاء سيكون لديهم شعور تلقائي بالتضامن مع المصالح الأمريكية – وهي مغالطة كبيرة أطلق عليها مستشار الأمن القومي السابق إتش ماكماستر وآخرون "النرجسية الإستراتيجية".
وترى فورين أفيرز في النهاية، أنه يجب أن تهدف الولايات المتحدة إلى تنمية شراكات مستقرة وطويلة الأمد حتى مع شركاء صعبين وغير ديمقراطيين وديكتاتوريين. عند القيام بذلك، يجب أن تعطي الأولوية للمخاوف الأساسية مثل مواجهة النفوذ الروسي والصيني، وقبول أن التقدم في القضايا الأخرى سيكون أبطأ.
الشرق الأوسط الجديد
يرى الدكتور ريتشارد هاس، رئيس مجلس العلاقات الخارجية والمدير السابق لتخطيط السياسات بوزارة الخارجية الأمريكية وجود "نظام عالمي جديد مختلف".
ويضيف أنه في عنفوان الانفراد الأمريكي بزعامة العالم وخاصة مع نظرية القرن الأمريكي التي روج لها المحافظون الجدد قبل سنوات كان من أهم أهداف الهيمنة الأمريكية خلق شرق أوسط جديد تهيمن فيه الولايات المتحدة على المقدرات والأوضاع، ولو عن طريق إشاعة مناخ من "الفوضى الخلاقة" لإعادة رسم خريطة المنطقة.
ولكن جاءت الرياح بما لا يشتهي السفن وأخفق غرور القوة في تحقيق مآربه في المنطقة وكشفت شعوب المنطقة لعبة واشنطن وكيف تقود إلى صناعة دول فاشلة وتدمير مجتمعات بكاملها وخلق صراعات طائفية ومذابح جماعية، بل وأخذت أمريكا تفقد احترامها شيئا فشيئا وتظهر كعصابة مافيا توزع المهام بين أطرافها وهو الأمر الذي وفر الفرصة لاضطلاع أطراف إقليمية بإدارة مشاكل المنطقة وبالتالي إلى ضياع قدر كبير منا تعتبره هيبتها.
ويرى الدكتور منذر سليمان، خبير شؤون الأمن القومي الأمريكي أن الأطراف الإقليمية في الشرق الأوسط تشعر بأن الولايات المتحدة في حالة من الانكفاء والتراجع الاستراتيجي، رغم مكابرة إدارات البيت الأبيض المتعاقبة، وتتجسد تلك الحالة في حالات التعثر والإخفاق للمشروع الأمريكي من أفغانستان إلى الصومال، مرورا بالعراق والسودان وفلسطين ولبنان، مما فتح المجال أمام بعض القوى الإقليمية للشعور بأنها متحررة نسبيا من الالتزام المطلق بالهوى الأمريكي، خاصة في ضوء العجز الأمريكي عن الوفاء بالوعود التي تقدمها لحلفائها.
ويقول الدكتور منذر سليمان: "الولايات المتحدة لا تزال تشكل قوة اقتصادية وعسكرية وتكنولوجية مهيمنة على المسرح الدولي، لكنها فقدت انفرادها بالتحكم الكلي في مجريات الأمور في العالم من خلال سياساتها الفاشلة.
الانتقال إلى التعددية
الدكتور ريتشارد هاس، رئيس مجلس العلاقات الخارجية والمدير السابق لتخطيط السياسات بوزارة الخارجية الأمريكية، يرى أن العالم بصدد نظام عالمي جديد مختلف. فبعد أن انفردت الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب الباردة بزعامة العالم، تصاعدت حدة المشاعر المناهضة للولايات المتحدة في أنحاء العالم وتصاعدت الشكوك في حكمة وشرعية السياسات الخارجية للولايات المتحدة، وخاصة مبدأ الضربات الإستباقية والانفراد بقرار غزو العراق، بشكل جعل أطرافا دولية عديدة تنظر إلى الولايات المتحدة، ليس كقوة عظمى وحيدة في عالم اليوم، بل كتهديد لمصالحها القومية.
ولكن فيما تتنامى قوة الصين والاتحاد الأوروبي واليابان، وتحاول روسيا استعادة مكانتها الدولية، لا تبدو أي من تلك القوى الدولية في وضع يؤهلها للانتقال بالعالم إلى التعددية القطبية في الوقت الراهن. لذلك، يخلص الدكتور ريتشارد هاس إلى أن العالم سيدخل عصرا خاليا من الزعامة الأحادية القطبية للأسباب التالية:
أولا: الاعتبارات التاريخية: وتفضي إلى أنه مع نمو القوة البشرية والعسكرية والاقتصادية والتكنولوجية في مناطق مختلفة من العالم، سيزداد عدد القوى الفاعلة والمؤثرة في النظام العالمي في المستقبل.
ثانا: اخفاقات السياسة الخارجية الأمريكية، والتي ساعدت على ظهور مراكز قوى دولية جديدة، فيما أضعفت من هيبة الولايات المتحدة كقوة عظمى وحيدة في عالم اليوم.
ثالثا، العولمة: التي باتت ترسخ نظام غياب الأقطاب وتزيد من تأثير وقوة ونفوذ أطراف لا تنضوي تحت وصف الأمم أو الدول.
ويقول الدكتور هاس: "إن هذا التحول في النظام الدولي من شأنه أن يلحق الضرر بمكانة الولايات المتحدة كقوة عظمى في ضوء تعدد مراكز القوى في العالم في المستقبل، ومحاولة تلك القوى ممارسة نفوذها على الساحة الدولية، مما سيجعل من الصعوبة بمكان التوصل إلى التوافق الدولي الذي اعتادت واشنطن تحقيقه من خلال انفرادها بالأحادية القطبية".
وينصح الدكتور ريتشارد هاس الإدارة الأمريكية بتبني أسلوب جديد في العلاقات الدولية، يعتمد التعددية في اتخاذ القرار الدولي من خلال منظمات المجتمع الدولي لكي يمكن للولايات المتحدة الحفاظ على ما تبقى لها من هيبة في عالم اليوم.
ولعل انكشاف نقاط ضعف الإمبراطورية الأمريكية في العراق وأفغانستان يغري تلك القوى على استغلال الإفلاس السياسي والعسكري والمعنوي للولايات المتحدة في الدفع بالنظام العالمي بعيدا عن الأحادية القطبية للولايات المتحدة.
نظام قيد التشكيل
جاء في تحليل نشره المحلل العربي طلعت رميح:
دخل العالم أتون مرحلة تاريخية خطرة، ينتظر أن تتمدد زمنيا لعدة سنوات، وأن تشهد صراعات وحروبا متعاقبة ومتوسعة إلى درجة قد تهدد فيها الحياة البشرية بالدمار الشامل.
لقد ارتبطت عملية تغيير توازنات القوة على الصعيد العالمي وصولا إلى بناء نظام دولي جديد بالحروب الكبرى عبر التاريخ. فإن سجل العالم هذه المرة أنه تمكن من الانتقال من نظام القطب الواحد إلى نظام تعدد الأقطاب دون حرب كبرى، تكون البشرية قد أفلتت من حرب، إن وقعت فستكون الأسوأ في التاريخ الإنساني كله، ذلك أن الصراع وحركة التغيير يجريان تحت وقع تهديدات باستخدام السلاح النووي.
لقد دفع العالم ثمنا باهظا من أرواح البشر ومن مقومات الحضارة الإنسانية خلال الحرب العالمية الأولى، التي استهدف مشعلوها تفكيك الإمبراطوريتين العثمانية والروسية والسيطرة على مقدراتهما، وإيقاف محاولة ألمانيا الصعود إلى مستوى الدول الكبرى.
لكن الإمبراطوريتين الفرنسية والبريطانية اللتين انتصرتا في الحرب الأولى، لم تجلسا طويلا على قمة هرم النظام الدولي أو على أنقاض ما دمرته الحرب ليفرضا مصالحهما الاستعمارية على حساب جميع دول العالم.
دفع العالم مجددا الثمن، ولكن هذه المرة أضعافا مضاعفة في حرب الانتقال من نظام دولي تسيطر عليه وتقوده بريطانيا وفرنسا إلى نظام دولي تسيطر عليه الولايات المتحدة من جهة والاتحاد السوفييتي من جهة أخرى. ولم تطح الحرب العالمية الثانية بطموحات ألمانيا وإيطاليا واليابان فقط، بل أطاحت بالدور الدولي الكبير لفرنسا وبريطانيا أيضا.
فبعد انتصار دول التحالف في الحرب الثانية وبروز الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي قطبين دوليين، حاولت فرنسا وبريطانيا الظهور في وضع القوة الدولية الفاعلة ومنافسة القطبين الأقوى عبر شن اعتداءات على الدول الأضعف، فتعرضتا لانتكاسات كبرى. جاءت هزيمة السويس أو العدوان الثلاثي على مصر ومعارك جنوب شرق آسيا - خاصة في فيتنام - لتطيح بما تبقى من قدرة دولية كبيرة لبريطانيا وفرنسا، وانتهى الأمر إلى تسليمهما بالنظام ثنائي القطبية.
ومرة أخرى عاد العالم فيها ليدفع ثمنا باهظا في الانتقال من النظام الدولي ثنائي القطبية إلى وضعية الهيمنة الأمريكية المنفردة. لكن دون صدام مباشر بين القطبين. فجرت الحروب بالوكالة في كوريا وفيتنام وتايلاند، وكانت معركة الاتحاد السوفييتي في أفغانستان هي الأشهر. كما دفع العالم أثمان صراعات وانقلابات وأعمال اقتتال أهلي في دول إفريقيا وأمريكا اللاتينية بل حتى في دول شرق أوروبا. كان الأشهر فيها حروب يوغسلافيا، والحرب بين أرمينيا وأذربيجان.
سقط الاتحاد السوفييتي، وترسخت هيمنة الولايات المتحدة قطبا حاكما ومتحكما في إدارة العالم من جهة أخرى. وها نحن نتابع عالم اليوم، وهو يعود للحديث وللصراع للانتقال من حالة القطب الواحد إلى وضعية العالم متعدد الأقطاب، وهو ما يجري مقرونابالتهديد باستخدام السلاح النووي.
قصة العالم مع تعدد الأقطاب
ليس جديدا الحديث عن العالم متعدد الأقطاب، فقد ظهر المصطلح وجرت المحاولات لبناء مثل هذا النظام منذ زمن طويل.
أشرنا إلى صعود ألمانيا واليابان وإيطاليا ما قبل الحرب العالمية الثانية في محاولة للعب دور على الصعيد الدولي أو لإعادة تقسيم القوة والنفوذ مع الدولتين المهيمنتين وقتها بعد الحرب العالمية الأولى أي بريطانيا وفرنسا.
وخلال مرحلة النظام الدولي ثنائي القطبية بعد الحرب حاولت فرنسا وبريطانيا مواصلة دورهما الدولي كقطبين لنصبح أمام عالم رباعي الأقطاب، لكنهما خرجتا من المعادلة.
وشهد العالم حالة أخرى جرت هذه المرة من داخل التحالف الغربي، إذ شقت فرنسا عصا الطاعة الأمريكية وأعلنت خروجها من حلف الأطلسي. ووقتها تحدث القائد الفرنسي شارل ديغول عن أوروبا كقطب ثالث، رافضا أن يكون الأمن القومي لبلاده تحت حماية الناتو المهيمن عليه أمريكيا.
وتذهب بعض الكتابات إلى أن حركة عدم الانحياز التي لعبت الصين دورا بارزا في تشكيلها مع مصر والهند يمكن تصنيفها هي أيضا ضمن المحاولات المبكرة لتشكيل قطب دولي وازن، في الصراع بين قطبي الحرب الباردة.
لم تكن الفكرة غائبة إذن طوال التاريخ السابق، لكنها بدأت تأخذ أبعادا أخرى في الأربعين عاما الأخيرة بشكل متصاعد ووفقالاعتبارات أشد وضوحا.
لقد جرى طرح فكرة تعدد الأقطاب في داخل الولايات المتحدة منذ ثمانينيات القرن الماضي، وفي أوج الصراع بين المعسكرين اللذين شكلا النظام ثنائي القطبية. في تلك المرحلة ظهر تيار ثقافي في الولايات المتحدة سمي بأصحاب نظرية الاضمحلال. وكان أهم ما صدر من كتابات وقتها للتعبير عن مفاهيم هذا التيار، هو كتاب بول كيندي (صعود وسقوط القوى العظمى: التغير الاقتصادي والنزاع العسكري من 1500 إلى 2000). وقد تابع الكاتب خلاله قصة قيام الإمبراطوريات واضمحلالها خلال هذه المرحلة الممتدة لنحو 500 عام، وتنبأ - وَفقا لعوامل القياس - بضعف الإمبراطورية الأمريكية وفقدان الهيمنة الغربية على العالم. كما أطلق رؤية مبكرة عن بروز أوروبا والصين أقطابادولية.
تحدث أصحاب تلك المدرسة الأمريكية عن تراجع القدرة والقوة الأمريكية والغربية عموما عن الهيمنة على العالم وفقا لعوامل داخلية وخارجية، وخلصوا إلى أن العالم يشهد بروز أقطاب دولية منافسة.
عقب سقوط الاتحاد السوفييتي وانتهاء الحرب الباردة ظهرت كتابات سارت في اتجاه مضاد، إذ أشارت إلى تحول أمريكا إلى ما وصف بـ "سوبر بور"، وإلى انتصار الفكر الليبرالي العلماني على ما عداه من الأفكار والعقائد، وأنه أصبح المحتوى الثقافي الشامل للحضارة البشرية. وأن التاريخ انتهى بالبشرية إلى هذا النمط الفكري الثقافي ونظامه السياسي الديمقراطي.
لكن الترويج لتلك الأفكار ووجهَ بطرح رؤى وأفكار مضادة، إذ ظهرت كتابات أخرى ترفض تلك الرؤية، وتناقضها وتعود للتأكيد على أن الهيمنة الغربية وسير العالم من نظام الأحادية القطبية إلى تعدد الأقطاب حقيقة مؤكدة. وكان أهم تلك الكتابات فكريا وإستراتيجيا، ما قدمه صامويل هنتنغتون في كتابه الصادر تحت عنوان صراع الحضارت... إعادة صنع النظام العالمي. سارت رؤية هنتنغتون في مسار تبلور نظام دولي جديد تتمثل فيه الحضارات الرئيسية في العالم. وجاءت ردا مباشرا على أطروحة فرانسيس فوكوياما حول انتهاء التاريخ إلى سطوة الثقافة الغربية وأن العالم صار متوحدا تحت عناوينها.
وفي الإطار نفسه كانت أهم الكتابات (البحثية - الإستراتيجية) دلالة، ما نشره الدبلوماسي المخضرم ريتشارد هاس مع زميله تشارلز كوبتشان، تحت عنوان (وفاق القوى الجديد... كيفية منع وقوع كارثة وتعزيز الاستقرار في عالم متعدد الأقطاب). وحسب مقال للكاتب المصري د. عبد المنعم سعيد في جريدة الشرق الأوسط، يقول المؤلفان: النظام الدولي يقف عند نقطة انعطاف تاريخية. وإنه مع استمرار آسيا في صعودها الاقتصادي، يقترب قرنان من الهيمنة الغربية على العالم على الانتهاء. وأن الغرب لا يخسر هيمنته المادية فحسب، بل سيطرته الأيديولوجية أيضا، وأن الغرب لم يعد قادرا على تنظيم العالم.
وعلى الجانب الآخر المعني بالدرجة الأولى بهذا التحول هما الصين وروسيا، فقد صدرت تصريحات كثيرة حول أن النظام الدولي متعدد الأقطاب أصبح قيد التنفيذ.
وفي ذلك يمكن الإشارة إلى سبق يفغيني بريماكوف، وزير الخارجية الروسي الأسبق، إذ أعلن في عام 1996م عن بدء العالم في الانتقال إلى عالم متعدد الأقطاب. ووصف ذلك بأنه أحد التطورات في العلاقات الدولية.
وإلى خطاب الرئيس الروسي الحالي فلاديمير بوتين في مؤتمر ميونيخ في عام 2007م، إذ شدد على ضرورة الالتزام بنظام عالمي متعدد الأقطاب.
عمر نجيب