العقيد الطاهر زبيري من رواد الجهاد في الجزائر وكان قائدا لواحدة من أهم الولايات الجزائرية الست في الثورة التحريرية، أي الولاية الأولى التي انطلقت منها أساسا أول عمليات ثورة أول نوفمبر المجيدة، وهو من القلائل الذين سجلوا مذكرات سلطت الأضواء على الكثير من الأحداث، خصوصا بعد استرجاع الاستقلال.
ولقد تعرض كثيرون لاستعراض المذكرات، وإن كان البعض حاول أن يستعملها بأسلوب “ويل للمصلين”، تصفية لحساب معين أو تعبيرا عن خلفية معينة.
من هنا أحسست أن واجبي يفرض عليّ، كمجاهد ضئيل استطاع أن يُمسك بالقلم، أن أقدم قراءة متواضعة لما خطه مجاهد كبير، حدث أن أصبح زميلا لي في مجلس الأمة، وكنت قبل ذلك كطبيب تحت قيادته وهو رئيس لأركان الديش الوطني في طلع الاستقلال.
ولقد كان أسوأ ما ارتبط بمذكرات المجاهد الكبير تصور البعض بأنها جزء من حملة ضد الرئيس الراحل هواري بو مدين، ولهذا قلت في أول تعليق عليها نشرته الشروق بضرورة قراءتها أكثر من مرة، حيث أن القراءة الأولى قد تكون بحثا لا إراديا عن المثالب والعيوب وتركيزا عليها.
لهذا سأحاول هنا أن أثبت العكس باستخدام أسلوب معاكس لذلك تماما، وسأضع جمل العقيد الزبيري جنبا إلى جنب مع الإشارة لمواقعها في الكتاب، وسأحرص على أن يكون التدخل للتعليق في أضيق الحدود الممكنةـ كما فعلت تقريبا مع مذكرا الرائد عبد السلام جلود.
ويشير الزبيري في بداية كتابه إلى تشكيل هيئة أركان جيش التحرير الشرقية والغربية في أكتوبر 1958 تحت قيادة العقيد هواري بو مدين، ملاحظا أنه نجح في ضبط النظام على الحدود الشرقية التي عرفت عدة انفلاتات عسكرية (ص 11)
ويقول الزبيري بعد استعراضه للصراع مع الحكومة المؤقتة: “قررت مباشرة التحالف مع بو مدين وبن بله لأني رأيت أن ذلك في مصلحة الجزائر وفي صالح حماية وحدتها وعدم تمزيقها” (ص15)
ويوضح الطاهر الزبيري حقيقة يتناساها الكثيرون، خصوصا أولئك الذين أرادوا إبعاد قيادات الجيش عن القضايا السياسية والاكتفاء بمهامهم العسكرية، في حين أن “ضباط الجيش هم في الأصل مناضلون سياسيون في حزب الشعب وحركة الانتصار للحريات الديموقراطية، وظروف حرب التحرير هي التي ألزمتهم ارتداء اللباس العسكري وحمل السلاح في وجه الجيش الاستعماري، ورغم بقاء الكثير منهم مرتديا نفس اللباس العسكري بعد (استرجاع) الاستقلال إلا أنهم ظلوا يعتبرون أنفسهم مناضلين سياسيين مكلفين بمهام عسكرية. (ص 35)
ويوضح الزبيري بعض المعطيات المتعلقة بتشكيل قيادة أركان القوات المسلحة بعد ذلك، عندما أعلن الرئيس بن بله في مهرجان شعبي في العاصمة عن تعيينه ، في الوقت الذي كان بو مدين في زيارة خارجية للاتحاد السوفيتي، وكان ذلك محاولة من الرئيس لاستفزاز وزير الدفاع بجذب زبيري لصفه وهو يحاول تقليم أظافر بو مدين.
ويصحح العقيد الروايات التي اعتبرت التعيين قرارا للرئيس بن بله فيقول “الحقيقة أن بو مدين هو الذي اقترحني”. (ص 38)
وهناك تعليقات على مذكرات العقيد زبيري نسيت الجانب الأهم في شهادته، عندما قال أن بو مدين طلع نجمه بسرعة بعد أن نجح في قيادة الأركان الغربية عام 1958 بينما أخفق غيره مما أهله ليكون القائد الأوحد لهيئة الأركان العامة، ورغم افتقاده للشرعية الثورية باعتباره ليس من المفجرين الأوائل للثورة (ص 22) وتعبير “افتقاد الشرعية الثورية” هو التعبير الذي ركز عليه البعض في معرض الإساءة للرئيس بو مدين.
وأنا شخصيا كنت أفضل أن يكون رئيس الدولة بعد استرجاع الاستقلال بطل الأوراس مصطفى بن بو العيد، لكن يد المنون كانت أسرع من الجميع، وحدث أن معظم المفجرين الأساسيين للثورة كانوا بين شهيد وسجين، حيث استشهد بن بولعيد والعربي بن مهيدي ومراد ديدوش وعميروش وسجن بن بله وخيضر وبو ضياف وبيطاط، ولم يبق على الساحة إلا كريم بلقاسم وبن طوبال وسعد دحلب والأمين دباغين، وبالطبع، عباس فرحات وبن خدة، ولكن للسياسة منطقها ولموازين القوى أحكامها ولقيادة الدولة متطلبات ليست هي دائما مواصفات المجاهدين والقادة الميدانيين.
ولا جدال في أن الشرعية التاريخية هي عمق حقيقي لكل عمل وطني جدير بالتقدير، وهو ما قام به نظام الرئيس هواري بو مدين، عندما استرجع رفات الأمير عبد القادر، الذي كان ضيفا على ضريح محيي الدين بن العربي في دمشق، لكن ربط العمق التاريخي بأفراد ليس دائما مرادفا للتمسك بالشرعية التاريخية، إلا بالنسبة لمن يتعاملون مع قضايا الشرعية بما قد يبدو أحيانا تصفية لحسابات قديمة.
ومن غير المنطقي أن ننسى أن الثورات هي أمواج متلاحقة من الأحداث والأفراد، وقد يصعد أحيانا إلى القمة من تناقض مع الثورة في بدايتها كما حدث مع نابليون بونابرت، وقد يُرمى على ضفاف الأحداث من كانوا أباء حقيقيين لها، وهو ما حدث مع مصالي الحاج، وقد يرتفع من كانوا مجرد شباب طموح على حساب شخصيات تاريخية لأن تطور الأحداث أو هازم اللذات أو تناقض الاختيارات فرض ذلك، كما حدث مع دوغول الذي أصبح رمزا لفرنسا على حساب بطل فردان، الماريشال بيتان.
ومن الجحود أن نعتبر بأن الذين أمسكوا بمقاليد الحكم في الجزائر بعد استقلالها كان أكثر همهم، كما ادعى صاحب قلم مؤخرا، البحث عن السيطرة والتحكم من خلال الدسيسة والتآمر الخفي وتزوير الحقائق، إلى آخر قائمة طويلة لا تذكر فضلا واحدا لرجال يعترف لهم العالم كله بما أنجزوه، بدون أن ننسى أن اتهام رجال السياسة بأنهم يبحثون عن السلطة هو اتهام سخيف لأن لب العمل السياسي هو الوصول للسلطة، والفرق هو أن هناك من يريد السلطة لتنفيذ مشروع مجتمع يؤمن به ومن يبحث عنها لأطماع شخصية أو لرغبات تسلط وتصفية حسابات.
وعن التغيير الذي تم وأزيح به الرئيس أحمد بن بله يقول الزبيري (ص 111) : بلغتْ بو مدين معلومات مؤكدة أن بن بلة ينوي إقالة جميع الضباط والسياسيين الذين قدموا استقالاتهم في المؤتمر الأول لجبهة التحرير الوطني، وسيعلن عن ذلك في الإذاعة ليلة انعقاد المؤتمر الإفريقي الآسيوي الذي سيحضره عدد كبير من زعماء ورؤساء إفريقيا ولآسيا (وأمريكا اللاتينية، وكاسترو تحديدا) مما سيجعل بو مدين وجماعته مكبلين من القيام بأية ردة فعل في ظل هذا الظرف (ص 112)
وأخرج هنا من مذكرات العقيد لأعود إلى مذكراتي الشخصية، وأتذكر تعليقا سمعته من الرئيس عبد العزيز بو تفليقة، قبل 1999، عن ذلك الأمر، حيث قال لي أن “خطأ بن بلة كان على وجه التحديد هو ذلك التصور، أي أننا لن نجرؤ، كوطنيين، على إفساد عرس المؤتمر الإفريقي الآسيوي”.
وفهمتُ أنا من ذلك أن مجموعة الانقلابيين تصرفوا تجاه بن بلة كوطنيين يضعون مصلحة الوطن الحقيقية قبل قضية الزعامة الخارجية، وتمكنوا من دراسة كل المعطيات بأسلوب علمي لا دخل فيه للعواطف، وهكذا تغدّوا بالرئيس قبل أن يتعشى هو بهم.
وقبل أن أعود إلى استعراض المذكرات أورد هنا بعض ما كنت سمعته من الرئيس علي كافي حول قرار تنحية بن بلة، وأورد هذا كله هنا من الذاكرة التي آمل أن تظل دائما وفية للأحداث.
فقد شهدت تلك الأيام من عام 1965 لقاء للديبلوماسيين الجزائريين تحت رئاسة الرئيس أحمد بن بلة، الذي تصرف مع علي كافي، سفير الجزائر في بيروت، بغلظة غير مبررة، دفعت قائد الولاية الثانية السابق إلى زيارة وزير الدفاع ليخطره بما حدث، وليخبره بأنه قرر الاستقالة، وقال له بو مدين أن هذا التصرف غير حكيم، وهو يحقق خطة بن بلة في التخلص من القيادات المجاهدة، وكان مما قاله للسفير بأنه، إذا أصر على موقفه الذي سيحرمه من دخله، فإنه سيقتسم معه مرتبه الشهري، وقال لي كافي عن ذلك بأنه لن ينسى لبومدين هذا الموقف النبيل.
وفي مايو يسافر بو مدين إلى القاهرة في زيارة رسمية للقاهرة بصفته وزيرا للدفاع، ويتوجه علي كافي إلى مقر عمله عن طريقها، ويركب بجانبه في الطائرة ديبلوماسي جزائري كان على صلة وثيقة بالمجموعة المحيطة برئيس الجمهورية، ويسمع كافي من محمد قادري معلومات مثيرة تقول بوضوح أن نهاية بو مدين أصبحت وشيكة.
وبمجرد وصول كافي إلى القاهرة يتصل بوزير الدفاع في قصر الضيافة المصري ليبلغه بأن لديه معلومات يريد أن يبلغها إليه، ويطلب منه بو مدين، اختيار أحد المطاعم العامة للقاء بعيدا عن الأسماع، ويقول كافي لبومدين تعبيرا، قاله لي وهو يروي ما حدث: الغداء قبل العشاء.
وكان العشاء بالطبع هو تخلص بن بله من بو مدين.
وأتوقف لحظات لأقول إن كلاهما كان وطنيا حتى النخاع، مؤمنا بالانتماء العربي الإسلامي، وحريصا على بناء الجزائر الجديدة، وكان انهيار التحالف الاستراتيجي بينهما ثغرة هائلة في المسيرة الجزائرية، وهنا يأتي الدور المخرب للبطانة التي تداعب غرور الرؤساء.
ويقول عمّي الطاهر بأن : “النقطة الحساسة التي حرصت على إثارتها مع وزير الدفاع (..) نحن نغيّر الوضع، ولكن غدا، لا قدّر الله، قد لا نتفق، فهل سنبقى دائما داخل الأزمات؟ يجب تحديد الوقت لإعادة الشرعية للبلاد (..) ويرد بو مدين قائلا : لا يجب أن نضع أنفسنا في قالب ضيق، فإذا ساعدتنا الظروف سنعيد الشرعية في أقرب وقت، سواء عبر مؤتمر جبهة التحرير أم عبر الانتخابات (ص 113/114) ويواصل العقيد قائلا : كانت خطتنا تحتاج إلى رجال ثقاة (..) وكانت الميليشيات تقلق بال بو مدين كثيرا (..) لذلك سعى إلى تحييدها باستعمال دهائه السياسي، واستقطاب محمود قنز، قائد الميليشيات، إلى صفه (ص 117)
وتنجح العملية، وأتذكر هنا أمران، أولهما أن بو مدين، الذي أصبح رئيسا لمجلس الثورة، كلف الأخ إسماعيل حمداني الاتصال بعناصر المجلس الوطني (البرلمان) الذي كان مجمدا بفعل حالة الطوارئ إثر الغزو المغربي، ليقوم المجلس بتحرير تنازل عن سلطاته لمجلس الثورة، وهكذا يمكن ضمان حجم من الشرعية للقرارات المستقبلية، وهو ما يبرز حساسية بو مدين فيما يتعلق بقضية الشرعية.
وآمل أن تكون لي عودة قريبة.
دكتور محيي الدين عميمور كاتب ومفكر ووزير اعلام جزائري سابق