فوجئ من كانوا حولي في المنزل بانفجاري ضاحكا وأنا أتابع اللقطة التي قدمت اللاعبين الألمان وهم يُغطون أفواههم بأيديهم لإعلان الاحتجاج على قرار قطر بمنع شارات الشذوذ الجنسي من الدخول إلى الساحات الرياضية التي تحتضن مباريات كأس العالم.
وكان أول ما أثار اهتمامي هو أن اللاعبين الألمان كانوا وحدهم من بادروا بكل حماس للترويج للشذوذ الجنسي، ومن هنا حاولت أن أفهم السبب.
وبداية، أنا أرفض استعمال تعبير “المثلية” برغم أنه يترجم فعلا خجل الشواذ من الاعتراف بحقيقة ما يمارسونه، وهم يعترفون، ضمنيا باختيار ذلك التعبير المحايد للدلالة على من يسيرون على خطى قوم لوط، بأنهم يتناقضون مع سنة الكون، بل حتى مع السلوك الحيواني، فلم يُعرف أن حيوانا مارس مع حيوان من نفس الجنس ما يمارس مع الجنس الآخر.
والواقع هو أنني ضحكت لسببين أولهما تذكري تعليقا لرفيق قال وهو يتابع اللقطة المتلفزة: “أولئك معهم حق، فهم لا يحجبون، متعمدين، موقعا آخر كانت أيديهم أحق بستره”، ولا أواصل سرد تعليق الرفيق أدبا واحتراما للمنبر وللقراء.
السبب الآخر الذي جعلني أضحك هو أن الحمقى المتضامنين مع أحفاد قوم لوط يتصورون أن العالم لا يعرف حجم الاغتصابات التي مارسها جنود القوى المنتصرة في الحرب العالمية على نساء الأرض التي احتلت في الأربعينيات، وعدد المواليد الهائل الذي نتج عن تلك الاغتصابات، بحيث من الصعب أن يتمكن مواطنون كثيرون ممن يعيشون هناك، سواء كانوا رياضيين أو غير ذلك، تأكيد انتمائهم إلى الجنس الآري، خصوصا في المناطق التي فُرضت فيها سلطة المنجل والمطرقة.
وأنا لا ألوم الرياضيين الذي كمموا أفواههم، وأيا كان لون بشرتهم، لأنني أتصور أنهم كانوا ينفذون تعليمات معينة فرضت عليهم التصرف الكاريكاتوري الذي لم يرحب به إلا الشواذ، سياسيا أو غير ذلك، فهم ينتمون لشعب ميزته الرئيسة هي الانضباط المطلق لقرارات السلطة العليا، فهم رأسماليون حيث السيطرة الغربية وشيوعيون حيث سيطرة الاتحاد السوفيتي، وقبل ذلك متحمسون للحزب النازي وقائده التاريخ الذي لا يجرؤ أحد منهم اليوم على إعطاء اسمه لمولوده الجديد، ناهيك عن رفع شعاره المعقوف، وكأن الله خلق شعوبا تسير على مبدأ: من يتزوج أمّي فهو عمّي.
والدليل على الانضباط المطلق لكيلا أقول التبعية العمياء هو تصرف الوزيرة التي أخفت شارة الشواذ على ذراعها بارتداء “جاكت” مكنتها من الدخول إلى مدرجات الملعب، وهناك كشفت عن ذراعها الأيسر أمام آلة التصوير وكأنها تعلن انتماءها وتؤكد اعتزازها بذلك.
هكذا قدمت لنا سنة 2022 أكبر خدمة تاريخية آمل أن تصحح الكثير من المفاهيم الخاطئة والادعاءات التي سممتنا بها أجهزة الإعلام الغربية وخصوصا منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية.
فبالإضافة إلى المواقف الغربية تجاه الحرب في أوكرانيا والتي كان سببها الرئيس محاولة “الناتو” محاصرة روسيا استعداد لخنق الصين جاء مونديال قطر ليذكر الحمقى والمستلبين عندنا من أن السرطان الأخطر في عالمنا هو أوربا، التي تنتسب إلى النصرانية اليهودية، باعتراف كهنتهم.
هؤلاء القوم أثبتوا أن إنسانيتهم هي غشاء ملون كذلك الذي يُطلى به الخشب لإخفاء عيوبه (VERNIS) ليبدو براقا يسرّ الناظرين، وأقول هذا وأنا أعرف الحجم الكبير لمن تضامنوا معنا في نضالنا ضد الاستعمار، حتى ولو رأى البعض أن بعض المتضامنين أو جلّهم كانت لهم أهدافهم أو نظرتهم الشخصية.
وربما كان من حسن الطالع اقتران سقوط الأقنعة التي كانت تخفي حقيقة الغرب بحجم من الغباء الإعلامي الذي يذكر بالمثل الشعبي : “جاء يكحلها عماها”.
فقد نزعت السلطات الرياضية “النزيهة” من الرئيس فلاديمير بوتين وساما رياضيا كان حصل عليه في السنوات الماضية، وبغض النظر عن أن هذا يُعتبر موقفا سياسيا يسيئ إلى هيئة دولية تدعي أنها تستبعد السياسة من مواقفها فإنه يمكن أيضا أن يكون تأكيدا غير مباشر لـ “تسييس” المؤسسة المانحة، لأنه يطرح احتمال أن يكون الوسام قد مُنِح للرئيس الروسي لدوافع سياسية أو غازية أو بترولية، ولم تكن مسوغات رياضية، وتسقط بالتالي ادعاءات الهيئة الرياضية.
ولن أضيف هنا التعامل الشرس مع رياضيين عرب عبروا عن تضامنهم مع الجهاد الفلسطيني، والذي كان من بيننا، للأسف، من وقف مع الغريب بدلا من القريب.
وربما يكون الاستنتاج المنطقي أن الأوربيين اليوم هم نتاج عملية المخاض الهائلة التي عاشها العالم منذ عهد الإمبراطوريات التاريخية والتي كانت الحرب الصليبية من أبرز أحداثها بالنسبة لنا.
وعندما نتوغل قليلا في استرجاع الوقائع التاريخية سنكتشف حجما من الوحشية الغربية لم تعرفه مسيرة التاريخ العربي والعربي- الإسلامي، حتى خلال أبشع مراحله التترية المغولية، وهو ما كان سببا في تعاملنا الساذج أحيانا مع الشمال.
ولقد كنت في صدر شبابي ممن يُعجبون بالبريطانيين، تعاملا شخصيا وتصرفات اجتماعية، لكنني اضطررت لمراجعة نفسي وأنا أقرأ عن مأساة حرب الأفيون مع الصين، حيث جعلت بريطانيا في صلب برامجها الرسمية المعلنة تسميم شعب بأكمله خدمة لمصالحها.
ثم فوجئتُ عندما راجعتُ بعض مراحل التاريخ البريطاني، وبعيدا عن أسلوب تخلص هنري الثامن من أزواجه، فوجدتُ أن البريطانيين أخرجوا رفات “كرمويل” من قبره وعلقوها على حبل المشنقة انتقاما من إعلانه الجمهورية على حساب عهد شارل الأول.
وأن يُعدم متهم فهذا أمر يهُمّ القضاء، أما أن يُعدم ميت وتُعلق عظامه في مكان عام فهذا أمر يثير الإزدراء لأنه ليس تصرفا جديرا بدولة عريقة.
وهم هنا يحتلون نفس “المكانة” مع الفرنسيين، فلا ننسى إعدامات “دنشواي” الظالمة، ولا ننسى إعدام جان دارك حرقا، وبعد ذلك إعدام الفرنسيين سليمان الحلبي بالخازوق، بدون التذكير بالأسرى الذين أعدمهم نابليون في فلسطين وكان منهم مسيحيون شرقيون، أو التذكير بإعدام عمر المختار في شيخوخته، بل إعدام قيادات النازي بالمشنقة، في حين أنهم عسكريون وكانوا يطالبون بأن يُعدموا بالرصاص.
ولن أتحدث عن جرائم الفرنسيين في الجزائر والإيطاليين في ليبيا ولن أذكر بوعد بالفور ولا بوعود لورنس والتناقض بين نتائج هذه وذاك، أي بين نكث الوعود هنا والوفاء بها هناك، كما لن أتناول جرائم الإسبان والبرتغاليين في أمريكا الجنوبية وجرائم شراذم أوربا في أمريكا الشمالية وفي الوقت نفسه جرائم هولاندا في الجزر الآسيوية.
وقائمة جرائم الألمان في ناميبيا لا تقل عن قائمة جرائم البلجيكيين في الكونغو، حتى بعد استقلالها، عندما تمت تصفية لومومبا بأسلوب بشع.
هكذا يبدو أن الجنس الأوربي يفتقد المشاعر الإنسانية في تعامله مع الجنوب، ولولا ما ارتكبه السوفييت في أفغانستان لاعتبرتهم من فصيلة غير أوربية، فلم تتعرض بلداننا لأي حيف من الروس أو الصينيين أو اليابانيين.
وما أحاول أن أصل له بكل بساطة هو أن علينا أن نراجع مشاعرنا تجاه كل ما هو أوربي، ولا أقول كل ما هو كاثوليكي أو بروتستانتي، فما يثبت كل يوم أكثر فأكثر هو أن روح العداء كامنة في نفس كل أوربي تنتظر فرصة التعبير عن نفسها عندما لا تكون هناك مصالح حيوية تفرض عليهم ابتسامات النفاق.
وحقيقي أنهم عباقرة في التحبب وفي التودد، وفي توزيع الأدوار على عناصرهم، فهذا يلعن وذاك يتحبب وهذا يقذف الأحجار وذاك يلقي الزهور، وحقيقي أن فيهم كثيرون لا يمكن أن تسجل عليهم ممارسات العداء تجاه عربي أو مسلم، إن لم أقل العكس، حيث نرى منهم التسامح واللطف، لكن السؤال الحقيقي هو هل هذا هو المادة الحقيقية التي تتكون منها مشاعرهم أم أنه مجرد طلاء أقرب إلى القشرة الذهبية التي تغلف بها حليٌّ نحاسية.
هنا أصل إلى هدفي الحقيقي من هذه السطور، فبعيدا عن أي “بارانويا” مصطنعة أو حقيقية، علينا أن ندرك جميعا، مسلمون ومسيحيون ولا دينيون ولا مبالون أن هناك في الشمال كثيرون يتعاملون معنا، بحكم حاجتهم لنا، كمن يتعامل مع مصابين بجذام لا شفاء منه، وضعتهم الجغرافيا والجيولوجيا في وسط الطريق، والالتفاف حولهم طريق نحو القضاء عليهم.
وإذا لم يمكن تحقيق ذلك بالأسلحة المختلفة فالأوبئة يمكن أن تقوم مقامها، والمعلومات التي تم تداولها عن جائحة الكورونا يمكن أن يكون لها حجم من المصداقية، مثلها في ذلك مثل إصابات “الإيدز” التي قيل أن وراءه اختبارات معملية غربية استعملت دماء القرود.
ثم هناك ما تتعرض له مجتمعاتنا من تسريبات المبادئ الهدامة والأخلاقيات المنحرفة ومحاولات تدمير الروابط الأسرية وتفتيت التجمعات الإقليمية وتخريب المجتمعات الوطنية.
ويكفي أن نتخيل للحظات ماذا يمكن أن يحدث لو اختفت المواد الأولية فجأة من بلداننا، نفطا ويورانيوم وفوسفات وغيرها، وماذا لو لم تعُد أسواقنا تستورد السيارات والساعات واليخوت والقمح والأجبان ومواد التجميل وأصناف المشروبات الكحولية.
وقد يكون في كل ما أقوله حجم من المبالغة لكنه رأيته ضروريا لطرح التساؤل الحيوي: كيف سيتصرف الشمال عندما لا تبقى لديه أي فائدة من وجودنا، وخصوصا إذا كان هذا الوجود يؤثر سلبا على بعض مصالحه كما يراها؟.
ألن يكون مصيرنا شيئا كمصير الهنود الحمر، بغض النظر عن التسمية غير الحقيقية وهو ما سوف يتم على مراحل تبدأ بالثور الأبيض.
ولقد صدق الرئيس هواري بو مدين عندما قال في السبعينيات إن القضية ليست صراعا بين الشرق والغرب ولكن بين الشمال والجنوب
ألا يجعلنا هذا نفكر الآن في محاولة جمع شملنا، على الأقل، ليكون صوتنا أقوى في الدفاع عن مصالحنا الحيوية، بل عن وجودنا نفسه؟.
ولأن الوطنية بمنطق ملوك الطوائف هي السمة الغالبة لتصرفاتنا جميعا في هذا الزمن الرديء فهل من باب المجازفة اللفظية أن أطالب بأن يتراجع كل منا خطوة إلى الخلف لكيلا تدفعنا الحماقة نحو الشوفينية وتجاوز حدود المشاعر الوطنية الحكيمة.
ولقد ناديت أكثر من مرة بوقفة أمام النفس نمارس فيها نقدا ذاتيا يمكن أن يقود إلى تصحيح المسار، وإلى مراجعة مواقفنا السياسية والاقتصادية لتكون أكثر انسجاما مع مصالحنا الحقيقية، حتى يمكن تحقيق الحد الأدنى من الانسجام الإقليمي الذي يمكن أن يقود إلى شيئ يشبه تنظيم الاتحاد الأوربي.
وإذا كانت القيادات العليا، سلطات ومعارضة ونخب طليعية مثقفة، لم تصل بعد إلى تحقيق هذه الوقفة فهل يمكن أن يقوم بها اليوم شباب لم يتحمل بعدُ مسؤوليات قيادية مباشرة تحول بينه وبين إدراك مدى الخطر الذي يتهدد وجودنا كأمة، خصوصا وأن بجوارنا من لا يسعده أن نكون أمة.
دكتور محيي الدين عميمور مفكر ووزير اعلام جزائري سابق