أنطلقنا فى هذه المقالات من فرضية جديدة وهى أنه إذا صلحت الرعية صلح الراعى وكانت الفرضية القديمة أنه إذا صلح الراعى صلحت الرعية ولاشك أن الراعى بسلطته واحتكاره لادوات السلطة خاصة الإعلام وطرق العيش ومصادره يستطيع أن يؤثر على الرعية كان ذلك فى الماضى ولايزال كذلك فى الحاضر وطبيعى أن يكون حديثنا للمستقبل وليس لاصلاح الراعى الحالى فى أى من الدول العربية لأن الراعى الحالى تسلم السلطة فى ظروف معينة وتربى وفق ثقافة معينة وأهمها أن الحاكم المرهوب خير من الحاكم المحبوب على عكس الدول الديمقراطية فإن حب الناس للحاكم بسب سياساته يدفع الناس إلى انتخابه ولذلك فإن مشروعية الحاكم فى الدول الديمقراطية تنحصر فى رضا المحكومين ومادامت قواعد العلاقة بين الحاكم والمحكوم فى المنطقة العربية مختلفة تمليها اعتبارات تكرست عبر آلاف السنين فإنه من الطبيعى أن نعالج اصلاح الحاكم واصلاح المحكوم بشكل منفصل وإن كان إصلاح الحاكم يؤثر تأثيرا كبيرا على إصلاح المحكوم بل إن بعض النظريات تذهب إلا أن فساد الحاكم يؤدى إلى فساد المحكوم ولا يجوز للحاكم الفاسد أن يتصدر كتيبة الإصلاح ومكافحة الفساد .
وهذه المقالة تركز على العوارض أو الأمراض التى أصيبت بها الرعية عبر العصور ونقتصر فى هذه المقالة على مصر والمصريين دفعا للحرج والجهل بأحوال غيرنا .
المشكلة الأولى مرتبطة بمعادلة السلطة فى مصر فقد كانت مصر تاريخيا بعد عصر الفراعنة يحتلها الأجانب واستمر ذلك لآلاف السنين ونتج عنه أن الشعب المصرى لا شأن له بالأجنبى الذى يهزم الأجنبى الآخر ويحتل مصر مكانه ولذلك لم تعرف مصر فى تاريخها جيوشا وطنيا وانما كانت الجيوش تابعة للغازى الجديد ونادرا ما استعان الغازى الجديد بالمصريين فعندما غزا التتار بغداد أرسلوا إلى حاكم مصر المملوكى فى القرن الثالث عشر يهددونه وينذرونه بأن يسلم قبل أن يصلوا إلى الحدود ولكن الظاهر بيبرس شن حملة عليهم مقدما خارج الأراضى المصرية واستعان فى ذلك بالمتطوعين من المصريين لأن التتار كانوا يرتكبون مجازر وفظائع للشعوب التى يحتلونها أما فى سوريا زمن العز ابن عبدالسلام فقد أراد سلاطين المماليك أن يجمعوا الضرائب لتمويل حملة مواجهة التتار ولكن العز اشترط عليهم أن يبعوا حليهم الشخصية أولاً ثم إذا احتاج الأمر يدفع الناس الضرائب ولكن هذا الحال لم يكن فى مصر ومعلوم أن الحملة المملوكية فى مصر ضد التتار قد تم تمويلها من الأموال الخيرية من المتبرعين واموال الزكاة. أى أن الشعب المصرى لم يكن له علاقة بالسلطة وانتج مجموعة من الأمثال الشعبية التى تناسب هذه الحالة.
ولاشك أن قطاعات من الشعب المصرى كانت تتعامل وتقدم الخدمات للمحتل ولم يكن ذلك ضد الوطنية فقد كان من عادة مصر أن يحتلها الأجنبى بدأ ذلك بالاسكندر الأكبر عام 332 قبل الميلاد ثم جاء الرومان فأزاحوا اليونانيين عام 32 ق م عندما حاربتهم كليوباترا أخر ملوك البطالسة وهم فرع من اليونانيين على ما هو معروف فى التاريخ .
أما الغزو الفرنسى فى نهاية القرن الثامن عشر فقد قاومه المصريون رغم أن المماليك كانوا يحكمون مصر وقد اشتركوا أيضا فى المقاومة ثم سجل التاريخ ثورة القاهرة الأولى والثانية ضد القائد كليبر الذى تركه نابليون وغادر إلى فرنسا للقفز على السلطة فى غمار الثورة الفرنسية ثم اضطرت القوات الفرنسية إلى الرحيل عام 1803 ولم يكن محمد على باشا مصريا وإنما كان البانيا وعضوا فى القوة التركية التى كانت فى مصر تاريخيا منذ احتلال الاتراك لمصر عام 1417 ولذلك لم يسجل التاريخ ضحايا مصريين هبوا للدفاع عن مصر لأن الغازى القديم كان هو المستهدف .
ثم أن المصريين ورثوا وتوارثوا الصفات التى خلفها الفارعنة وأهمها تقديس السلطة وعدم الثورة عليها ولذلك نجد فى تاريخ مصر أن الثورات التى قام بها المصريون كانت ضد الحكم الأجنبى ولم تكن ضد الحاكم المصرى حتى ثورة 25 يناير 2011 .
المشكلة الثانية أن الحاكم فى مصر خاصة الحاكم الوطنى قد تعرض لضغوط من الخارج بسبب أهمية مصر فى المنطقة ولهذا الخارج وانعكس ذلك على الشعب المصرى بحيث أصيب الحاكم فى مصر بأنفصام الشخصية فهو لين مع الخارج وفى متنهى القسوة مع الداخل وهكذا شاعت وسائل التربية فى الأسر المصرية عبر العقود فإذا أردنا أن نصلح العلاقة بين الحاكم والمحكوم فلابد أن نبدأ بإصلاح العلاقة بين رد الأسرة وأعضاء الأسرة فقد كانت الأسر المصرية حتى وقت قريب متماسكة وكانت سلطة رب الأسرة على الأبناء مطلقة ولكن التطورات الخارجية وتأثر المجتمع المصرى بالمجتمعات الأوروبية بوسائل متعددة أضعفت سلطة رب الأسرة على اعضاء الأسرة وأصبح الشارع يسهم بقدر كبير في تشكيل الشسخصية المصرية ثم أن الحاكم فى مصر اعتنق عدد من النظريات لكى يدير السلطة وهذه نظريات هى التى افسدت العلاقة بين الحاكم والمحكوم فمن ناحية ترفع الحاكم عن المحكوم رغم مايعكسه خطابه السياسى أنه يمثل المحكوم وتعاطفه معهم .
ومن ناحية أخرى اهتم الحاكم بدعم نظامه بمجموعة من المنتفعين ومن ناحية ثالثة قسم الحاكم الشعب إلى فئتين فئة تناصره وهذه تستحق المواطنة وفئة أخرى لها ملاحظات عليه وهذه فئة تعادى الوطن مادام الحاكم اعتبر نفسه هو الوطن وهذه مسألة نفسية ثقافية يجب تفكيكها وإن كانت صعبة وتستغرق وقتا طويلا .
المشكلة الثالثة هى أن الحاكم تعلق بالسلطة ومقتضيات المنصب الذى أثر فيه الخارج تأثيراً كبيرا إما تأثيرا شخصيا أو تأثيرا موضوعيا ولذلك عمد الحاكم إلى اخضاع المحكوم وليس حريصا على رضائه ويعتبر نقد المحكوم له عدم تقدير ومخالفة للتقليد الفرعونى الذى توارثه المصريون ولذلك فإن الحكومة صادقة فى الاساس إلى أن يثبت العكس وكل ما هو حكومى كان مصدر ثقة قبل أن يدخل الشك بين الحكم والمحكومين .
المشكلة الرابعة وهى أن الأوضاع الاقتصادية تؤثر على موقف الشعب من السلطة وهناك خطأ تاريخى ارتكبه حكام مصر منذ عام 1952 وهو تغييب العقل عن طريق الإعلام ونشر الأكاذيب وعدم المصارحة بالحقائق ومحاولة توحيد الناس في قالب واحد بغير عقل على تصديق الحاكم رغم كل شئ.
والخلاصة أن إصلاح الحاكم يؤدى إلى اصلاح المحكوم ينتج حاكمين على كل المستويات لا تثريب عليهم وجوهر المشكلة هو تعلق الحاكم بالسلطة وامتيازات السلطة وتضليل العقل الجمعى وأن شرعية الحاكم أما فى بطشه وإما فى الخارج الذى يؤيده ثم ظهرت إسرائيل من سبعين عاما فأصبحت العقبة الأساسية فى علاقة الحاكم بالمحكوم والسؤال الحتمى هو هل يمكن اصلاح المحكوم والحاكم بعد كل هذه العقبات؟.
الاجابة أنه لابد من ذلك لكن ذلك يحتاج إلى برنامج تفصيلى تتبناه نخب جديدة لأن النخب القديمة قد فسدت وتجاوزها الزمن.
السفير د. عبدالله الأشعل كاتب ودبلوماسي مصري