تستعر لغة الحرب والسلام بشأن الحرب الدائرة في وسط شرق أوروبا، ويصحوا العالم كل يوم على خليط من التطورات والتصريحات والمواقف والتحليلات المتضاربة حول هذا الصراع الذي يترك مع مرور الأيام مزيدا من الأزمات والمشاكل الاقتصادية والسياسية والتوترات العسكرية في كل أرجاء المعمور.
عندما اندلعت الجولة الثانية من حرب أوكرانيا في 24 فبراير 2022 تحدث البعض من المحللين والسياسيين عن حرب خاطفة ينتصر فيها الكرملين بينما ذهب آخرون إلى أن المواجهة المسلحة ستدوم لسنوات وأن الولايات المتحدة وحلفاؤها سيفرضون على روسيا حرب استنزاف عسكرية واقتصادية تنتهي بهزيمة موسكو وتثبيت النظام العالمي الأحادي القطب وإجبار الصين على التخلي عن تطلعاتها لإزاحة الولايات المتحدة من مقعد هيمنتها على العالم. فئة ثالثة رجحت أن تتوقف الحرب بدون منتصر أو منهزم واضح كما حدث في الحرب الكورية خلال عقد الخمسينات من القرن الماضي أو كما هو الشأن بالحرب شبه الدولية الدائرة على أرض بلاد الشام منذ منتصف شهر مارس 2011.
اليوم ومع اقتراب سنة 2022 من نهايتها تبقى الحالة الضبابية مهيمنة، وإن كانت هنالك معطيات يمكن بها ترجيح مصداقية أحد التوقعات السابقة.
هناك عدد من المعطيات المثبتة حتى شهر نوفمبر 2022 والتي يمكن أن تسهل التقدير: الحصار الاقتصادي والعقوبات الغربية المفروضة على روسيا لم تأت بالنتائج المرجوة من طرف واضعيها، بل تضررت دول أوروبا أكثر من الكرملين ويتأرجح الاقتصاد الأمريكي بين السالب والموجب. التحالف الأوروبي يتعرض لانقسامات تشتد تجاه مواضيع عدة. هناك عودة غير منضبطة لبعض من الدول الأوروبية المجاورة لأوكرانيا في المطالبة بإعادة رسم الحدود التي تمخضت عنها اتفاقيات نهاية الحرب العالمية الثانية "بولندا وهنغاريا". الأزمة الاقتصادية في العديد من دول الاتحاد الأوروبي تهدد بوقف دعمها المادي والتسليحي لسلطات كييف. زاد عدد الدول المتمردة على إملاءات واشنطن والغرب الأوروبي في دعم مواقف البيت الأبيض ضد الكرملين. الرهان على وقوع اضطرابات اجتماعية في روسيا بسبب الحرب والحصار الاقتصادي لم تتحقق حيث أن التضخم وارتفاع الأسعار داخل روسيا الاتحادية يبقى أقل من مثيلاته في جل دول الغرب، زيادة على ذلك واصلت موسكو تجاوز طوق الحصار وغدت تستقبل كل ما تريد من السلع والمعدات غير المتوفرة داخليا عبر شركات وأطراف ثالثة ونفس الأمر مع صادرات النفط والغاز والسلع الأخرى.
على عكس ما رغب فيه غربيا في عزل روسيا دوليا، توثق تعاون الكرملين مع مزيد من الدول حتى في المجال العسكري مثل إيران وكوريا الشمالية وفي أفريقيا تواصل ما يوصف غربيا بالتمدد الروسي خاصة على حساب فرنسا. في أمريكا اللاتينية تتقلص الحكومات المحسوبة في اختياراتها على التحالف الغربي وترفع المكسيك والبرازيل راية الاعتراض على طلبات البيت الأبيض. الخلافات بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة خاصة على الصعيد الاقتصادي تغلي حتى الآن على نار هادئة، فقد وجدت أوروبا أن واشنطن تجني على حسابها وتستغل الحرب لترحيل الثروات والتقنيات والأطر نحو أسواقها.
هناك سؤال يفرض طرح نفسه حتى اللحظة في منتصف شهر نوفمبر 2022، وهو ألا يلعب استمرار أمد الحرب في وسط شرق أوروبا في غير صالح المعسكر الغربي، وهل فعلا يرغب ساسة الكرملين في عدم حسم الحرب لأشهر أخرى حتى تنضج التناقضات والأزمات في المعسكر المعادي؟.
شكوك كثيرة تدور حول النوايا الغامضة وراء تكتيكات موسكو العسكرية. الجيش الروسي لا يستخدم إلا عددا جد ضئيل من قواته الجوية منذ بداية المواجهة أقل من 4 في المئة. يمتلك الجيش الروسي أكثر من 4144 طائرة حربية بينها 789 مقاتلة، و742 طائرة هجومية، كما يمتلك الجيش الروسي 1540 مروحية عسكرية منها 538 مروحية هجومية.
الأمر مشابه بالنسبة للقوات البرية فمن بين نحو 15 ألفا وخمسمائة دبابة، و27 ألفا و607 عربات عسكرية، ونحو 3781 منصة إطلاق صواريخ من مختلف الأنواع لم يتم استخدام سوى نسبة 8 إلى 10 في المئة على الساحة الأوكرانية وأغلبها من المعدات القديمة نسبيا. زد على كل ذلك لم تضرب وتشل القوات الروسية البنية التحتية الأوكرانية خاصة السكك الحديدية وطرق المواصلات والموانئ ومنابع إنتاج الطاقة سوى بشكل انتقائي ومحدود.
سؤال آخر مناقض يجب طرحه وهو هل تنجح واشنطن في تبديل مسار التطورات السلبية التي يواجهها معسكرها لتتحول إلى الطرف الرابح؟. وهل بالفعل يقتنع ساسة واشنطن بإمكانية إضعاف التحالف الصيني الروسي؟.
المنتصرون في الحرب العالمية الأولى قسموا العالم إلى مناطق نفوذ ومستعمرات، وتكرر الأمر بصورة مشابهة بعد الحرب العالمية الثانية. غير أن الصراع بين المعسكر الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفيتي والصين والمعسكر الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة وبريطانيا وضع خطوطا حمراء للتمدد من طرف القوى الاستعمارية التقليدية الغربية وفتح المجال لبروز دول استطاعت أن تحافظ على درجة عالية من الاستقلال تحت لواء حركة عدم الانحياز بعد أن خاضت غالبيتها مواجهات سياسية وعسكرية ضد مستعمريها وهذا خلق نوعا من التوازن تحت نظام عالمي متعدد القطبية. الأوضاع كادت أن تنقلب مجددا بصورة كاملة في نهاية العقد التاسع من القرن العشرين مع انهيار الاتحاد السوفيتي، حيث فرض نظام القطبية الواحدة. على مدى أكثر من عقدين عانت دول العالم الثالث من تقلص سيادتها وحريتها، ووصل الأمر إلى التبجيل للقرن الأمريكي الذي تنبأ البعض أنه سيكون علامة في نهاية التاريخ.
مع الدخول إلى العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين احتدت مرة أخرى المعركة بين قوى النظام الأحادي العالمي من جهة وروسيا وريث الاتحاد السوفيتي ومعها الصين المنافس الأساسي للقوة الاقتصادية الأمريكية والغربية من جهة أخرى. وسط هذا التطاحن تجد سواء دول العالم الثالث الضعيفة أو الدول الناهضة في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية ضوءا في نهاية النفق للعودة إلى عالم أكثر توازنا وعدلا كالذي ساد لعقود بعد الحرب العالمية الثانية.
مسار الحرب الدائرة في وسط شرق أوروبا والمحتدمة منذ 24 فبراير 2022، هو الذي سيحدد ما إذا كان العالم سيبقى في ظل النظام العالمي الأحادي أو النظام المتعدد. الوضع سينعكس على كل شعوب الأرض اقتصاديا وسياسيا وسيرسم خطوط تطور الصراعات من الشرق الأوسط وأفريقيا عبر آسيا والأمريكتين وأوروبا.
الدوافع والمصالح
نشرت صحيفة أوراسيا ديلي يوم 12 نوفمبر تحليلا كتبه سيرغي ميركين جاء فيه:
في الأيام الأخيرة، ظهرت منشورات في وسائل الإعلام الغربية تفيد بأن مفاوضات جديدة قد تجري بين روسيا وأوكرانيا، وأن الولايات المتحدة تدفع كييف بشكل غير رسمي نحو ذلك.
ولكن ما حاجة الأمريكيين إلى استئناف المفاوضات بين موسكو وكييف؟ هناك عدة احتمالات.
وفقا لإحدى النظريات، الولايات المتحدة تخلق وهم أنها تريد السلام. وهذا ضروري من أجل طمأنة السياسيين الأوروبيين والجمهور الأوروبي. فكلما اقترب فصل الشتاء، ازدادت معاناة أوروبا من الحرب. تتحمل أوروبا، بسبب العقوبات المفروضة على روسيا، تكاليف اقتصادية أكبر بكثير من الولايات المتحدة. وهذا يعني أن للاتحاد الأوروبي مصلحة في إنهاء هذا الصراع في أسرع وقت ممكن.
من ناحية أخرى، للولايات المتحدة مصلحة في استمرار الأوروبيين بتمويل أوكرانيا. وهذا هو السبب في أنهم يخلقون الوهم بأن كييف في حاجة إلى التحلي بالصبر مدة أخرى، وأن الصراع سينتهي.
النظرية الثانية تقول إن الولايات المتحدة بحاجة إلى هدنة شتوية. يخشى الأمريكيون أن يدمر الجيش الروسي في الشتاء نظام الطاقة في أوكرانيا. فإذا ما بقيت أكبر مدن أوكرانيا بلا كهرباء وماء وتدفئة، سيبدأ الانهيار في جميع أنحاء البلاد. في سياق الأعمال القتالية، هذا يعني انهيار العمق، ويعني هزيمة أوكرانيا. ولا يمكن للولايات المتحدة أن تسمح بذلك.
وتقول النظرية الثالثة أن الأمريكيين يريدون "عملية مينسك" جديدة. لا يهم ماذا سيطلق عليها- عملية اسطنبول أم الرياض- وفي الوقت نفسه، لن يرفع الغرب العقوبات عن روسيا. وأوكرانيا، بالطبع، سترفض أي ضمانات بعدم الانضمام إلى الناتو. في الوقت نفسه، ستنتظر أوكرانيا ورعاتها الغربيون اللحظة المناسبة لهم لبدء حرب أوسع ضد روسيا.
هل روسيا في حاجة إلى هدنة؟ هناك مدخلان متعارضان تماما. وفقا للأول، تحتاج روسيا إلى التقاط أنفاسها ليس أقل من أوكرانيا. لكنها، وفقا لمدخل آخر، من خلال الموافقة على الهدنة، ستضيع فرصة إنهاء أوكرانيا.
ما هي الأهداف الحقيقية للأمريكيين؟ هل ستكون هناك مفاوضات أم لا؟ من شأن الزمن وحده أن يعطي إجابة عن هذا السؤال.
يوم 10 نوفمبر صرح العقيد دوغلاس ماكغريغور المستشار السابق للبنتاغون الأمريكي، إن جيك سوليفان مستشار الأمن القومي الأمريكي طلب من زيلينسكي أن يكون لطيفا وأن يعطي الانطباع الواهم بأن كييف تريد الدخول في مفاوضات سلام مع موسكو، حتى لو لم ينفع ذلك.
وذكر العقيد دوغلاس في مقابلة مع قناة "Judging Freedom"، أن سوليفان وزيلينسكي اتفقا على التظاهر بوجود رغبة عند كييف لإجراء مفاوضات سلام مع روسيا.
موجة حمراء
هؤلاء الذين راهنوا من منطلق بحثهم عن مؤشرات للتسوية التفاوضية للصراع في أوكرانيا على حدوث تحول أساسي في التركيبة السياسية بواشنطن لم يروا آمالهم تتحقق ولكن. رغم عدم تجسد ما سماه البعض في أمريكا بموجة حمراء أي فوز الجمهوريين بأغلبية مريحة في مجلسي النواب والشيوخ وذلك خلال الانتخابات النصفية التي جرت يوم 8 نوفمبر 2022، فإن جهود الرئيس الأمريكي بايدن وطاقمه في البيت الأبيض لمتابعة دعم أوكرانيا عسكريا وماديا تبقى مهددة لأنه ضمن أعضاء الحزب الديمقراطي في الكونغريس الأمريكي عدد من النواب "اعيد انتخابهم" الذين يريدون وضع حد لتقديم شيك على بياض لسلطات كييف وهؤلاء يمكن أن ينضموا إلى النواب الجمهوريين لفرض رؤيتهم على البيت الأبيض.
يذكر أنه يوم 24 أكتوبر 2022 دعا 30 من أعضاء في مجلس النواب الأمريكي عن الحزب الديمقراطي الرئيس جو بايدن إلى السعي للتفاوض مع موسكو بحيث يشمل استكشاف إمكانية التوافق على ترتيبات أمنية تكون مقبولة من الطرفين. ومحاولة التوصل إلى تسوية تنهي الأزمة الأوكرانية. وطالبوا في رسالة بالتعامل بشكل مباشر مع روسيا لإيجاد حل. رغم تراجع هؤلاء النواب بعد تقديم طلبهم ب 24 ساعة تحت ضغوط مختلفة إلا أن ذلك لا يمنع تجدد طلباتهم.
على الصعيد الرسمي الأمريكي تتقلب المؤشرات بين تقديم مزيد من الدعم العسكري والاقتصادي لحكومة أوكرانيا، وتزايد التصريحات الرسمية عن التفاوض وعدم فرض ضغوط على كييف للتوصل إلى تسوية مع تقلص نسبي في المطالبة بتكبيد الكرملين هزيمة عسكرية وسياسية.
فيوم 10 نوفمبر صرح مستشار الأمن القومي للرئيس الأمريكي جيك سوليفان، بأن واشنطن لا تمارس ضغوطا على كييف بشأن مسألة المفاوضات مع موسكو، لكنها تقدم المشورة والدعم إلى كييف.
خسارة الشركاء
بغض النظر عن النوايا الحقيقية للبيت الأبيض تجاه أشكال التسوية مع الكرملين تشتد المخاوف في بعض الأوساط الغربية من تقلص النفوذ الأمريكي.
يوم 1 نوفمبر 2022 أفادت مجلة ناشيونال إنترست "National Interest" الأمريكية، بأن واشنطن فشلت في فرض موقفها من الأزمة الأوكرانية والعقوبات ضد روسيا على شركائها، وفشلت في الحصول على دعم من قوى مهمة في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية.
ووفقا للمجلة: "لم يستجب المسؤولون الأمريكيون بشكل جيد للموقف الحذر للقوى الرئيسية في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية. وبدلا من ذلك، أصبح البيت الأبيض والشخصيات الرئيسية أكثر حزما وغضبا وحتى انتقاما، مما أدى إلى زيادة عزل هذه البلدان.. تؤكد الصين والسعودية وتركيا على أخطاء السياسة الأمريكية".
وأضافت، أكبر ضربة لواشنطن كانت الفشل في فرض موقفها من العقوبات ضد روسيا، على الصين والهند، والضغط على الشركاء وحتى التهديدات ضدهم لم يكن حلا فعالا لإجبارهم على إعادة النظر في موقفهم من الأزمة الأوكرانية وروسيا.
وأشارت الصحيفة، إلى أنه بدلا من التودد إلى شركاء مهمين مثل الصين والمملكة العربية السعودية وتركيا، طالبت إدارة بايدن بإصرار هذه الدول بالامتثال لرغباتها، ولم يكن المسؤولون على استعداد حتى لوضع الخلافات القائمة مع بكين والرياض وأنقرة جانبا، من أجل زيادة فرص الحصول على تعاون منهم في المسألة الروسية.
وشددت على أن اللوم في تدهور العلاقات مع الشركاء يقع على عاتق القيادة الأمريكية، التي لم تتأكد مسبقا ما إذا كان الشركاء الإقليميون سيدعمون دعوة واشنطن لفرض قيود على روسيا وعزلها.
الخلاف الأوروبي الأمريكي
على وقع أزمة الطاقة وزيادة نسب التضخم، تتعاظم الخلافات بين الدول الغربية وتظهر بشكل أكبر إلى العلن مهددة بإنفراط التحالف الغربي ضد روسيا.
يوم 8 نوفمبر صعد العديد من القادة الأوروبيين لهجتهم ضد الإعانات الضخمة التي تمنحها الولايات المتحدة للشركات على أراضيها ملوحين بملاحقاتها أمام منظمة التجارة العالمية، ما ينذر بنزاع تجاري جديد بين ضفتي الأطلسي.
ويأتي تصاعد التوترات بين القوتين الغربيتين الكبيرتين بعد إقرار "قانون خفض التضخم" في الولايات المتحدة خلال الصيف. ويعد هذا القانون أكبر استثمار تم إقراره في مجال مكافحة تغير المناخ، إذ يرصد 370 مليار دولار لبناء المراوح الهوائية والألواح الشمسية ودعم قطاع السيارات الكهربائية.
ومن بين التدابير التي استقطبت الانتقادات، خفض ضريبي يصل إلى 7500 دولار مخصص لشراء سيارة كهربائية من مصنع في أمريكا الشمالية مع بطارية محلية الصنع، وبالتالي استبعاد السيارات المصنعة في الاتحاد الأوروبي.
وتثير هذه الخطوة غضب أوروبا وتتهم الولايات المتحدة بتوفير دعم استثنائي للشركات المنتجة على أراضيها، وهو ما يتعارض تماما، برأي الأوروبيين، مع قواعد التجارة العالمية.
وبعد توجيه انتقادات على مدى أسابيع، لوح مسؤولون أوروبيون الاثنين 7 نوفمبر باللجوء إلى تدابير قضائية.
وخلال مقابلة أجرتها معه قناة "بي إف إم بيزنس" التلفزيونية قال المفوض الأوروبي تييري بروتون "سننظر بالطبع في تدابير للرد"، مشيرا إلى إمكان اللجوء "إلى منظمة التجارة العالمية" لتقديم الحجج إذا أصرت واشنطن على تجاهل انتقادات الاتحاد الأوروبي.
ومن المقرر تشكيل "فريق عمل" مشترك بين بروكسل وواشنطن في مسعى أولي لتبديد الهواجس الأوروبية.
وخلال الأسابيع الأخيرة، تم التطرق صراحة إلى خطر اندلاع "حرب تجارية" بين المنطقتين الحليفتين.
وخلال زيارة أجراها إلى برلين شهر أكتوبر، دعا وزير الاقتصاد الفرنسي برونو لومير إلى تجنب حرب كهذه، كما تطرق المستشار الألماني أولاف شولتز لخطر اندلاع "حرب جمركية كبرى".
والاثنين 7 نوفمبر 2022، قال لومير في مقابلة أجرتها معه أربع صحف أوروبية " تتراوح قيمة الإعانات التي تقدمها إدارة بايدن بين أربعة وعشرة أضعاف المبلغ الأقصى الذي تسمح بتقديمه المفوضية الأوروبية"، مشيرا إلى أن هذا الأمر يستدعي "ردا منسقا وموحدا وقويا". وشدد لومير على أن "استثمارات بـ 10 مليارات يورو وآلاف الوظائف الصناعية" على المحك.
ويزداد توجس الدول الأوروبية إزاء هذا الموضوع جراء تزايد خطر دخول القارة في ركود عام 2023 والعواقب الاقتصادية للحرب الدائرة في أوكرانيا. وتسجل أسعار الطاقة ارتفاعا ما يضعف العديد من الشركات.
ذنب عظيم
إضافة إلى خلافات أوروبا الاقتصادية مع واشنطن يسجل أن أقوى اقتصاد أوروبي يسير عكس تيار واشنطن في العلاقات مع أخطر منافسيها أي الصين.
أعرب كل من الرئيس الصيني شي جين بينغ والمستشار الألماني أولاف شولتس خلال لقائهما في بكين يوم الجمعة 4 نوفمبر 2022، عن تطلعهما لمواصلة تطوير التعاون الاقتصادي بين البلدين.
ونقل التلفزيون الصيني عن شي قوله خلال الاجتماع مع شولتس: "أنتم أول زعيم أوروبي يزور الصين منذ المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي الصيني، وهذه هي أيضا زيارتكم الأولى للصين منذ توليكم منصبكم. وأنا على قناعة في أن هذه الزيارة ستعزز التفاهم المتبادل والثقة المتبادلة بين البلدين، ستسهم في تعميق التعاون العملي في مختلف المجالات ووضع خطط لمواصلة تنمية العلاقات بين الصين وألمانيا".
من جانبه، أكد شولتس للرئيس الصيني أنه يسعى إلى "مواصلة تطوير" التعاون الاقتصادي بين البلدين، مع الاعتراف بوجود "وجهات نظر مختلفة" لدى الطرفين.
وذكر شولتس "نريد أيضا أن نبحث كيف يمكننا مواصلة تطوير تعاوننا الاقتصادي فيما يتعلق بقضايا أخرى: تغير المناخ والأمن الغذائي والدول المثقلة بالديون"، حسبما نقلت وكالة "فرانس برس" عن مصدر في الحكومة الألمانية يرافق شولتس في زيارته.
زيارة المستشار الألماني إلى بكين هي الأولى لزعيم في الاتحاد الأوروبي ومجموعة السبع منذ بداية جائحة كوفيد والحرب في أوكرانيا.
صحيفة "هوانكيو شيباو" الصينية، قدرت أن زيارة شولتس إلى الصين، أزعجت الولايات المتحدة، التي اعتبرتها بمثابة تهديد لها.
وأكد المعلق الصيني شياو تشوان، في مقالته بالصحيفة، أن أمريكا تبدي الامتعاض من التعاون الناجح بين الصين ودول الاتحاد الأوروبي.
وأضاف: "تم بكل عناية ودقة تشكيل منظومة للتعاون والشراكة الإستراتيجية بين ألمانيا والصين على مدى عدة أجيال"، لكن ذلك بات بالنسبة لواشنطن بمثابة ذنب عظيم".
وشدد الكاتب، على أن بعض السياسيين عند الحديث عن التعاون ألمانيا والصين، يستخدمون عبارة "تهديد للأمن القومي". وأكد على أن البيت الأبيض، يستخدم الأزمة الأوكرانية، لكي يبعد الاتحاد الأوروبي ليس فقط عن روسيا بل وعن الصين كذلك.
وأضاف: "وفرت الأزمة الأوكرانية للولايات المتحدة ذريعة جيدة لتنفيذ نواياها الإستراتيجية. لقد وقعت أوروبا في فخ استراتيجي، وأصبحت الولايات المتحدة بمثابة قشة الإنقاذ".
انقسامات وخلافات
ذكرت صحيفة "هيل" الأمريكية في تقرير لها يوم 13 نوفمبر 2022 أن الدول الأوروبية اختلفت في الآراء وحدثت انقسامات فيما بينها بسبب إمدادات الوقود النووي الروسي والتعاون مع شركة "روسآتوم" الروسية للطاقة الذرية.
وقالت الصحيفة: "عندما أوصت بولندا وأيرلندا وإستونيا ولاتفيا وليتوانيا وألمانيا مؤخرا الاتحاد الأوروبي بحظر استيراد الوقود النووي الروسي من أجل تجنب تمويل روسيا، صرخت هنغاريا وفرنسا، وأغلقت بروكسل أعينها".
وأشارت إلى أن "روسآتوم" تزود محطات الطاقة النووية في جمهورية التشيك وسلوفاكيا وبلغاريا والمجر بالوقود النووي، لذا فإن أي قرار يتخذه الاتحاد الأوروبي بوقف إمدادات الوقود سيؤدي على الفور إلى أضرار اقتصادية لهذه البلدان.
وصرح وزير الخارجية الهنغاري بيتر سيارتو، في وقت سابق إن بلاده لن توافق أبدا على إدراج شركتي الطاقة "غازبروم" و"روساتوم"، في قوائم العقوبات الغربية المفروضة ضد روسيا.
في هذه الأثناء تحدثت وكالة "بلومبرغ" الأمريكية الاقتصادية عن ارتفاع في صادرات النفط الروسي بواسطة البحر مؤخرا، ويأتي ذلك قبل حلول 5 ديسمبر 2022 موعد فرض قيود على النفط الروسي من قبل الاتحاد الأوروبي.
وذكرت الوكالة أن حجم شحن النفط من روسيا ارتفع خلال الأسبوع الأول من نوفمبر 2022 إلى مستوى قياسي في خمسة أشهر على خلفية الحظر الأوروبي. وأشارت إلى أن الحجم اليومي للنفط المصدر من روسيا ارتفع إلى 3.6 مليون برميل، وهو أعلى مستوى منذ بداية يونيو 2022.
وأضافت الوكالة أنه تمت ملاحظة أكبر نمو لعمليات التصدير من حيث الحجم والنسبة المئوية من ميناء مورمانسك الروسي، حيث تستغرق الناقلات وقتا أطول للوصول إلى وجهتها في آسيا مقارنة بالموانئ في بحر البلطيق أو البحر الأسود.
ووفقا للوكالة فإن النمو يعكس الرغبة في تسليم أكبر قدر ممكن من كميات النفط قبل دخول القيود الأوروبية على النفط الروسي حيز التنفيذ، إذ سيحظر الاتحاد بعد 5 ديسمبر 2022 على السفن الأوروبية نقل النفط الروسي أو تقديم تأمين للسفن التي تنقله.
سراب
بينما تعرف العلاقات الأوروبية الأمريكية توترا لأسباب اقتصادية يحمل في طياته أخطارا، يراود ساسة البيت الأبيض حلم أو سراب تدمير التحالف الروسي الصيني وهو ما سيرجح إن نجح كفة الغرب في الصراع في أوكرانيا.
يوم 3 نوفمبر 2022 أكدت هيلينا ليغاردا الخبيرة الأوروبية في معهد "مركاتور" للسينولوجيا، أن محاولات دق إسفين بين روسيا والصين لن تثمر عن شيء.
وأشارت الخبيرة في الشأن الصيني، إلى أن التعاون بين روسيا والصين، يستند بشدة إلى فكرة أن الولايات المتحدة والغرب ككل هما الخصم الرئيسي، على الرغم من موقف بكين محايد بشأن أوكرانيا، لكنها تدعم موسكو ضمنيا. وأضافت ليغادرا محاولة دق إسفين في العلاقات بين روسيا والصين ليس فكرة واقعية للغاية، لكن الدول الغربية بحاجة إلى تخفيف تأثير هذه العلاقات على السياسة العالمية ومحاولة التأثير على عمقها ونطاقها كلما أمكن ذلك.
وتابعت، في السنوات الأخيرة، بذلت روسيا والصين كل ما في وسعهما لإظهار مدى قربهما، إن البيان المشترك لشي جين بينغ وفلاديمير بوتين، الذي صدر في 4 فبراير، أثناء دورة الألعاب الأولمبية الشتوية في بكين، قبل أسابيع قليلة من بداية الحرب في أوكرانيا، هو مثال واضح على ذلك.
منذ عام 2013، التقى قادة البلدين ما يقرب من 40 مرة، يحافظ الجانبان على "صداقة لا حدود لها" ويعتقدان أن "شراكتهما الإستراتيجية الشاملة وتفاعلهما في العصر الجديد" عامل إيجابي على الساحة الدولية، ووصف شي بوتين بأنه "أفضل وأقرب صديق".
وأكدت الخبيرة، أن بكين رفضت انتهاك العقوبات الغربية علانية، مما يشير إلى أن العلاقات بين الصين وروسيا لا تزال لها حدود معينة، ومع ذلك، فإن تعاونهما قائم على أساس فكرة أن الولايات المتحدة والغرب ككل هما الخصم الرئيسي، لديهم أيضا هدف مشترك لتغيير النظام العالمي.
أصبحت العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا بمثابة اختبار لقوة هذه الشراكة، يبدو موقف الصين محايدا من الناحية الخطابية فقط، في الواقع، بكين تدعم موسكو ضمنيا، وتواصل الصين التعبير عن النسخة الروسية لما يحدث وتقديم الدعم الدبلوماسي لموسكو، وهو ما يؤيد "المطالب الأمنية المشروعة" لروسيا ويعارض العقوبات.
ودعت الصين إلى احترام سيادة "جميع البلدان" وسلامتها الإقليمية، لكنها في الوقت نفسه امتنعت عن دعم أوكرانيا، وبحسب بكين، فإن الأسباب الرئيسية للأزمة تتعلق بتوسيع الناتو و"المبالغة في التوتر" من قبل الولايات المتحدة.
وأضافت ليغاردا، رفضت الصين فرض عقوبات على روسيا، وبعد فترة أولية من التكيف مع القيود وإضعاف العلاقات الاقتصادية بين البلدين، وعمقت العلاقات الاقتصادية مع موسكو في مختلف المجالات، على سبيل المثال، زادت صادرات أشباه الموصلات الصينية إلى روسيا بنسبة 209 في المئة من مارس إلى يونيو عام 2022، مقارنة بالفترة نفسها من عام 2021.
وتابعت، عندما تعلق الأمر بتلبية احتياجات موسكو الاقتصادية والتكنولوجية، كانت بكين انتقائية حتى لا تقع تحت العقوبات الغربية وتؤدي إلى تفاقم العلاقات مع الغرب.
وأشارت الخبيرة، إلى أنه من المهم أن نلاحظ، أن هذه الأزمة بالنسبة للقادة الصينيين لا تتعلق فقط بمستقبل أوكرانيا، إنها تتطرق إلى قضايا أوسع تتعلق بالمنافسة الجيوسياسية والمكان الذي تريد الصين أن تقف فيه فيما يتعلق بروسيا والغرب الآن وفي المستقبل.
وأوضحت ليغاردا، أنه في عقلية الحزب الشيوعي الصيني، هناك خوف من أن تكون محاطا بالدول الغربية التي تريد احتواء صعود الصين ومنع استعادتها المشروعة لمكانة القوة العظمى بحلول عام 2049، يشعر الحزب بتهديد متزايد، وتنظر الصين الآن إلى العالم من منظور تنافسها الجيوسياسي مع الولايات المتحدة والغرب، وعلى أساس ذلك تتخذ الإجراءات.
ووفقا لليغاردا، فإن الأيديولوجية في الصين تسود على البراغماتية، ولم يعد الاقتصاد أولوية، أصبح شي جين بينغ أقوى، والحزب تحت سيطرته المشددة، وهو نفسه محاط بزملائه المخلصين الذين سيضمنون تنفيذ أولوياته السياسية، وهذا يعني استمرارية السياسة الخارجية التي تمت ملاحظتها في السنوات الأخيرة.
وأكدت، أنه يمكن لبكين أن تعيد التفكير في شراكتها مع روسيا لتكون أقل نفورا من المخاطرة، لاسيما في المجال الاقتصادي، وهو ما لا تزال بحاجة إلى الغرب للقيام به، لكن حتى هذا لن يستمر إلى الأبد، وتعتبر زيادة الاكتفاء الذاتي للبلاد إحدى أولويات شي للسنوات الخمس المقبلة، الهدف هو جعل من المستحيل على الغرب فرض عقوبات على الصين واحتواء اقتصادها، كما فعلوا مع روسيا.
وشددت ليغاردا، على أن بكين لن تترك موسكو جانبا، لذلك، فإن دق إسفين في العلاقات بين روسيا والصين ليس فكرة واقعية للغاية، الحقيقة هي أننا في الغرب ليس لدينا ما نقدمه دون المساومة على قيمنا ومصالحنا وأمننا.
واختتمت الخبيرة قائلة، من الضروري تخفيف تأثير هذه العلاقات على مصالحنا الخاصة ومحاولة التأثير على عمقها ونطاقها كلما أمكن ذلك.
متاهة التناقضات
ما بين خيارات التصعيد والتسويات تتسع مساحة المتاهة: يوم 13 نوفمبر 2022 ذكر المحللان الأمنيان الدوليان بن أوليرينشو وجوليان سبنسر تشرشل في مقال لهما في ناشيونال إنترست، بأن الولايات المتحدة والدول الأعضاء في الناتو يفضلون "ترك" أوكرانيا على بدء حرب عالمية.
وجاءت هذه الاستنتاجات في مقالهما المشترك لإمكانية تطور الأزمة الأوكرانية إلى حرب نووية بين روسيا وحلف الناتو.
ووفقا للمقال الذي نشرته صحيفة "National Interest"، الحقيقة المزعجة هي أن التضحية بالنفس من أجل أوكرانيا ليس في مصلحة القوى الغربية.
وبحسب الخبراء، فإن مخزون الأسلحة النووية الإستراتيجية للولايات المتحدة وحلفائها أدنى من الأسلحة الروسية، والناتو يمتلك حاليا قوة "أسوأ من القوة غير المجدية".
صحيفة "تليغراف" البريطانية ذكرت يوم 13 نوفمبر 2022، إن الولايات المتحدة تخوض حربا باردة مع الصين، بدون مشاركة من دول أوروبا.
وأفادت الصحيفة في مقال لـ ماثيو لين، إن أوروبا اتخذت موقفا من الحرب الباردة الجديدة مع الصين، مضيفة أن الاقتصاد والتجارة سيقيدان في الحرب الباردة الجديدة، بينما ستنسج التكنولوجيا سياجا وستحمى الملكية الفكرية بقوة.
وبحسب المقالة، فإن القدرات الصناعية ستساعد في تقريب سلاسل الإمداد إلى المستوردين من أجل ضمان المرونة في حالة وقوع أي شيء، بحسب الكاتب.
وتابعت بأنه بينما تتدهور العلاقات بين الغرب والصين بصورة حادة، فإن على كل دولة متقدمة أن تختار الوقوف إلى جانب ما.
وأضاف أنه "بالفعل أصبح جليا من الذي اختارت القوى الكبرى في أوروبا - وفي الاتحاد الأوروبي - الوقوف إلى جواره. لقد اختاروا الصين".
وذكرت الصحيفة إنه "على مدار الأسابيع الماضية، رأينا أمثلة لزيادة متانة الروابط الصناعية والتجارية مع الصين، بحسب الكاتب، ومثالا على ذلك الشراكة بين شركتي السيارات رينو الفرنسية وجيلي الصينية بمباركة من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وكذلك شراء شركة كوسكو الصينية للملاحة البحرية لحصة كبيرة من أسهم ميناء هامبورغ بألمانيا".
"التليغراف" نوهت إلى أن الصين من الممكن أن تتحول إلى دولة ليبرالية، في ظل تعاظم ثرواتها، ومن غير المستبعد أن تتحول إلى نظام مشابه لكوريا الجنوبية، ولكن ليس في الوقت الحالي.
وأضاف: "أما الولايات المتحدة فاستعدت للدفاع عن نفسها ضد صين قوية، وزادت من دعمها لتايوان، وفرضت عقوبات قاسية تكنولوجيا، ما أجبر المهندسين الأمريكيين على مغادرة الصين، والشركات الأمريكية للبحث عن موردين بديلين، بتكلفة باهظة في كثير من الأحيان".
عمر نجيب