ازدادت أهمية تركيا كمحور لتصدير الغاز الروسي إلى أوروبا بالتناسب مع تصاعد التوتر مع دول أوروبا الشرقية المعادية للروس، ولا سيما بولندا وأوكرانيا. لذلك، بدأ بناء خط غاز "السيل التركي" عام 2014 بعد أشهر من استعادة روسيا شبه جزيرة القرم وما تبع ذلك من عقوبات غربية عليها.
ومن البديهي أنَّ تفجير خطي "السيل الشمالي – 1" و"السيل الشمالي – 2" في 26 أيلول/سبتمبر الفائت زاد تركيا أهميةً بالنسبة إلى روسيا. لم يكن من المفاجئ إذاً أن يقترح الرئيس بوتين في قمة أستانة على إردوغان في 14 تشرين الأول/أكتوبر بناء خط غاز جديد من روسيا إلى تركيا من أجل التصدير إلى أوروبا.
يُذكر أنَّ خطوط الغاز الأخرى من روسيا إلى أوروبا إما توقفت عن العمل وإما مهددة بالتوقف في أي لحظة؛ فخطّ "يامال" عبر بولندا توقف، وخط الغاز عبر أوكرانيا ما برح يعمل جزئياً، لكنه مهدد بالتوقف في أيّ لحظة، لا سيما مع بروز خلافات جديدة بين روسيا وأوكرانيا حول رسوم عبور الغاز الروسي عبر الأراضي الأوكرانية.
توقف السيلان الشماليان بسبب تفجيرهما طبعاً. وهناك فرع من "السيل الشمالي – 2" ما برح يصلح لتصدير الغاز إلى ألمانيا، ولكنّ "السيل الشمالي – 2" توقف عن العمل بقرار سياسي، وهناك ضغوط شعبية ألمانية وأوروبية لتفعيله، وريثما تثمر تلك الضغوط عملياً، يبقى ذلك الخط مغلقاً في المدى المنظور.
لم يبقَ إذاً إلا "السيل الأزرق" من روسيا إلى تركيا، الذي تبلغ طاقته 16 مليار متر مكعب سنوياً، و"السيل التركي" من روسيا إلى تركيا أيضاً، ومنها إلى دول البلقان، والذي تبلغ طاقته 31.5 مليار متر مكعب سنوياً. لهذا، جاءت محاولة تفجير "السيل التركي" بعد تفجير السيلين الشماليين منطقية تماماً من منظور من يسعى لقطع علاقة روسيا غازياً مع أوروبا.
لكن الخطين التركيين لا يعوضان بما يكفي عن الخطوط الأخرى. تبلغ الطاقة القصوى لخط الغاز الروسي عبر أوكرانيا مثلاً 100 مليار متر مكعب سنوياً، وتبلغ طاقة "السيل الشمالي – 1" من روسيا إلى ألمانيا 55 مليار متر مكعب سنوياً، وخط "يامال" عبر بولندا 33 مليار متر مكعب سنوياً، و"السيل الشمالي – 2"، الذي لم يفعّل قط، كانت طاقته القصوى تبلغ، قبل تفجير أحد أنبوبيه، 110 مليار متر مكعب سنوياً. من هنا، يأتي مشروع بوتين لبناء خط جديد من روسيا إلى تركيا لتعويض طاقة ضخ الغاز المفقودة أو التي توشك أن تفقد إلى أوروبا.
النظام التركي يلعب على كل الحبال
تزداد أهمية تركيا بالنسبة إلى روسيا إذاً، ويزداد الاستثمار الروسي في العلاقة معها، ولا يتعلق الأمر بالغاز فحسب، إنما يضفي الغاز بعداً رئيسياً على تلك العلاقة. ويفترض أن تموّل روسيا تشييد الخط الجديد، ولكنْ ما الجدوى من بنائه فعلياً في ضوء التوجه الأوروبي إلى مقاطعة حوامل الطاقة الروسية وإيجاد بدائل لها؟
يلعب النظام التركي على كل الحبال غازياً، وصولاً إلى التحول إلى محبس إسطوانة الغاز الأوروبية. ويمر عبر تركيا أيضاً خط "ممر الغاز الجنوبي"، من أذربيجان إلى جورجيا، ثم عبر تركيا إلى أوروبا، الذي دشن عام 2018، والذي شيدته المفوضية الأوروبية لتخفيف الاعتماد الأوروبي على النفط الروسي، وتبلغ طاقته القصوى 24 مليار متر مكعب سنوياً، وهو يواكب في جزء من طريقه أنبوباً نفطياً من أذربيجان إلى جورجيا، ثم عبر تركيا إلى خليج الإسكندرون المحتل على البحر المتوسط، وطاقته مليون برميل يومياً.
وهناك أنبوب تبريز-أنقرة، الذي ينقل الغاز الإيراني إلى تركيا، والذي يلتحق بخط "السيل الأزرق" قبل أنقرة بقليل، وتبلغ طاقته القصوى 14 مليار متر مكعب سنوياً، وهو ما يزيد أهمية تركيا غازياً بالنسبة إلى إيران أيضاً على وجه الخصوص، كمصدر عملةٍ صعبةٍ للبلد المحاصر.
أما الدور المعلن رسمياً لخط الغاز الإيراني، فهو تخفيف الاعتماد التركي على الغاز الروسي! فإذا وقِّع اتفاقٌ نووي، تتحول تركيا أيضاً إلى معبرٍ للغاز الإيراني إلى أوروبا. وفي الآن عينه، يعمل إردوغان على تطوير العلاقة مع العدو الصهيوني على أمل مد أنبوب غاز من شرق المتوسط عبر تركيا إلى أوروبا.
تستورد تركيا أيضاً 4.4 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي المسال من الجزائر سنوياً، ويرتبط البلدان باتفاقات لتطوير مشاريع استكشاف الغاز الطبيعي وإنتاجه وبعلاقات واسعة النطاق. وفي الآن عينه، دفعت تركيا أذرعها في ليبيا إلى منافسة الجزائر على خط الغاز الذي يدفع الأوروبيون لتشييده من نيجيريا إلى أوروبا، وأعلنت "حكومة الوحدة الوطنية" في ليبيا أنها قدَّمت عرضاً لنيجيريا بهذا الخصوص الشهر الفائت لتمرير خط الغاز النيجيري من نيجيريا إلى تشاد إلى ليبيا (بدلاً من مروره من نيجيريا إلى النيجر إلى الجزائر).
أضف إلى ذلك أنَّ تركيا ستبدأ الضخ من حقل "سقاريا" الذي اكتشفته في البحر الأسود عام 2023، بمعدل 3.7 مليار متر مكعب سنوياً، يفترض أن يرتفع إلى 15 مليار متر مكعب عام 2026، وهذا بالطبع لن يكفي حاجتها السنوية البالغة نحو 60 مليار متر مكعب، لكنه سيوفر المزيد لإعادة التصدير إلى أوروبا.
ومع الأزمة الأوكرانية، ازداد تشابك مصالح روسيا وإيران، والجزائر إلى حدٍ ما، مع تركيا، غازياً وغير غازي، في الوقت الذي تلعب الأخيرة على الجميع. خلق هذا وضعاً ربما يدفع الحلفاء إلى التساهل مع التغول التركي، من سوريا والعراق إلى ليبيا، وتقديم ما يلزم من أجل إعادة انتخاب إردوغان عام 2023، معتقدين أنه "رجلهم"، فيما يحاول توظيفهم من أجل تجاوز الاستحقاق الانتخابي أولاً، ولتعزيز شروط توسع المشروع العثماني الذي يهدد روسيا وإيران في الصميم ثانياً.
ما يحتاجه إردوغان مثلاً في الوقت الحالي أمام الناخبين الأتراك، هو أن يبدو كأنه يحل مشكلة اللاجئين السوريين في عز الأزمة الاقتصادية التي تعيشها تركيا، وأن يبدو كأنه يطبع العلاقة مع الدولة السورية في ذلك السياق، فهي حاجة انتخابية ليس إلا، ستنتهي عندما تنتهي الانتخابات.
ولو كان صادقاً لما تأخر في تنفيذ اتفاق إدلب عام 2018 مع روسيا، فيما يعمل على تتريك الشمال السوري على قدمٍ وساق.
الأزمة الأوكرانية تسهم في الإفراج عن غاز لبنان وغزة؟
لا شكّ في أنَّ قوة المقاومة اللبنانية وإصرارها على أداء الدور الرئيس ساهم في إخراج الاتفاق حول حقل قانا بالصورة التي خرج فيها، أي باستعادة الحقل إلى السيادة اللبنانية من دون:
1 – اعتراف بالكيان الصهيوني.
2 – علاقات تطبيعية معه.
3 – "معاهدة سلام".
وعلى عكس ما يشيع البعض، فإنَّ الاتفاق لم يتضمن ترسيماً رسمياً للحدود البرية أو البحرية بين لبنان والعدو الصهيوني، بل بقي موضوع الحدود بين لبنان و"إسرائيل" معلقاً، وبقيت حالة العداء قائمة.
لعلّ الأميركيين والأوروبيين كانوا يفضلون لو أمكن ضخ الغاز من قانا و"كاريش" و"مارين" (قبالة غزة) وغيرها من الحقول من دون إعطاء شيء للعرب، أصحابها الأصليين، ولكنّ الأزمة الأوكرانية والحاجة الملحة أوروبياً لإيجاد بدائل للغاز الروسي خلق سياقاً سرّع رضوخ الكيان الصهيوني لشروط لبنان.
لم تكن المرحلة مرحلة تعطيل وتسويف على هوى نتنياهو، بل كانت مرحلة التجاوب مع ضغط إدارة بايدن والاتحاد الأوروبي كما فعل لابيد، إذ إن الحاجة الملحة لإدخال المزيد من غاز شرق المتوسط في دورة السوق العالمية لم تعد تنتظر.
من ناحية أخرى، أعلنت هيئة البث الإسرائيلية الشهر الجاري عن اتفاق بين مصر والسلطة الفلسطينية والكيان الصهيوني لتطوير حقل "مارين" قبالة غزة، لكن تقارير لاحقة في المواقع الإسرائيلية قالت إنّ مفاوضاتٍ تجري بخصوص حقل "مارين"، كما أشار موقع "غلوبس" مثلاً في 20/10/2022، مضيفاً أن الضغط الأوروبي أدى دوراً رئيسياً في تحريك تلك المفاوضات، ومختتماً أن الكيان الصهيوني "لم يتخلَّ رسمياً عن حقوقه في حقل مارين"، وملمحاً إلى أن إنتاجه من الغاز سوف تشرف عليه مصر و"إسرائيل".
نقلت "يديعوت أحرونوت" في المقابل، في 20/10/2022 أيضاً، على لسان وزيرة الطاقة كارين الهرار ورئيس مجلس الأمن القومي أيال حالاتا، أنّ موضوع حقل "مارين" مؤجل إلى ما بعد الانتخابات، حتى تبتّه الحكومة المقبلة.
في الحالتين، يبرز العامل الأوروبي في تحريك ملف حقل "مارين"، ويبقى الفرق بين حقلي "مارين" و"قانا" في مدى قدرة الاحتلال على التحكم فيما يجري أو لا يجري فيهما، أي في عنصر السيادة التي تدعمها القوة.
وفي المحصّلة، لا يحقق الظرف الموضوعي الملائم نتائج إيجابية من تلقاء ذاته، بل يجب أن توجد قوة ذاتية مستعدة وقادرة على الاستفادة منه، كما في لبنان. وليس من الواضح بعد كم ستستفيد "إسرائيل" من ضخ الغاز من "مارين"، عندما يبدأ الضخ منه، على الرغم من نفي السلطة الفلسطينية.
ويزعم الغرب والكيان الصهيوني أن لهما مصلحة في استعادة لبنان حقل قانا أيضاً، لأن ذلك:
1 – يقلل حاجة لبنان إلى حوامل الطاقة الإيرانية.
2 – يخلق مصلحة حيوية للبنان في عدم توتير الأجواء مع الكيان الصهيوني أو في استهداف حقول غازه، حرصاً على حقل قانا.
لكن هذا كلّه يبهت أمام حقيقة ماثلة هي أنَّ عائدات حقل قانا، إذا لم تضِع في الفساد، يمكن أن تسهم بقوة في تحقيق انفراج اقتصادي في لبنان، وهو نقيض ما سعى إليه من حاصروا لبنان اقتصادياً ومالياً منذ 3 سنوات، على أمل خلق هوةٍ سحيقة بين المقاومة وحاضنتها الشعبية، أي أن استعادة حقل قانا هي نصرٌ سياسيٌ وميدانيٌ واقتصادي للمقاومة وحاضنتها، وللبنان لا ريب فيه، الأمر الذي يحتاج إلى تحصينٍ من خلال محاربة الفساد، وإلا فإنه نصرٌ مرشحٌ إلى التبديد.
هل تتّجه العلاقات السعودية الأميركية نحو المزيد من التأزم؟
تتسارع التطورات في جبهة العلاقات السعودية-الأميركية بعد قرار "أوبك+" خفض إنتاجها مليوني برميل يومياً، على النقيض من دفع إدارة بايدن باتجاه زيادة إنتاج النفط، وهو ما استتبعه تهديدٌ ووعيدٌ أميركيان، من بايدن إلى مشرعين أميركيين، منهم من دعا إلى وقف بيع الأسلحة الأميركية للسعودية، ومنهم من أعاد طرح تشريع يجرم "أوبك" في الكونغرس كاحتكار.
سبق أن تناولت أبعاد هذا القرار في ضوء الأزمة الأوكرانية وخلفيات اندفاع السعودية نحو التصرف بصورةٍ مستقلة عن الإدارة الأميركية نفطياً في مادة "السيل الشمالي، أوبك+، والنفط والغاز كرافعة سياسية" في الميادين نت في 18/10/2022.
لكنّ التطور البارز واللافت خلال الأيام الفائتة كان الإعلان عن رغبة السعودية الانضمام إلى منظمة "بريكس"، نقلاً عن سيريل رامافوزا، رئيس جنوب أفريقيا، الذي كان في زيارة للسعودية الشهر الجاري. وقد وقّع البلدان خلالها اتفاقيات ومذكرات تفاهم بقيمة 15 مليار دولار. ويُذكر أن الرئيس رامافوزا سيكون الرئيس الدوري لمنظمة "بريكس" عام 2023.
وإذا عدَّدنا تمسك السعودية بخفض الإنتاج نوعاً من المناكفة مع الحزب الديمقراطي الحاكم وإدارة بايدن، فإن الانضمام إلى "بريكس"، إذا تم، يمثل نقلةً استراتيجيةً كاسرة للتوازنات من المرجح أن تصعّد التوتر مع الإدارة الأميركية. وسنرى كيف ستتبلور الصورة على هذا الصعيد عندما تنعقد قمة "بريكس" المقبلة عام 2023 في جنوب أفريقيا.
تتطوَّر في الآن عينه علاقات وطيدة بين الصين والسعودية عمادها تصدير النفط السعودي إلى الصين والأسلحة الصينية إلى السعودية. وفي الأيام الفائتة، تناقلت وسائل الإعلام الغربية بقلقٍ خبر لقاءٍ افتراضي جمع وزيري الطاقة السعودي والصيني تمحور حول "أمن الطاقة عالمياً".
يُذكر أنّ السعودية هي المورد الأول للنفط إلى الصين، تليها روسيا، ثم العراق وعُمان، ثم أنغولا والكويت والإمارات والبرازيل بالتوالي من حيث الأهمية، غير أننا لسنا بحاجة إلى الانتظار حتى انعقاد قمة "بريكس" عام 2023 لنعرف كيف ستتطور العلاقات الأميركية-السعودية.
وبحسب تقرير مطوَّل نشره موقع قناة "NBC" في 18/10/2022، تدرس إدارة بايدن خيار دفع الشركات الأميركية إلى تقليص استثماراتها ونشاطها الاقتصادي في السعودية، ولا سيما "مبادرة مستقبل الاستثمار" (المعروفة أيضاً باسم "دافوس في الصحراء")، التي تمثل واسطة عقد مشاريع محمد بن سلمان الذي يسعى لاستقطاب الاستثمار الأجنبي المباشر إليها.
ويلتئم اللقاء السنوي للمبادرة بمشاركة عالمية واسعة في الرياض في 25-27 تشرين الأول/أكتوبر الجاري، في ظل شبه مقاطعة رسمية أميركية للقاء هذا العام، وترد السعودية بأنها لم توجّه دعوة إلى الإدارة الأميركية للمشاركة في اللقاء أصلاً...
لا تتوقف التطورات عند هذا الحد، إذ يقول تقرير "NBC" المذكور آنفاً إنَّ إدارة بايدن تتجه إلى تخفيف تعاملاتها الاقتصادية والدبلوماسية مع الرياض بانتظار تاريخ 4 كانون الأول/ديسمبر المقبل، حين ينعقد اللقاء الوزاري لــ"أوبك+". وتعد الإدارة الأميركية ذلك الموعد مفصلياً في تحديد مستقبل العلاقات السعودية-الأميركية؛ ففي اليوم الذي يسبقه، أي في 3 كانون الأول/ديسمبر المقبل، تدخل حزمة عقوبات أوروبية جديدة ضد روسيا موضع التنفيذ. وتتضمن الحزمة:
1 – حظراً جزئياً على استيراد النفط الروسي.
2 – حظراً تاماً على استيراد النفط الروسي بحرياً، أي عبر الناقلات.
3 – عقوبات موجهة لمنع دول الاتحاد الأوروبي من إعادة بيع النفط الروسي ومشتقاته.
وستخرج هذه الحزمة من العقوبات الأوروبية، بمقدار ما ينجح تطبيقها، مليوني برميل من النفط الروسي يومياً من السوق. وتريد الإدارة الأميركية والاتحاد الأوروبي من "أوبك" أن تزيد إنتاجها النفطي وقتها للتعويض عن الفاقد الروسي، فإن لم تفعل، فإنَّ علاقات الإدارة الأميركية مع السعودية مرشحة إلى المزيد من التدهور بالضرورة.
من هنا، إنَّ خطوة السعودية في طلب الانضمام إلى منظومة "بريكس" تعد مؤشراً على ما سيأتي، فالصدام مع الإدارة الأميركية، إذا ثبتت السعودية على موقفها، يحتاج إلى حلفاء أقوياء، وإلى نزع فتائل التوتر مع أولئك الحلفاء، من سوريا إلى اليمن، وهو تطور إيجابي عربياً وإقليمياً ودولياً إذا استقرت السعودية على هذا المسار.
الاستثمارات الخليجية في مصر
تصاعدت الاستثمارات السعودية والإماراتية والقطرية والكويتية في مصر في الأشهر الفائتة. وقد شكّل هذا الاستثمار المباشر، أي في مؤسسات إنتاجية، خطاً بيانياً صاعداً منذ عام 2021، إلا أنَّه ازداد حدة مع الأزمة الأوكرانية من جراء ارتفاع سعر النفط والغاز عالمياً في المقام الأول، ما خلق فوائض مالية خليجية راحت تبحث عن منافذ استثمارية أكثر أماناً من الغرب الَّذي لم تثبت تجربة أوكرانيا أنه غير مستعد للدفاع عسكرياً عن حلفائه فحسب، بل أنه على استعداد أيضاً لمصادرة الأصول والاستثمارات الأجنبية الموجودة عنده بجرة قلم، كما جرى مع مئات مليارات الدولارات من الأصول الروسية وغيرها.
وبناءً عليه، راحت مليارات الدولارات الخليجية تتدفق إلى مصر، وهو ما غطاه الإعلام العربي بكثافة، ولذلك لن أتوسع فيه، سوى للقول إن تزايد الاستثمار الخليجي في مصر يمثل أحد تداعيات الأزمة الأوكرانية عربياً، وهو أمر إيجابي بمقدار ما تترسخ تحولات السعودية الأخيرة في الساحة الدولية.
خلاصة
انعكست الأزمة الأوكرانية إيجابياً على الصعيد العربي ما عدا فيما يتعلق بتعزيز دور تركيا ووزنها الإقليمي، الأمر الذي لا بد أن ينعكس سلبياً على سوريا والعراق وليبيا، وحيثما تتغول تركيا في الوطن العربي. ويتعمق ذلك الأثر سلبياً بمقدار ما تشعر روسيا بالحاجة إلى التخفيف من وجودها وفعالياتها في سوريا للتركيز بصورةٍ أكبر على المسرح الأوكراني.
ولو كان الغرب أكثر تماسكاً، ولو لم يكن نفوذه إلى أفول، لما تجرأت تركيا أو الكيان الصهيوني على اللعب على الحبلين في الأزمة الأوكرانية، ولتعمَّقت التناقضات بين روسيا من جهة، وتركيا والكيان الصهيوني من جهةٍ أخرى، لكنّ هذا لم يحدث.
وقد نجح الكيان العثماني في أداء مثل هذا الدور المزدوج ببراعةً أكبر من الكيان الصهيوني، فتعزّزت مكانته عند روسيا وإيران وغيره من مناهضي الهيمنة الغربية، وهو ما يحتمل أن ندفع ثمنه نحن العرب، إذا لم ينشأ وزنٌ مكافئ للمشروع التركي في الإقليم، وهو الأمر الذي بات أولوية أمن قومي عربي لا غنى عنها.
إبراهيم علوش
مؤلف وأستاذ جامعي