أعرف أن شعوبا عربية كثيرة تعيش نشوة الفرحة باللقاء الفلسطيني على أرض الجزائر، وهي فرحة تقابلها وضعية حزن يمكن تفهمها عند العدوّ وأنصاره، لكنها لا تبرر التعتيم الذي عانت منه مناطق معينة بتعليمات قيادية لم تدرك أن هذا يسيئ لها عند شعوبها.
ولن أطيل حتى لا أتهم بالشوفينية، لكنني أعتز بوقفة عبد المجيد تبون بالأمس في قاعة قصر الأمم، وأتذكر موقف الشاذلي بن جديد في نفس القاعة منذ أكثر من ثلاثين عاما، وقبلها وقفة هواري بو مدين مع ياسر ووقفة عرفات ووراءه عبد العزيز بو تفليقة في الأمم المتحدة وقبلها وقفة بن بله في مؤتمر القاهرة 1964 وقبلها وقفة مصالي الحاج في الأربعينيات وقبلها ذراع سيدي بو مدين المدفونة في ثرى القدس.
اليوم، أعود للأيام الماضية عندما توقفتُ أمام الذكرى العاشرة لوفاة الرئيس الأسبق الشاذلي بن جديد.
يومها لم يكن ما أهدف له وقفة تأبينية تستلهم مقولة “اذكروا محاسن موتاكم ” بقدر ما أردتها فرصة لأضع أمام القارئ العربي، وخصوصا في المستويات القيادية، بعض الأحداث التي تعيشها قمم السلطة، لعل في بعض ذلك دروسا وعبرا.
واستعملت صفة “العربي” عامدا لأن القارئ “غير العربي” يجد أمامه عشرات الكتب والأفلام الوثائقية وآلاف السطور والتعليقات التي تقوم بعملية “تشريح” للممارسات السياسية في بلاده، بل وفي غير بلاده، كما أنني استعملت صفة “القيادية” عن سابق إصرار لأن من يعيشون على سفح الأحداث وفي أودية العمل القيادي لا يتصورون أن القمم هي، في أغلب الأحيان، غابات موحشة لا نجاة فيها لمن ينام قرير العين مطمئنا لكل ما حوله ومن حوله.
وكان يقيني أن ما أقوم به هو جهد ثقافي يمكن أن يستفيد منه من لم تكن لهم فرصة معايشة الأوضاع في قمم العمل السياسي، وهو ليس عيبا يفرض الخجل منه أو ذنبا يُعتذر عنه لكنه واقع يترك بصماته على الآراء والأحكام والاستنتاجات.
وفي الوقت نفسه، أردت أن أضع تحت تصرف المؤرخين تفاصيل بعض الممارسات التي تساهم في معرفة ما عشناه من خفايا مراحل غير معروفة العناصر الفاعلة أو الخلفيات وإن كانت واضحة النتائج والتداعيات.
وبرغم أني أوذيت في عهد الشاذلي إلا أنني، كما قلت، سرتُ على مبدأ “ولا يظلمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا”، وهكذا أعطيت للرجل بعض حقه، ولم أتوسع في الحديث عنه، سلبا أو إيجابا، بحكم محاولة احترام المساحة المحدودة للنشر، وهو ما عرضني للوم البعض.
لكن بعض التعليقات، فيما رأيت، حاولت ما بدا أنه تصفية حساب مع الرجل، الذي كانت أهم خصاله، التمسك بالانتماء العربي الإسلامي، والوفاء لثورة أول نوفمبر بكل التزاماتها.
وهكذا، كان هناك من اتهمه بالضعف لأنه لم يتخذ هذا القرار أو ذاك، ولأنه ألقى المنشفة في وجه من حاولوا أن يفرضوا عليه ما لا يرتضيه.
ولقد اتهم الرئيس هاري ترومان، الذي خلَف العملاق فرانكلين روزفلت، بالضعف، لكنه اتخذ قرار استعمال السلاح النووي للمرة الأولى في التاريخ، ولم يكتفِ بقنبلة “هيروشيما” وحدها، والتي كانت ضربة قاضية للعناد الياباني وتحذيرا كافيا لموسكو، وإنما أتبعها بقنبلة “ناغازاكي”.
ولن أذكر بالتعبيرات التهكمية التي كان يستعملها ونستون تشرشل ضد غريمه العمالي كلمنت آتلي، ناهيك مما قيل عن أنور السادات، في حين أن جمال عبد الناصر، والذي لا يُمكن أن يُتهم بالضعف، لم يستعمل القوة لإنهاء الانفصال في سبتمبر 1961 رغم أن كل الدلالات كانت تشير إلى محدودية الحركة الانفصالية.
أعود هنا إلى الشاذلي بن جديد، الذي حُسب عليه قرار فتح المجال أمام التيار الإسلامي واعتبر ذلك ضعفا منه، فأسترجِعُ ما سمعته منه يوما من أن التيار الإسلامي تيار شعبي موجود، ومن الحكمة أن تعطى له فرصة العمل في ضوء النهار، لأن دفعه، بالمنع، إلى النشاط تحت الأرض خطر على الوطن وعلى العمل الإسلامي نفسه (الذي قد ينحرف من النشاط الدعوي لعمل الإرهابي).
وهو اتخذ هذا الموقف برغم حماقة بعض القيادات الإسلامية وتطاولها عليه، حيث أسمته “مسمار جحا”، ورفعت شعار “لا عمل ولا تدريس حتى يتنحّى الرئيس”، وهو ما لم يفتّ في عضده بل ظل على موقفه حتى “إنهاء” عهدته.
ولست في حاجة للقول بأن الشاذلي “لم يفرّ من المسؤولية”، وكنت قلت ، إنه “استقيل” في يناير 1992، والكلمة ليست في حاجة لتفسير.
ولن أتوقف عند تعليقات لبعضهم “من عندنا”، كان الهدف الرئيسي منها، كالعادة، إدانة مرحلة الاستقلال بأكملها، في محاولة لانتزاع عذرية مصطنعة لعمليات تمرد عرفتها بداية استقلال الجزائر، وهو ما كان واضحا من استشهاد المعلقين بمقولات شخصيات معينة، خسرت صراعها السياسي آنذاك.
وأنا أرى دائما أن تعليقات من هذا النوع تفتقد بعض الذكاء، إذ أن أي نظام مهما كانت مساوئه لا بد أن يجد له الناقد المُندّدُ، ليضمن مصداقيته، إنجازا واحدا جديرا بالاعتبار، ويكفي أن نتذكر مثال موسوليني في إيطاليا وهتلر في ألمانيا وأخيرا بينوشيه في الأرجنتين.
وعندما تناولت قضية الجيش لم أقل إن الجيش الجزائري هو الجيش الوطني “الوحيد” في إفريقيا كما ادعى أحد المعلقين، بل حرصتُ كعادتي ألا أعمّم، وقلت إن وضعية الجيش في الجزائر تختلف عن وضعية بلدان “إفريقية” كثيرة، وهو ما أكدته مؤخرا سلسلة أفلام أجنبية وثائقية متلفزة عن دور المخابرات الفرنسية والسيد فوكار (رجل دوغول) والكونت دو مارانش (مؤسس نادي السفاري) في إفريقيا، ولم تكن الكونغو وإعدام لومومبا وقضية كاتنغا وبيافرا إلا قليل من كثير عرفته القارة.
وحاولت أن أوضح، من واقع التجربة، أنه ليس هناك من يولد بمؤهلات الرئاسة، فهذه تأتي بالممارسة الميدانية عندما يتطلب الأمر قبول المسؤولية، وليس مطلوبا من رئيس الدولة أن يكون “بو عريفو”، عبقريا يعرف كل شيئ، لكن العنصر الأول في المؤهل القيادي هو، كما سبق أن قلت، المقدرة على الاختيار بين البدائل، وهو ما أشهد، من واقع عملي مع الرئيس الذي استثمر إمكانياته كقائد عسكري مجاهد، أنه كان متمكنا منه.
لكن تصفية القيادات، التي كانت تمثل شيئا مثل المرآة العاكسة لقائد سيارة، جعلت الرئيس في في العهدة الثانية أسيرا لرأي واحد كان هو الذي قاد البلاد إلى الوضعية المأساوية في التسعينيات، وهذا ما أدركه، منذ العهدة الأولى، من أصبحوا يسمون “العصابة”، فعملوا على خلق الظروف التي تبرر ما حدث من تصفيات إلى أن وجد الرئيس نفسه وحيدا معزولا، وكا هذا السبب الرئيسي في معظم الأخطاء التي ارتكبها والإجراءات التي اتخذها بوحيٍ من مستشارين كان لكل منهم هدفه وخلفياته.
وقد ذكرت يوما بصرخته الغاضبة فيمن حوله: أنتم تكذبون علي، ودفعتموني للتخلص ممن كان يقول لي كل الحقيقة (ولن أذكر الاسم الذي ذكره لأن الشهود في ذمة الله)
وكان هناك من راح يلوم الشاذلي على قبوله المسؤولية رغم أنه، في زعم الناقد لم يكن مؤهلا لها، ولست أدري كيف يشكك المرء في إمكانية قائد عسكري مجاهد على تحمل المسؤولية في ظروف كالتي عاشتها الجزائر إثر وفاة الرئيس هواري بو مدين، في حين أن قاعدة العمل في الجزائر شعار يقول : الجري “وراء” المسؤولية خيانة والفرار من المسؤولية خيانة.
وهنا وللتاريخ، أسجل أن الشاذلي طلب مني، بصفتي عضوا في لجنة تعديل الدستور، أن أدمج بندا ينص على تحديد الولاية الرئاسية بعهدتين لا أكثر، وهو ما قمت به كالعادة بدون أن أشي بمصدره، وثارت ثائرة البعض وراحوا يشكون له تصرف العبد الضعيف، فإذا به يقول لهم بكل صراحة: أنا الذي طلبت منه ذلك.
والذي يُشكك في فكر الشاذلي يتناسى كلمات قالها في خطابه الأول للأمة، تؤكد نظرته الإستراتيجية الجديرة بالرئيس: “من غير المقبول أن نعيش، سياسيا، عالة على شهداء حربنا التحريرية، ونعيش، اقتصاديا، عالة على ثروة زائلة هي رصيدنا من البترول والغاز (..) الماضي المجيد بالنسبة للأمة هو رصيد يتآكل يوما بعد يوم إذا لم يدعمه نضال يومي لا يقل عظمة عن كفاح الماضي وتضحياته، والثروة الدائمة للأمة هي الإنسان بفكره وبجهده وبالتزامه مع آمال شعبه”.
وأنا لم أدافع عن كل الخطوات التي اتخذها الرئيس الشاذلي احتراما للمساحة المحدودة، ولمجرد أنني كنت هاجمتها في حياته وقمة سطوته، وما زال المثقفون في الجزائر يتذكرون مقالاتي التي أسموها مقالات “الطلقاء”، لأنني استعملت فيها مقارنات تذكر بالفتنة الكبرى.
وكان لا بد، للأمانة، أن أشير، عرضا، لموقف الشاذلي من قضية الصحراء الغربية الذي أثار تعليقات كثيرة، كان معظمها إدانة للرئيس وتذكيرا مملا، كالعادة، بفضائل الأشقاء على الثورة الجزائرية.
وللأمانة أيضا، كانت أولى كلمات الشاذلي في أول خطاب للأمة قوله، بدون أن يُسمّي طرفا محددا “: “إن الدماء التي تسيل في الصحراء الغربية هي دماء أشقاء لنا وجيران، ويعز علينا أن تُراق هذه الدماء نتيجة حرب ظالمة أو أحلام توسعية”.
وهكذا قلت إن بعض الأشقاء مازالوا يخدعون أنفسهم ويظنون أنهم يخدعون القراء بالإدعاء أن …(الجزائر خلقت لجارها وشقيقها المغرب البلد العربي المسلم مشكلة الصحراء التي تستنزف خيرات المغاربة وتُجبرهم على القبول بخيارات سياسية مجحفة وظالمة) …في حين يعرف القاصي والداني والسائر والراكب والمستيقظ والمستلقي أن القطر الشقيق هو الذي خلق المشكل لنفسه، ولو قام بتنفيذ القرارات الأممية بإجراء استفتاء لسكان الصحراء الغربية في بداية السبعينيات لاختار معظم الصحراويين الانضمام للمغرب، ولكان المغرب العربي اليوم قلعة صامدة تدعم نضال المشرق العربي وتواجه الأطماع الأوربية ولما اضطر الأشقاء إلى تسول الدعم ممن يعيش هو نفسه على الدعم، لأنه كيان مصطنع.
وهناك بالطبع من راح يستغل ضعف ذاكرة البعض، فراح يزايد على موقف الجزائر من الحرب العراقية الإيرانية، في حين كان الرئيس الجزائري واضحا في حديثه الأول للإعلامي اللبناني فؤاد مطر في بداية الثمانينيات، حيث قال حرفيا : : نحن لا ننسى مواقف الشعب العراقي النبيلة أثناء كفاحنا المُسلّح، ونؤمن بأن العراق هو عُمق استراتيجي لجبهة المواجهة مع العدوّ الصهيوني، لكننا لا نستطيع أيضا أن نتناسى الوضعية التي نتجت عن قيام الثورة الإيرانية، التي نقلت إيران من الصف المُعادي للأمة العربية إلى الصف المُتعاطف معها (..) ولا يمكن أن أنسى أن العلم الفلسطيني يرفرف اليوم في طهران مكان العلم الإسرائيلي (…) العالم الإسلامي في آسيا وإفريقيا هو “عمق استراتيجي” للوطن العربي، وكلاهما يجب أن يكون كلا متكامل في مواجهة التحديات الدولية، ولا يُمكن أن نشجع النعرات التي أطفأها الإسلام أو خلق الأحقاد بين القوميات التي وحد الدين الحنيف بينها، ومن هنا قدّرنا خطورة الصراع الذي يتحول من نزاع بين “بلدين” إلى صدام بين “قوميتين” (..) والبعض يقول بأننا نسوّى بين المُعتدي والمعتدى عليه، ونحن نقول أننا دُعاة سلام ولسنا قضاة.
ولعلي، وأنا أسترجع تصريحات الرئيس الشاذلي، أتذكر هنا مقولته لبريجنيف في عقر داره: حذار من أن تكون أفغانستان هي فيتنامكم.
تلك كانت شهادة للتاريخ، حاولت بها أن ألحق بالقياديين العرب والمصريين بوجه خاص، ممن سجلوا شهاداتهم ليستفيد منها كل من تلقي به المقادير في غابة العمل السياسي.
دكتور محيي الدين عميمور كاتب ومفكر ووزير اعلام جزائري سابق