تطرقنا في مقال سابق قبل عدة أشهر عن موقف تاريخي يسجل للعراق والرئيس صدام حسين والتزامه الثابت بقضية العرب الاولى وذلك نقلا عن مقابلة سابقة جرت بين الدكتور وليد الراوي مدير مكتب وزير الدفاع العراقي في عهد الرئيس صدام حسين مع قناة روسيا اليوم ولقاءه بالاعلامي المخضرم سلام مسافر حيث تحدث عن استعداد العراق لمعركة العرب الكبرى ضد الكيان الصهيوني في عام ١٩٨٩/ ١٩٩٠م لكن للأسف لم تحدث تلك الحرب وتمكنت الاطراف المعنية بأمن “اسرائيل” من جر القرار العراقي بالاتجاه المعاكس نحو الكويت، ونحن هنا لا نبرر لتلك الجريمة التي ارتكبت ضد الكويت على الاطلاق بل نحاول إلقاء الضوء على حالة تاريخية يراد طمسها ومحو أي موقف ايجابي للعراق في ظل قيادة الرئيس صدام حسين – رحمه الله لا سيما موقفه من ملف التسوية بالشرق الأوسط وإلتزامه بالقضية الفلسطينية ونجدد ذكره هنا للتاريخ دون مزايدة ولمعالجة حالات الطمس والتشويه التي تعرض لها كل القادة الوطنيين والقوميين العرب، وفي مقالنا هذا نعود مجددا لتأكيد ذلك الموقف من زاوية نظر سياسية أخرى والشهادة هذه المرة تأتي من قبل الدكتور محمد مهدي صالح الراوي وزير التجارة العراقي الاسبق في حديثه لقناة العربية عبر الذاكرة السياسية بالحلقة الثالثة التي بثت مؤخرا، حيث يذكر الراوي هنا، والمصادفة أن الشهود الاثنين كلهم من أبناء “راوه” وهي مدينة عراقية صغيرة على يسار الفرات بالقرب من مدينة عانة في محافظة الانبار وقدمت عددا من كبار قيادات العراق وكذلك قرناءهم في مدينة “عانه” الذين عرفوا بمستواهم الأكاديمي المتقدم وهذا ليس غريبا على العراق العظيم وشعبه البطل قوي الشكيمة شديد البأس وقياداته التي كانت لها مواقف تاريخية مشهودة منذ نبوخذ نصر .
استكمالا لسياق مقالنا التأريخي وموقف صدام حسين من التسوية بالشرق الأوسط يتحدث الدكتور محمد مهدي الراوي عما ذكره سكرتير الرئيس حامد حمادي وقد كانا بالمعتقل بعد سقوط العراق بيد الاحتلال الامريكي عام ٢٠٠٣م حيث يذكر الراوي أنه بعد قمة مجلس التعاون العربي في عمان بالاردن والذي تلى فيه صدام حسين بيانه الشديد اللهجة ضد “اسرائيل” ليأتي البيان الختامي أيضا مطابقا للموقف العراقي وفي تواز مع حالة من التراشق الاعلامي والتهديدات العراقية على لسان صدام حسين نفسه بأن العراق سيحرق نصف “اسرائيل” اذا ما اعتدت على العراق أو على دولة عربية ويؤكد الراوي هنا ما ذكره سكرتير الرئيس حامد حمادي قائلا: سافرت الى جنيف بتاريخ ٩ من الشهر ولم يسم الجهة المرسلة ولم يحدد العام كذلك لكنه يعتقد انها بعد انتهاء الحرب العراقية الايرانية بعام واحد أي في العام ١٩٨٩م يقول حمادي استلمت الرسالة من برزان أخ الرئيس العراقي صدام حسين والتي تتضمن مساومة للعراق من قبل الجهة المرسلة: “انكم خرجتم بقوة كبيرة بعد الحرب وبعتاد عسكري ضخم ومازال التصنيع العسكري في تقدم مطرد؟! وتفيد الرسالة أيضا أن تلك الجهة لا تطلب من العراق الدخول في التسوية أو الموافقة عليها لكن يطلب من العراق الكف عن تهديد “اسرائيل” وعليه يتم القبول بالرئيس صدام كأقوى زعيم بالمنطقة”؟! وضع حمادي الرسالة بالبريد وجاء الرد سريعا من صدام حسين فيها عبارة واحدة: “والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه” كان رده حازما وبعيدا عن الدبلوماسية والسياسة بل يرتكز على مبدأ قومي عروبي والتزاما بالقضية الفلسطينية، فطلب برزان مجددا ردا واضحا فرد عليهم صدام حسين هذا هو الرد الذي تبلغهم به!! وهذا الرد اقتباسا من رد الرسول محمد (ص) على عمه ابي طالب عندما ساومه أهل قريش بالتوقف عن تبليغ دعوته فجاء رد الرسول بتلك العبارة الحازمة والتي اقتبسها صدام حسين ليرد على الجهة الدولية التي أرادت مساومته، وهذا ليس بغريب على قائد عروبي كبير مثل صدام حسين .
حينها حدثت حالة تعبئة عامة عاشها العراق في تلك الاثناء وبدأ فيها التصعيد عبر تهديدات أطلقها صدام عبر وسائل الاعلام ضد الكيان الصهيوني واجراءآت على الأرض أيضا بالتحضير لمعركة العرب الكبرى عامي ١٩٨٩/ ١٩٩٠م ويضيف الراوي أنه تم الاستطلاع الجوي وتصوير الضفة الغربية وأخذت صور عبر طائرة سوخوي، وهو بالضبط ما ذكره من قبل الدكتور وليد الراوي بالتفصيل لقناة روسيا اليوم بالتأكيد على تحرك وانفتاح القوات العراقية، وأعاد ذكره الدكتور محمد مهدي صالح وزير التجارة الاسبق لقناة العربية استنادا على إفادة الفريق إياد فتيح الراوي قائد الحرس الجمهوري والقيادات العسكرية عندما كانوا بالمعتقل، فلم تكن التهديدات العراقية لاغراض اعلامية بل تبعها اجراءآت على الارض، وهنا أخذ الامر على محمل الجد خاصة بعد تصوير عبر الاقمار الاصطناعية لتحركات قوات الحرس الجمهوري غرب الفرات، فكان ما كان لاحقا بجر العراق نحو الكويت نتيجة استفزازات لا تقبل في علم السياسة بل تسمى جريمة بمعنى الكلمة دفعنا ثمنها جميعا كأمة عربية بتدمير العراق وتضعضع الموقف العربي وفقدان أهم قوة عربية .
رحم الله الرئيس الشهيد صدام حسين الذي كان صادقا في التزامه بقضية العرب الاولى وكان على استعداد للمواجهة مع كيان الاحتلال وتحمل تبعات تلك الحرب لكنه لم يتعامل مع الموقف السياسي الدولي كما ينبغي وانزلق باتجاه الكويت، وبعد حرب الخليج الثانية عام ١٩٩١م أو حرب تحرير الكويت وفرض الحصار على العراق، قدم بالكونجرس الامريكي مشروع لتدمير اسلحة العراق النووية والبيلوجية والكيماوية مع التأكيد على عدم التعرض لأمن اسرائيل وتطويع العراق بالقبول بالامر الواقع، بعدها حاول الرئيس كلينتون أن يتعامل مع صدام للقبول بالتسوية في الشرق الاوسط عبر وساطة من قبل الملك الحسن الثاني الذي جاء في رسالته: أن على العراق القبول بالتسوية فقط وليس مطلوبا الدخول كطرف فيها وعدم تهديد اسرائيل وعليه يرفع الحصار عن العراق؟! ويذكر د. مهدي الراوي في نفس الحلقة أن صدام حسين أرسل وزير خارجيته طارق عزيز الى المغرب برد يرفض مطلقا أي مساومة حول موقف العراق من الكيان الصهيوني وعدم الاعتراف بأية تسويات في فترة كانت فيه مفاوضات أوسلو قائمة، لكن العراق كان له رأيا آخر. هكذا كان التزام صدام حسين بالقضية الفلسطينية وعدم قبول أي موقف مساوم فيها حتى في أحلك الظروف وهذا يسجل شهادة للتاريخ في حق هذا القائد العظيم رحمه الله .
كان بالامكان أن يحتفظ الرئيس صدام حسين بقوته ويتجنب مشكلة الكويت ويوجه قدرات العراق الضخمة باتجاهها الصحيح وبالتالي تحقيق المعادلة الكاملة بامتياز؟! مع ذلك يجب أن يسجل التاريخ أن العراق بقيادة صدام حسين قام بإطلاق عدد (٣٩) صاروخا باتجاه الكيان المحتل، وسجل مواقف عظيمة داعمة للقضية الفلسطينية وساند العرب في كل مكان منذ الحروب العربية الصهيونية وساند العرب على خطوط الجبهة العربية ولم يتخل عن أدواره القومية حتى وقوعه تحت الاحتلال الامريكي، وهنا لا يمكن اغفال تاريخ صدام حسين والكثير من المواقف الايجابية في بناء دولة العراق العظيم ومواقفه الصادقة المرتبطة بالقضية الفلسطينية ومبادئه الشخصية التي سجلها التاريخ .
خميس بن عبيد القطيطي كاتب عُماني