تشي المعلومات المتداولة في الأيام الماضية بحلحلة ما على صعيد العلاقات التركية السورية بدفع روسي. بحسب صحيفة "حُرييت"، فإن الرئيس التركي رجب طيب إردوغان كان راغباً في لقاء الرئيس السوري بشار الأسد لو أنه حضر قمة شنغهاي في أوزبكستان.
ما نقلته الصحيفة التركية سبقه كلام لا يقل أهمية عن زيارة رئيس الاستخبارات التركية هاكان فيدان دمشق، وعقده عدة لقاءات مع نظيره السوري في الأسابيع القليلة الماضية.
لا يمكن لهذه الاستدارة التركية إلا أن تعود بنا إلى الوراء، حين كان للرئيس التركي مواقف وتصريحات لا تنسى. في العام 2011، خاطب نظيره السوري قائلاً: "لا يمكنك أبداً أن تظل في السلطة عن طريق القسوة. لا يمكنك أبداً أن تقف في وجه إرادة الشعب"، مضيفاً: "خطى الديمقراطية أصبحت تسبق الحكم الاستبدادي، والأنظمة الدكتاتورية تحترق وتسقط أرضاً".
فماذا عن خطى تركيا الديمقراطية منذ ذلك الوقت، وهي التي تعيش اليوم على وقع التحضيرات لانتخابات عامة تتجه إليها الأنظار، لما يمكن أن تحمله من مفاجآت على صعيد التوازنات السياسية، في ظل بروز أحزاب جديدة ولدت من رحم أخرى قديمة، وهذا ليس جديداً على المشهد الحزبي في تركيا.
لم تعرف تركيا الديمقراطية إلا مع انهيار الدولة العثمانية ونقلها إلى ضفة التغريب على يد مصطفى كمال أتاتورك. ومع ذلك، هناك مآخذ سجّلت عليها، إذ إنّها فرضت من الحزب الحاكم، أي من الأعلى إلى الأسفل، ولم تكن قط بفعل إرادة الأغلبية.
يشير علماء السياسة خوان لينز Juan J. Linz وألفريد ستبان Alfred Stepan إلى 5 عوامل مؤسساتية من شأنها أن تدلّل على ترسخ الديمقراطية في الدول، هي الاقتصاد والبيروقراطية وسيادة القانون والمجتمع السياسي والمجتمع المدني.
تتسم العلاقة بين الاقتصاد والديمقراطية بالجدلية. وبناءً عليه، هناك أكثر من وجهة نظر، ففيما يجزم البعض بالعلاقة العضوية بين النمو الاقتصادي والديمقراطية، كما ساد الاعتقاد لدى النخب السياسية والفكرية الغربية في منتصف القرن الماضي، يرى آخرون أنَّ النمو الاقتصادي في بعض الدول، وتحديداً الاقتصاد الاجتماعي، لن يكرس إلا الاستبداد عوضاً عن الديمقراطية.
ومع ذلك، نذكر بعض الأرقام التي تدلّل على وضع تركيا الاقتصادي والمالي. على سبيل المثال، تجاوز معدل التضخم في تركيا حاجز 80%، وهو مستوى وصف بالقياسي منذ عام 1998، مترافقاً مع ارتفاع حاد في الأسعار وتراجع في الليرة التركية في مقابل الدولار، إذ فقدت أكثر من نصف قيمتها في عام واحد.
لو عدنا سنوات إلى الوراء، وتحديداً إلى العام 2019، لرأينا تأثير الاقتصاد في السلوك الانتخابي للمواطن التركي في الانتخابات البلدية، إذ خسر حزب العدالة والتنمية جميع المدن الكبرى في أعقاب تراجع الأوضاع الاقتصادية وارتفاع التضخم. واليوم، يبدو الوضع مشابهاً، لا بل أسوأ في ظل انعكاسات الأزمات الدولية.
على صعيد البيروقراطية، عززت التعديلات الدستورية لحزب العدالة والتنمية التي أقرت عام 2017 سلطات الرئيس مع تحوّل تركيا من نظام برلماني إلى رئاسي. وفي حين يقول مؤيدو هذه التعديلات إنها ستسهل وتسرع عملية اتخاذ القرارات، يؤكد معارضوها أنَّ هذا المسار من شأنه أن يمنح الرئيس وحزبه ومن يدعمه اليد الطولى في إدارة شؤون البلاد، ما سيعزز بيروقراطية الأقارب (أرحام وموالين)، أي بمعنى آخر "النيبوتيزم" (nepotism). وهناك شواهد على كيفية عمل الماكينة الانتخابية لحزب العدالة والتنمية عند الاستحقاقات.
عن جزئية سيادة القانون، لا يمكن التغاضي عن حال الطوارئ التي حكمت البلاد لعامين بعد محاولة الانقلاب الفاشلة عام 2016، التي أعقبها قانون تخوفت منه المعارضة تحت عنوان "مكافحة الإرهاب"، إضافة إلى مادة "إهانة الرئيس"، التي تأتي ضمن قانون العقوبات. وقد عرفت السنوات الفائتة حملات من الاعتقالات والتضييقات طالت قطاعات مختلفة أمنية وتربوية وصحافية.
وهنا، يسجل تراجع تركيا بمرتبة واحدة عن العام الفائت ضمن مؤشر سيادة القانون، فاحتلت المرتبة 117 من بين 139 دولة، بحسب "World Justice Project".
أما في مؤشرات مدركات الفساد، فتحتل تركيا المرتبة 96 من بين 180 دولة لعام 2021، في تراجع بنقطتين عن العام الفائت، بحسب تقرير منظمة الشفافية العالمية.
وفي أحدث إصدار لمؤشر الديمقراطية التابع لشركة الأبحاث والتحليل البريطانية "إيكونوميست إنتليجنس يونيت" (EIU)، صُنفت أنقرة في المرتبة 103 من بين 167 دولة، مرتفعةً بمرتبة واحدة مقارنة بعام 2020. ومع ذلك، لا يزال المؤشر يدرج تركيا ضمن فئة "النظام الهجين"، وهي ثاني أدنى درجة بعد "النظام الاستبدادي".
على صعيد حرية الصحافة، احتلَّت تركيا، وفق منظمة "مراسلون بلا حدود"، المرتبة 149 من بين 180 دولة. وقد حذرت المنظمة من تزايد الاستبداد في البلاد وتراجع التعددية الإعلامية.
يبقى أن نشير إلى أنَّ التعددية الحزبية (أكثر من 120 حزباً)، وإن كانت في ظاهرها تشير إلى شكل من أشكال ازدهار الديمقراطية، إلا أن ظهور بعضها بفعل الانشقاقات يكشف استبدادية ما داخل الأحزاب نفسها. أما البعض الآخر، فلا يتجاوز دوره مساعدة الأحزاب الكبيرة القائمة والمتحكمة في المشهد السياسي.
بنتيجة ما تقدم، لا شكّ في أن أمام تركيا الكثير من العمل لترسيخ الديمقراطية أفعالاً لا أقوالاً، ولكن هل هذه هي أولوية الرئيس التركي رجب طيب إردوغان؟ وقبل الوصول إلى الانتخابات وما ستفرزه، هل يمكن أن نرى الرئيس متجولاً في إحدى حدائق إسطنبول، كما فعل في نيويورك، وجالساً يستمع إلى هواجس المواطن التركي؟
رانا أبي جمعة إعلامية وكاتبة في الميادين