تنتظر القضية الفلسطينية اجتماعات الدورة 77 للجمعية العامّة للأمم المتحدة، والتي راهنت السلطة الفلسطينية عليها في السنوات الماضية بعد تعثّر المفاوضات مع إسرائيل، بهدف تحقيق اعتراف دولي بحقّ قيام الدولة الفلسطينية وتثبيت وجودها في هذا المحفل الأممي.
لكن "الأمم المتحدة" – كانت وما تزال- أشبه بشركة مساهمة لها جمعيتها العمومية التي تلتقي سنوياً، بينما قراراتها الفاعلة تكون في "مجلس الإدارة"، وبيد رئيسه العملي. ويخطئ من ينظر للأمم المتحدة بغير هذه النظرة، أو يتوقّع منها القيام بدورٍ فاعلٍ آخر.
فلم تكن صدفةً أنْ يكون تأسيس هيئة الأمم المتحدة قد جرى في العام 1945 على الساحل الغربي الأميركي في مدينة سان فرانسيسكو، ولم تكن صدفةً أيضاً أنْ يكون مقرّها في الساحل الشرقي الأميركي بمدينة نيويورك. وطبعاً ليس هو سخاءً أميركياً أن تكون ربع ميزانية الأمم المتحدة تتحصّل من الميزانية الأميركية. فواشنطن هي منذ تأسيس الأمم المتحدة تحتلّ عمليّاً منصب "رئيس مجلس إدارة هذه الشركة المساهمة الدوليّة". وما من دولة دائمة العضوية في مجلس الأمن استخدمت حقّ النقض كما استخدمته الولايات المتحدة، خاصّةً لجهة الدفاع عن إسرائيل وسياساتها!.
لقد نجحت تجربة الأمم المتحدة في العقود الماضية بأن تكون هيئة إنسانية واجتماعية لمساعدة بعض الدول الفقيرة أو المنكوبة بحروب أو كوارث طبيعية، لكنّها لم تكن قادرة على تجاوز طبيعتها التآلفية بين أقطاب متنافسين على العالم وثرواته. وكانت شعوب العالم الثالث تجد في الاجتماعات الدورية السنوية أو الطارئة للهيئة العامّة للأمم المتحدة وكأنَّها "حائط مبكى" تطرح فيه مشاكلها وهمومها أمام ممثّلي وإعلام العالم كلّه، لكن القرار السياسي كان، وما يزال، في مجلس الأمن وفي حقوق الامتياز التي حصلت عليها الدول الخمس الكبرى من حيث العضوية الدائمة في المجلس، وأيضاً حقّ النقض (الفيتو) دون أن تعبّر هذه الامتيازات بالضرورة عن كتل بشرية كبيرة، أو مواقع قارّية وجغرافية، أو حتّى عن ثقل اقتصادي أو عسكري كبير مقارنةً مع دولٍ أخرى لا تتمتّع بحقّ العضوية الدائمة في مجلس الأمن.
وهاهي القضية الفلسطينية تعود من جديد إلى أروقة الأمم المتّحدة، رغم تكرار هذا الأمر عشرات المرّات في العقود السبعة الماضية، دون تنفيذ الحدّ الأدنى من قراراتٍ دولية متعدّدة بشأن حقوق الشعب الفلسطيني، والذي يعاني بعضه المقيم على أرضه من عسف الاحتلال، وبعضه الآخر من ظلم وقهر اللجوء والتشرّد في بقاع العالم لأكثر من سبعين عاماً.
ولماذا تكون هناك آمال ومراهنات على نتائج أفضل من مؤسّسة دولية، كانت هي التي شرّعت الوجود الإسرائيلي على أرض فلسطين، ولم تُجبر هذا "الوليد الأممي الجديد" على احترام وتنفيذ أي قرارات صادرة عنها!؟. هل العجز عن توفير بدائل فلسطينية وعربية أخرى هو السبب لتكرار المراهنات على دور الأمم المتّحدة بينما "رئيس مجلس إدارة" هذه المؤسّسة الدولية (أي الإدارات الأميركية) يدعم ما ينشده حكام إسرائيل من استيطان للأراضي العربية المحتلّة، بما فيها الجولان والقدس الشريف، ومن إسقاط لحقّ عودة اللاجئين الفلسطينيين؟! وهل نفّذت إسرائيل أصلاً أي قرارات من الجمعية العامّة أو من مجلس الأمن تنصف ولو قليلاً الحقوق الفلسطينية؟!.
حالياً، لا يمكن المراهنة على أي دور أميركي، فإدارة بيدن مشغولة في مواجهتها المفتوحة زمنياً مع روسيا والصين، بينما غالبية القوى السياسية الإسرائيلية الحاكمة والمعارضة ترفض مطلب الدولة الفلسطينية المستقلّة على كل الضفّة الغربية وغزّة، وهي المسألة الكبرى المعنيّة بها أي مفاوضات أو "عملية سلام" مستقبلية بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، وحيث مستمرة المراهنة الإسرائيلية على استثمار نتائج ما حدث ويحدث في البلاد العربية من خلافاتٍ وصراعات، ومن تهميش للقضية الفلسطينية، ومن حروب أهلية عربية، ومن غياب لمرجعية عربية فاعلة، ومن تحقيق التطبيع "العربي والإسلامي" مع إسرائيل بدون شرط انسحابها من كلّ الأراضي العربية المحتلّة في العام 1967 ومن قيام الدولة الفلسطينية المستقلّة؟!.
في المقابل، فإنّ إسرائيل لم تراهن أبداً في كلّ العقود الماضية على أي دورٍ للأمم المتحدة، بل المراهنة الإسرائيلية هي دوماً على قوتها الذاتية المدعومة من "الغرب" وعلى الانقسامات في الجسم الفلسطيني وفي عموم المنطقة العربية، وعلى تجزئة دول المنطقة، وحيث تجد إسرائيل مصلحةً كبيرة في الصراعات الجارية الآن في عدّة بلدان عربية وانعكاساتها السلبيية على القضية الفلسطينية.
ما تحتاجه القضية الفلسطينية هو أكثر ممّا حدث من رفض السلطة الفلسطينية لمشروع "صفقة القرن" ومن ردود فعلٍ فلسطينية وعربية ودولية تتكرر رداً على القتل الإجرامي العشوائي الذي تمارسه إسرائيل على مع غزّة وفي بعض مدن الضفة الغربية. وأيضاً أكثر من الحراك البطولي الشعبي الفلسطيني في الأراضي الفلسطينة المحتلة. ففلسطين تحتاج الآن إلى انتفاضة شعبية فلسطينية شاملة تضع حدّاً لما حصل في العقود الثلاثة الماضية من تحريفٍ لمسار النضال الفلسطيني، ومن تقزيمٍ لهذه القضية التي كانت رمزاً لصراع عربي/صهيوني على مدار قرنٍ من الزمن، فجرى مسخها لتكون مسألة خاضعة للتفاوض بين "سلطة فلسطينية" في الضفّة الغربية وبين "الدولة الإسرائيلية" التي رفضت الاعتراف حتّى بأنّها دولة محتلّة، كما رفضت وترفض إعلان حدودها النهائية.
فالمطلوب فعلاً وحالياً هو وحدة القيادة الفلسطينية ووحدة برنامج العمل على مستوى كلّ المنظّمات الفلسطينية الفاعلة داخل الأراضي المحتلّة وخارجها، ففي ذلك يمكن أن يتكامل أسلوب العمل السياسي ومسار التفاوض، مع أسلوب المقاومة الشعبية الشاملة في كلّ المناطق الفلسطينية.
إنّ الرؤية واضحةٌ جدّاً الآن لكيفيّة الخروج من المأزق الذي هي عليه الآن السلطة الفلسطينية وعموم الوضع العربي. فالسلطة الفلسطينية هي أمام خيارين: إمّا التحوّل إلى إدارة مدنية تخدم إسرائيل وأمنها واحتلالها، أو الانتقال الفعلي إلى صيغة "جبهة تحرّر وطني" تجمع وسطها كل التيّارات والقوى التي تنسجم مع إستراتيجيةٍ واحدة تطالب بالحدّ الأدنى بالانسحاب الإسرائيلي الكامل من الأراضي المحتلّة عام 67 بما فيها القدس الشريف، وبناء دولة فلسطينية مستقلّة على هذه الأراضي (وعاصمتها القدس)، ثمّ تفاوض هذه الدولة حين قيامها على مصير اللاجئين الفلسطينيين دون التخلّي عن حقوقهم المشروعة التي نصّت عليها القرارات الدولية.
وحينما تتحوّل السلطة الفلسطينية إلى "جبهة تحرّر وطني"، فسيكون من واجبها - كما هو من حقّها- تحديد أساليب المقاومة وأمكنتها والجهات التي تقوم بها. عند ذلك، سيجد الإنسان الفلسطيني أملاً في قيادة تسير على طريقٍ سليم يجمع بين وضوحٍ في الرؤية، وبين أسلوبٍ سليم في التعامل مع مسألتيْ المقاومة والتفاوض. وخلاصة تجارب الماضي تؤكّد أنّ الأمّة أو الأوطان التي لا تتوحّد شعوبها من أجل قضاياها، تنقاد حتماً لما سيقرّره لها الآخرون!.
صبحي غندورمدير "مركز الحوار العربي" في واشنطن
Twitter: @AlhewarCenter
Email: [email protected]