راهن كثير من السوريين على مدى أشهر، على إمكانية حصول انفراج سياسي-اقتصادي، بعد أن ظهرت تسريبات إعلامية، من جهات إعلامية متعددة، عن إمكانية حصول خرق على مستوى الجامعة العربية، وعودة سوريا إليها، بما يتيح الأجواء الإقليمية لتخفيف العقوبات عنها، وبدء تدفق الاستثمارات العربية.
لكن هذه الرهانات تبخرت، إثر التصعيد الأميركي الجديد في الملف السوري، وإصدار تعليماته إلى الدول العربية، بمنع العودة السورية إلى الجامعة، فهل يمكن الرهان على منظمة الجامعة العربية؟
على الرغم من أن سوريا تعدّ عضواً مؤسساً في الجامعة العربية، من بين الدول السبع التي أعلنت تأسيسها في القاهرة عام 1945، فإن هذه المنظمة لم تكن نسيج وحدها، فهي بالأساس تجمّع لمجموعة من الدول العربية، التي تشكلت إثر الحرب العالمية الأولى، من دون إرادة شعوبها، باتفاق بين المنتصرين في الحرب (فرنسا وبريطانيا)، بالإضافة إلى نتائج الحرب العالمية الثانية، التي أدرك البريطانيون قبل نهايتها، أنها لن تكون في مصلحتهم، فعملوا على استباق ظهور نتائجها، والعمل على بناء منظومات سياسية يمكن التحكم بها، لخدمة السياسات البريطانية، واستمرار بقائها في أهم منطقة من العالم.
وبادر وزير الخارجية البريطاني أنتوني آيدين آنذاك، إلى الترويج لمثل هذه المنظومة العربية منذ عام 1941، (أن حكومة بريطانيا تؤيد الرغبات والآمال العربية في الوحدة بينهم، وأنها مستعدة لأن تتعاون معهم في ذلك)، ثم عاد من جديد عام 1943 ليؤكد مساعدة بريطانيا في تأسيس هذه المنظمة، التي أظهرت الأهداف المنوطة بها بالتواطؤ على فلسطين، وتسليمها للمنظمات الصهيونية، لإنشاء كيان مانع من التقائهم.
وعلى الرغم من كل المحاولات التي عملت عليها مصر منذ عام 1954، لتحويل مسارها إلى خدمة الأهداف الكبرى للعرب، فإنها انقلبت من جديد بعد عام 1970، إلى المسار الذي يخدم التوجهات الغربية، بعد انتقال الجامعة من الوصاية البريطانية إلى الوصاية الأميركية، لتكون منظمة إقليمية يسهل التحكم في دولها، والتنسيق فيما بينها لخدمة استمرار الهيمنة الغربية في الصراع الدولي، والأمر لا يحتاج إلى نقاش بفعل الدلائل القاطعة المتتالية، بتواطئها بعد فلسطين على العراق وليبيا وسوريا واليمن ولبنان.
لم يأت الموقف الأميركي بالتصعيد ضد سوريا، في عودتها إلى الجامعة العربية، في سياق منفصل عن تصعيدها الصراع مع روسيا والصين وإيران، فهي تدافع بشراسة عن مكانتها الدولية، وتستشعر مخاطر الصعود الصيني مع كل من روسيا والهند وإيران، وأثر ذلك على تشكيل تحالف صلب، يعمل على تجاوز الولايات المتحدة في مسألتين تُعدّان لُبّ أسباب استمرار تفوقها، وهما: النظام المالي العالمي الذي انبثق بعد الحرب العالمية الثانية، وعصبه العملة الأميركية (الدولار) في المبادلات التجارية الدولية، واستمرار تفوقها في التكنولوجيا العالية، التي تتيح لها المزيد من التحكم بالمسارات الاقتصادية للدول، وهذا ما دفعها إلى المزيد من الانخراط في الحرب الأوكرانية ضد روسيا، والتصعيد في تايوان ضد الصين، والتشدد في معايير العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران، التي لم ترضخ للضغوط الأميركية، بالابتعاد عن الصين وروسيا من جهة، وعدم قبولها بنظام إقليمي في غرب آسيا، بعيداً عن المشروعين الأوراسي و الصيني.
ولم يتوقف التصعيد الأميركي على الجانب السياسي الإقليمي العربي، بل تعداه إلى الداخل السوري، بعد تعيين الإدارة الأميركية نيكولاس جرانجر، ممثلاً جديداً للملف السوري، ومحاولاته إيجاد شراكة سياسية بين المجلس الوطني الكردي في سوريا، الموالي لتركيا، وبين حزب الاتحاد الديمقراطي، بما يمنع التوافق السوري-التركي، ويمنع توافق دمشق وكردها، ومنع موسكو وطهران ودمشق، من تحقيق المزيد من المكاسب على الأرض.
وترافق ذلك مع تصعيد عسكري إسرائيلي، باستهداف مطاري دمشق وحلب، واستهداف الطيران الحربي الأميركي للمواقع العسكرية على الحدود السورية مع العراق.
وفي المقابل، فإن الأطراف المُستهدفة لم تتوقف عن مواجهة التهديدات الأميركية، وخاصةً روسيا وإيران، اللتين تخوضان حروباً مركبة، على المستوى العسكري والاقتصادي والاجتماعي، وبتحد واضح في العراق بعد الإطفاء الموقت لفتيل الحرب الأهلية، ومزيد من التحدي في سوريا والعراق واليمن، وخاصةً بعد انهيار مفاوضات العودة إلى الاتفاق النووي، وارتكاز إيران على تعميق تحالفها مع الصين وروسيا، بتوجه واضح نحو التحالف الآسيوي، بعد إثبات صوابية الرأي بعدم إمكانية الرهان على الغرب، بفك الحصار، ونزع العقوبات.
توحي كل مؤشرات ارتفاع مستوى الصراع الدولي والإقليمي، بابتعاد موعد الانفراجات، التي تتيح للسوريين بدء الخروج من الكارثة، والتغيير من إراداتهم وإداراتهم في الداخل، لاستيعاب المرحلة القادمة، بكل صعوباتها على الجميع، إذ لا يستطيعون الاستمرار بالآليات والأدوات نفسها، التي أثبتت عجزها عن التخفيف من مستوى الضغوطات الاقتصادية الهائلة عليهم.
في المقابل، فإنه من المفترض التوقف، في هذه المرحلة، عن الرهانات التي يمكنها أن تفتح ثغرة في الجدار العربي، فلا يمكن لمنظمة الجامعة العربية أن تخرج عن الإطار الوظيفي الذي أُسِّست لأجله، وأن تغيير وظيفتها لن يحصل إلا بانحسار النظام الدولي الغربي المهيمن، الذي تشكل بعد الحرب العالمية الثانية، وترسيخ العمل مع الدول العربية التي تمنَّعت عن المشاركة في الحرب على سوريا.
والأهم من ذلك هو إعطاء الأولوية للمنظومات الإقليمية والدولية التي تتشكل، بما يحقق المصالح السورية العليا وتصالحهم مع بعضهم البعض، وهذا بدوره يقتضي البدء بالتغيير الجذري العميق والهادئ، الذي تزداد صعوبات تحقيقه مع كل يوم لا يتم العمل عليه.