لست أدري لماذا كان كثيرون ينتظرون تعليقي على زيارة الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” للجزائر، ولعلي تصورتُ أن ذلك ناتج عن أن العبد الضعيف كان واحدا من المجموعة التي كُلفت بتنظيم زيارة الرئيس الفرنسي “جيسكار ديستان” للجزائر في منتصف السبعينيات، والتي كانت زيارة فاشلة بكل المقاييس.
كان واضحا يومها أن جيسكارد جاء إلى الجزائر بمجموعة من الأفكار التي قدمت له من بقايا أنصار الجزائر الفرنسية وقيادات “الحرْكى” (وهي العناصر الجزائرية التي حاربت في صفوف العدوّ ولجأت لفرنسا بعد انتزاع الجزائر لاستقلالها في 1962).
وهكذا كانت أول كلمات الرئيس الفرنسي وهو يطأ أرض الجزائر عبارته التي فوجئ بها كل الوطنيين، حيث قال إنه يحيي الجزائر “المستقلة” باسم فرنسا “التاريخية”، متناسيا أن تاريخ الجزائر أكثر عراقة من تاريخ فرنسا نفسها، منذ كانت نوميديا وموريطانيا الشرقية قبل الميلاد.
ومن هنا كان ردّ الرئيس هواري بو مدين يومها باترا حاسما وهو يستكمل ما قاله في خطاب الترحيب بضيف الجزائر من أن صفحات الماضي قد طويت نهائيا، حيث أضاف بأسلوبه المعروف من أن هذه الصفحات لم تمزق، وهي لن تمزق أبدا طالما كان هناك مجلهدون وأبناء وأحفاد شهداء ومجاهدين، وهو ما قاله يوم رئيس فرنسي آخر وكرره وزير خارجيته الاشتراكي المزيف.
ولن أدخل في تفاصيل الزيارة، التي حرصت الجزائر على أن ترسل خلالها عددا من الرسائل للضيوف، كان من أهمها أن يوضع في البرنامج زيارة مدينة “سكيكدة” الشهيدة، التي عرفت مجازر 1955 التي قام بها الجيش الفرنسي خلال الثورة الجزائرية، وهي الزيارة التي تمت بالفعل ورافق فيها الرئيس الجزائري ضيفه خوفا من ردود فعل سلبية محتملة من المواطنين.
وكان من الرسائل أن السيارة الرسمية التي حملت الرئيس الفرنسي كانت سيارة ألمانية، فالجزائر، التي كانت تصنع الشاحنات، لم تكن تصنع سيارات الليموزين.
وكان من الرسائل أن الورود التي وضعت على مائدة العشاء الرسمي كانت ما يسمى بالفرنسية “انيمون”، وهو اسم السيدة حرم الرئيس الزائر، وهي الزهور التي تسمى بالعربية “شقائق النعمان”، والذين يذكرون مسرحية “كاسك يا وطن” الشهيرة لدريد لحام يتذكرون ارتباط الزهرة بالشهداء.
وهناك كثير كنت تناولته في أحاديث سابقة.
وكانت زيارة جيسكارد لقاء تاريخيا ضائعا لم يستثمره الجانب الفرنسي.
فالرئيس الجزائري الذي كان يدرك ضرورة تحقيق التوازن بين القوتين الأعظم آنذاك، الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، كان قد خرج من مؤتمر عدم الانحياز الرابع الذي احتضنته الجزائر في 1973 بفكرة طرحها في خطابه التاريخي أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة ومضمونها أن النظام العالمي هو نظام ظالم اعتُمد في غياب دول عدم الانحياز، وقد آن أوان تغييره.
وكانت الخلفية التي فهمتها آنذاك هي أن بو مدين كان يريد خلق تكتل جديد ترتبط فيه دول عدم الانحياز، والقارة الإفريقية بوجه خاص، مع أوربا الغربية، وهكذا تكون القوة الجديدة كتلة ثالثة تشكل عنصر توازن بين القوتين الأعظم.
وأتصور أن الرئيس الجزائري كان يأمل أن تكون كل من الجزائر وباريس طرفا الجسر بين الشمال والجنوب، وهو ما فشل الرئيس الفرنسي، بأسلوبه المتعالي، في تفهمه وإدراك أهميته، وكان هذا من أهم عناصر الفشل.
وأغلقت الجزائر أمام الزيارات الرئاسية الفرنسية إلى حين تولي اليسار الفرنسي مقاليد “الإليزيه” في عهد الرئيس الجزائري الثالث الشاذلي بن جديد.
ماذا عن زيارة الرئيس ماكرون؟.
لا أملك كل المعطيات التي تمكنني من الحكم على الزيارة بالنجاح أو الفشل، وقد حاولت متابعة التعليقات الإعلامية التي يمكن أن تعتبر مأذونة، لكن التفتيت كان قد أصاب الساحة الإعلامية في سنوات حكم الرئيس عبد العزيز بو تفليقة عبر التوالد القططي للمنابر الإعلامية التي أصبح عددها اليوم أكبر من عدد المنابر في معظم الدول الأوربية مجتمعة، وانفرط عقد القراء، وكانت النتيجة أن الجزائر تفتقد اليوم منبرا إعلاميا يمكن أن يكون مرجعا إعلاميا للتعرف على السياسات العليا للبلاد، على غرار “لو موند” في فرنسا والأهرام في مصر والنهار في بيروت وواشنطون بوست في الولايات المتحدة الأمريكية.
من هنا، ولكيلا ينزعج من يريد معرفة كل أسرار زيارة الرئيس ماكرون وتداعياتها بكل تفاصيلها، أنبه القارئ بأن السطور القادمة ستكون مجرد انطباعات لمواطن تابع الزيارة عبر التلفزة وأقاويل الأصدقاء، وعليه ألا ينتظر تقريرا شاملا عن كل ما يتعلق بالزيارة.
ومن هنا سأتوقف عند نقطتين رأيت أنهما يسجلان وجه شبه مع الزيارة الفاشلة للرئيس جيسكارد ديستان في منتصف السبعينيات، فكلاهما يبرزان نوعية العقلية التي تتحكم في المواقف الفرنسية.
النقطة الأولى هي زيارة ماكرون لمسجد الجزائر الذي أقامه الرئيس بو تفليقة في نفس المكان الذي كان يريد منه القسيس الفرنسي “لا فيجري” إثر الغزو الفرنسي أن يكون نقطة انطلاق لتنصير الجزائر، كخطوة أولى نحو تنصير القارة الإفريقية، وكان اختيار موقع المسجد ضربة معلم تسجل للرئيس السابق.
هنا، تناقض الرئيس الفرنسي مع عميدة ملوك العالم، الملكة “إليزابيث الثانية”، التي حرصت خلال زيارتها لأحد مساجد باكستان أن تكون حافية القدمين، احتراما للمسلمين وللمسجد، وهكذا احتفظ الرئيس الفرنسي بحذائه ووضع قدميه في كيس بلاستيكي أزرق، وأثار هذا استياء كل من تابع اللقطات في التلفزة، وأكد من جديد نظرة الجماعة هناك للإسلام وللمسلمين، وربما كان على حق إلى حد ما بعد ما رأيناه من تصرف شوفيني لمسؤول كان على رأس مؤسسة إسلامية معروفة.
وأعترف أني كنت أتوقع أن الرئيس الفرنسي سيكون أكثر ذكاء من ملكة بريطانيا فيحاول عدم استثارة الجزائريين بهذا التصرف الذي تنقصه اللباقة وحسن التصرف، لكنني فوجئت بما رأيته، ولم يكن مما يسرّ الناظرين.
وحاول “ماكِرٌ” (بالتنوين) تبرير تصرف “ماكرون” فزعم بأن الزائر كان يخشى أن يكون هناك في المسجد من يسرقون الأحذية، وهكذا اضطر وزير الخارجية الجزائري، كما قال لي نفس الماكر، إلى التصرف بالمثل حتى لا يحرج الضيف.
تأتي هنا النقطة الثانية، وهي زيارة الرئيس الزائر، بناء على رغبة الجانب الفرنسي، لمتجر في وهران يحل عنوان “ديسكو مغرب” وهو متخصص في الترويج لأغاني “الرايْ” (بدون همزة على الألف الثانية، وهو غناء كان ممنوعا إذاعته في القرن الماضي) وبرز منه في فرنسا على وجه الخصوص مغنٍّ حمل اسم “ديجي سناك”، لم يكن كثيرون يعرفون عنه شيئا قبل ألعاب البحر الأبيض المتوسط.
وفي المتجر التقى الرئيس الزائر ببعض مغنيات “الرايْ” وتبادل مع الجميع أحاديث حميمية، كما التقطت له صورٌ وهو يحمل تسجيلات للفنان الوهراني الشاب حسني، الذي قتل في سنوات الإرهاب، وكذلك تسجيلات لبعض من تختلف الآراء حول توجههم الوطني.
واستنتج كثيرون أن الرئيس الفرنسي أراد أن يتوجه إلى شريحة خاصة من هواة الغناء، ويتوجه خصوصا نحو الذين كان التقى بهم في باريس من أبناء “الحركى” ومن يسمون “البور”، وألقى فيهم الكلمات التي شككت في عراقة التاريخ الجزائري بناء على ما قدم له من معلومات مشوشة، وهكذا أكد المسؤول الفرنسي كل الشكوك التي كانت ترى أن القوم هناك يريدون التعامل مع من ينتمون جغرافيا للجزائر، بشكل أو بآخر، بدون أن تكون لديهم إرادة الانتماء الحضاري للبلاد التي هزمت شارلكان في 1541، وفرضت على الجنرال شارل دوغول أن يخرج رسميا عن إرادة من جاءوا به إلى الحكم في 1958.
وللتذكير، فإن وهران عُرفت بعدد من الفنانين المجاهدين، وفي مقدمتهم “أحمد وهبي”، كما أنها المدينة التي ينتمي لها الشهيد أحمد زبانة، أول من أعدم بالمقصلة خلال السنوات الأولى للثورة الجزائرية، وهي أيضا المدينة التي احتضنت “عبد القادر علولة” والعديد من رجال المسرح الوطني، والذي لم يحاول ماكرون زيارته برغم دوره المتميز في مرحلة استرجاع الاستقلال.
وكان يمكن لمجموع الجزائريين، وخصوصا الذين لا ينسجمون مع أغاني “الراي”، تفهم نزوات الرئيس الزائر لكيلا أشكك بالضرورة في خلفياته، لو طلب الوفد الفرنسي من المضيف تنظيم سهرة يحييها الأوركسترا السيمفوني الجزائري تقدم تشكيلة من الألحان التي تعبر عن كل فنون أكبر الدول العربية الإفريقية.
ورغم أن الرئيس الزائر كان يركز في مداخلاته على اهتمامه بالشؤون الثقافية فإنه لم يُبدِ أي رغبة في التقاء أي من المثقفين الجزائريين، وخصوصا المؤرخين الذين كان يمكن أن يسمع منهم ما يصحح معلوماته التاريخية، وبوجه أكثر خصوصية من يرفعون لواء الانتماء العربي الإسلامي، وهم الكثرة الساحقة.
وأتصور أن المضيف لم يحاول أن يتدخل في تحديد عناصر الزيارة ومواقعها، وليس لي أن أحكم على صواب هذا أو عدمه، وإن كان هناك من أسرّ لي بأن الجزائر كانت أفهمت الجانب الفرنسي أنها تفضل ألا يصطحب ماكرون معه حاخام فرنسا، المعروف بتوجهاته الصهيونية، وهو ما لبّاه الجانب الفرنسي، كما قيل لي أنها “نصحت” عميد مسجد باريس بألا يكون من بين أعضاء الوفد، وهو ما تمّ فعلا.
ولقد قلت يوما أن السبب الحقيقي للشنآن الدائم بين الجزائر وفرنسا هو نظرة كل طرف لنوعية المصالحة المطلوبة بينهما، فبينما تريد الجزائر مصالحة على غرار فرنسا شارل دوغول مع ألمانيا كونراد أديناور، تريد توجهات فرنسية كثيرة مصالحة من نوع مصالحة ألمانيا أدولف هتلر مع فرنسا فيليب بيتان.
وإلى أن أعرف أكثر يمكنني أن أقول بأنني لم أكن سعيدا بما رأيته.
دكتور محيي الدين عميمور