يعيش كيان الاحتلال الصهيوني اليوم في حالة تخبط سياسي وأزمة خيارات لم يسبق أن عاشها في عقوده السبعة الماضية منذ أن تم زرعه في الاراضي العربية الفلسطينية بعد نهاية الانتداب البريطاني واعلان ما يسمى “اسرائيل” ورغم اللهاث الكبير والاستجداء المتكرر للتطبيع منذ عام ١٩٧٩م “كامب ديفيد” مرورا ب “وادي عربة” و “أوسلو” واتفاقات “ابراهام” وحتى اليوم لم يترك فكرة شاردة أو واردة إلا قدمها على الساحة الاعلامية وسعى نحوها بطرق مختلفة وبدعم قوى دولية، لكن تلك المشاريع لم تحقق شيئا على أرض الواقع رغم وجود المال والاعلام والسلاح والدعم السياسي لكنها سوف تنتهي على جرف هار سينهار به قريبا بعون الله، وكل هذا الفشل في مشاريعه التي أطلقها بمساندة دولية منذ مشروع الشرق الاوسط “الجديد” ثم “الكبير” بداية الالفية الثالثة مرورا بعدد من المفرقعات الاعلامية الأخرى كغزة الكبرى ومشروع الضم وغيرها من المشاريع كلها محاولات باءت بالفشل، وأخيرا مشروع الابراهيمية الذي خطط له في مراكز دراسات دولية منذ مدة طويلة ولكنه سيسقط ايضا على عتبة قوى الممانعة الفكرية والمقاومة الثقافية والصمود الشعبي الذي برهنته المواقف والاحداث، ولا شك أن الاهم في حالة الصراع العربي الصهيوني هو المقاومة المسلحة التي منعت الكيان المحتل من اعلان أي انتصار عسكري في جميع عملياته العدوانية السابقة منذ عام ٢٠٠٠م وحتى اليوم .
ما يسوق ويتداول اليوم من أحاديث حول مزاعم الناتو العربي أو الشرق أوسطي أو حلف بغداد جديد هو لا يتجاوز تلك المشاريع الفاشلة التي سبقته بل أن هذا العنوان لا يتجاوز “مانشيت” ظهر فجأة على وسائل الاعلام وتم تداول فكرة قريبة منه في الكونجرس الامريكي كمشروع نظام دفاعي موحد في مواجهة ايران إلا أنه غير قابل للتطبيق لأسباب كثيرة وهنا أراد كيان الاحتلال استثمار وتوظيفه الفكرة في مسار التطبيع الذي يسجل فشله ويتطلب ضخ جرعات جديدة من التنفس الاصطناعي لانعاشه، فجاء عنوان الناتو العربي أو الشرق اوسطي كعنوان لا محل له من الاعراب، بل أن مشاريع التحالفات العسكرية خلال العقود الماضية كلها ولدت ميته منذ حلف بغداد ١٩٥٥م وانتهاء” بموجة الاحلاف العسكرية في العقد الأخير والتي تكررت الدعوة إليها بأشكال متعددة، وهو ما يسري أيضا على ما يتداول اليوم من افكار جديدة لم تطرح أصلا على الساحة الرسمية، وهناك الكثير من الأسباب التي تتعارض مع ولادة مثل هذا المشروع سنأتي على ذكرها بالتفصيل .
هناك رسالة تم تداولها على وسائل التواصل الاجتماعي بعنوان “ميسا” وهذه الرسالة في حقيقتها مضحكة جدا أراد منشئها تمرير رسائل معينة من خلالها لكنه فشل حتى في صياغتها العربية بحيث طغت عليها اللكنة المهجنة في كلمات عديدة رصدت من خلال تفاصيل الفكرة وما طرح من تفاصيل سياسية وعسكرية انصب كله في صالح دولة الاحتلال هو شيء يثير الريبة والشك حولها، وما أشيع حول “ميسا” وهو الاسم المختصر لما سمي بالتحالف الجديد في الشرق الاوسط تجاوز حتى الصفة العسكرية فقدم مشروعا سياسيا واقتصاديا استعماريا جديدا شمل دول مجلس التعاون والاردن ومصر وأمريكا و”اسرائيل”، والهدف المذكور هنا هو حفظ الامن لكل أعضاء الحلف “ميسا” الذي لم يعرف تصريفه اللغوي على أي أساس مختصر، المهم أن “ميسا” ارتبط فيها المشروع أمنيا واقتصاديا وسياسيا واستخباريا بل شمل جميع المجالات الأخرى في قصة قصيرة يقف خلفها مركز دراسات أو منصة اعلامية استخبارية تهدف الى ايصال رسائل محددة الى الاوساط العربية، واستكمل كاتبها سيناريو الفكرة بما تحققه من فوائد للدول المشاركة فيه من استقرار اقتصادي وأمني في ظاهرها جنة وعد بها الاعضاء وفي حقيقتها محاولة إحياء فكرة غزة الكبرى بطريقة أخرى، كما ذكر المنشور أيضا أن هذا التحالف موجها لردع ايران وتفاصيل أخرى من مشاريع سياحية وتخطيط جغرافي للمنطقة بشكل يدعو للسخرية، وحاول الكاتب الربط بين “ميسا” ومشروع الضم بطريقة متقاربة بحيث تسيطر الاردن على الضفة الغربية ومنح الفلسطينين الجنسية الاردنية وتكون عليهم كفيلا بألا يعتدوا على اسرائيل، أما مصر فسوف تضم “سينا” حسب لغة الكاتب “المعربة” وكأن سيناء ليست جزءا من حدود مصر الجغرافية، ثم يواصل كاتب الفكرة حيث ستبنى وحدات سكنية لسكان غزة “لغير الراغبين” في العيش بدولة اسرائيل الجديدة ويتم تجنيسهم بالجنسية المصرية على أن تمنح امريكا و”دول التحالف” مصر مزيدا من المساعدات على شاكلة مؤتمر المانحين لمشروع الضم الذي تراجع عنه الداعين له ليتم اعلان فشله لاحقا، وهكذا هو حال كتاب سيناريوهات القصة القصيرة في “اسرائيل” يعيشون أزمة نهاية سريعة هي بلا شك المآل القريب الذي سيحدث للقصة القصيرة المسماة “اسرائيل” على المسرح الدولي .
قصة “ميسا” يبدو أنها ارسلت بشكل عاجل دون مراجعة دقيقة لتتوائم مع فكرة “الناتو” الجديد التي تم تداولها عبر وسائل الاعلام مؤخرا وليس لها أي تداول رسمي عربي بل أن بعض الدول نفت أي حديث عن هذا الناتو، وما ورد على لسان الملك عبدالله الثاني ملك المملكة الاردنية الهاشمية في مقابلته مع شبكة “سي أن بي سي” جاء في معرض رده على فكرة أهمية وجود كيان عسكري يجمع العرب في ظل وجود كيانات دولية أقليمية قوية مثل ايران وتركيا و”اسرائيل” ولا شك أن فكرة تشكيل كيان دفاعي عربي أقرب الى كونها أمنية عربية هي إحياء” لاتفاقية الدفاع العربي المشترك، وكان للاردن الشقيق ولجلالة الملك مواقف مشرفة في مواجهة بعض مشاريع الاحتلال وآخرها مشروع “الضم” وفكرة استقطاع أجزاء من الضفة وغور الاردن، كما يعتبر غياب جلالته عن قمة النقب إشارة واضحة ومدلولات عبرت عن الالتزام التاريخي للمملكة الأردنية الهاشمية بالقضية الفلسطينية وما أجمل الارتباط بهذه القضية وأن تكون الاردن الشقيقة ملتزمة بالاشراف على مدينة القدس الشريف .
الأمر الآخر في زوبعة قصة “الناتو العربي” أن الارتباط مع كيان الاحتلال الاسرائيلي لا يمكن أن يأخذ أي شكل من الاشكال في دول ليس لها أي علاقات مع كيان الاحتلال فضلا عن تسمية مشروع عسكري أمني سياسي اقتصادي بهذا الحجم؟! كما أن الشعوب العربية عن بكرة أبيها ترفض رفضا قاطعا أي ارتباط مع كيان الاحتلال، ولا شك أن القيادات العربية تدرك ذلك جيدا، لذلك توقفت عجلة التطبيع ولم تستطع تجاوز خط سيرها منذ آخر محطة لها رغم الضغوط التي مورست على بعض الدول العربية لكن الاحداث والمتغيرات الدولية تجاوزتها فكيف لهذا المشروع أن يضم كيان الاحتلال الاسرائيلي في حلف سياسي وعسكري وأمني مع بقية الدول العربية؟!!
لا شك أن مزاعم توجيه هذا التحالف في مواجهة ايران يمثل أيضا حالة من الفشل باعتبار أن دولا عربية لا يمكن أن تقلب فيها المفاهيم بين عشية وضحاها وتقبل بهذا الفكر الاستعماري بل أن هذه الدول اسهمت في تحييد مشاريع وتحالفات سابقة ونزعت الاجماع عنها، كما ينظر الى ايران على انها دولة مجاورة ينبغي أن يتم الحوار والتعاون معها بل انها وقفت بقوة في دعم قضايا الأمة وبالتالي لا يمكن قلب تلك المفاهيم، اضافة الى أن عددا من الدول العربية ليس لها أي مصلحة في معاداة ايران وبالتالي لن تحقق فكرة تحالف الناتو العسكري في المنطقة أي نجاح فضلا عن كونها ستخلق مزيدا من الاستقطاب الطائفي بالمنطقة والامة اليوم تحاول تجاوز هذا الاستقطاب بالحوار، والحوار الدائر في العاصمة العراقية بغداد بين ايران والمملكة العربية السعودية الذي وصل الى مرحلة متقدمة يمثل نموذجا للعلاقات المأمولة في المنطقة مستقبلا، ومن هنا فإن فكرة الناتو الشرق أوسطي هي محض خيال وفكرة استعمارية تحاول ايصال رسائل للعقل العربي من أجل ترسيخ ثقافة التطبيع ومحاولة اذكاء التوتر والصراع بين دول المنطقة وحرف بوصلة الامة عن أعداءها الحقيقيين وهي فكرة فاشلة لن تتجاوز دائرة الاعلام، وسيظل الكيان المحتل هو العدو الأول في ذاكرة الامة .
الزيارات المتبادلة خلال الايام القليلة الماضية بين القيادات العربية يعقد عليها الكثير من الآمال والتطلعات لايجاد رؤية موحدة ووضع النقاط على الحروف قبل زيارة الرئيس الامريكي للمنطقة وكلها تنصب في اطار التشاور والتنسيق العربي وتعزيز العلاقات العربية العربية ومواجهة التحديات التي تمر بالمنطقة في ظل ظروف ومتغيرات دولية تتطلب من هذه القيادات العربية التباحث والتشاور فيما بينها، وقد شهدت المنطقة خلال الايام الماضية لقاءآت جمعت قيادات عربية ثنائية يعول عليها، وقد علق جلالة الملك عبدالله الثاني على تلك اللقاءآت قائلا: “نعقد هذه اللقاءآت لبحث كيفية مساعدة بعضنا البعض، وهذا قد يكون توجها مختلفا عن المرات السابقة بالنسبة لدول المنطقة، وهو ما نحتاجه لخدمة شعوبنا” ولا شك أن شعوب المنطقة أيضا تعول على قياداتها في هذا الاتجاه لتحقيق السلام والاستقرار والازدهار، والالتزام المبدأي والاخلاقي بكل قضايا الأمة وفي مقدمتها قضيتنا الاولى المحورية القضية الفلسطينية التي عانى أبناءها طوال قرن من الانتداب والاحتلال والتهجير والمجازر المروعة وانتهاك الحقوق فصبروا وصابروا وحافظوا على بارقة الأمل بالمقاومة كخيار استراتيجي في سبيل تحقيق مشروعهم الكبير بالتحرير الكامل لفلسطين التاريخية من البحر الى النهر والذي تبدو ملامحه مبشرة بعون الله، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله .
خميس بن عبيد القطيطي كاتب عُماني