إن الكتابة عن الوطن في بلاد الغربة، كمن يفتح نافذة غرفته ـ في الطابق الخامس من الفندق المطل على البحر ـ لينظر فى الأفق الخارجي، فتأخذه جاذبية المناظر تحت الأضواء التي تنعكس على مرآة البحر، وأحالت زرقته نهارا، وعتمته في الليل الى لوحة أخاذة بضياء المدينة تارة، والنجوم في ليلة قمراء..
وهي مناظر من حاضرنا الذي يسافر بنا بعيدا عن ماضينا، غير أنه لابد من الرجوع الي الأخير، كمن يرجع بعد استمتاع بهذه المشاهد، ويشعل موقدا خافتا في غرفته في وقت متأخر بعد، أن طردت شهية الكتابة، النوم من عينيه، فبدأ وقتها، يقاوم هاجس الهوية، والإحساس بالضياع، فأخذ قهوة ممزوجة برائحة " الهيل" اليماني، ساعتها، كان القلم بين الأصابع يلاحق توارد الذكريات القديمة التي رافقت مرحلة الطفولة المبكرة، ولعله كان تواردا هادئا، تماما، كأمواج بحر " البلطيق" التي تجعل السفينة السياحية تتهادى ـ كمن كن يمشين الهوينا متبخترات في مسابقات خجولة للجمال في مجتمع بدوي، كانت العجائز ـ أيام طفولتي في " انواملين" ـ تقمنها خلسة في نهاية موسم" الكيطانة" السنوي، حيث تكون مجالس النساء مغلقة، ولا يحضرها المراهقون، فتختار العجائز اكثر من فتاتين جميلتين، لتسويق جمالهما، ثم تأمرن في اليوم التالي أخريين ـ كما لو أن التيارات الهوائية في حالة استرخاء، أو استراق للسمع، واستمتاع بالألحان، والموسيقى في صالة القمرة العليا من السفينة، وهي تمخر عباب البحر من " هلسينكي" الى " ستوكهولم"،،
إن " انواملين"، هو الوادي المعروف بباسقات النخيل الجميل الذي يطل عليه الجبل من خلفه، ولم يكن من المناطق المجهولة التي لا تاريخ لها، وكيف لا؟ وقد خلد المكان في التاريخ النضالي لمجتمعنا بإحدى المعارك للمقاومة الوطنية ضد الاستعمار الفرنسي في أواخر القرن التاسع عشر في معركة انتصر فيها الوطن على اعدائه من المحتلين الفرنسيين، فقتلت المقاومة جنود الحامية الفرنسية كلهم، على ما ذكر محمد الأمين ولد التلاميذ في كتابه " الوسيط في ذكر شعراء شنقيط"..
ولعل المكان من حينها استحق على اهله، أن يعمر، وتتصدر "محاظره " الشعراء، والكتاب، والعلماء الذين جابوا المراكز الحضارية في المغرب، ومصر، والحجاز..
وكان الى جانب بساتين النخيل التي تقع على اطرافها آبار ارتوازية ماؤها عذب، وقريب على طول متيرين، أو ثلاثة، لذلك لم يفارقه أهله إلا قليلا ، كحين ينتقلون الى المناطق المجاورة، فيرجعون اليه في فصل الصيف الحار، ومعظم الخريف، وبعضهم الآخر، يبقى في الوادي طيلة فصول السنة ..
وفي ايام طفولتي، كان الوادي عامرا بمجتمع شبه حضري، وان كان لم يشيد الدور، مع ان بعضه يستزرع الاودية، ومعظمه يمتلك الثروة الحيوانية في المناطق القريبة، كانوا يتنقلون الى المناطق المرتفعة تجنبا لبعوض الخريف، بينما في فصل الشتاء، يستقر الكثير منهم في المناطق العشبية، ك " بنعمان"، و" ميلمين"، و" اقليك اهل الشيخ احمد" و" اقليك اشفقات"، غير أن جميع الساكنة، تعود الى الوادي في بداية الصيف، لتقضي موسم التمور الذي كان مناسبة للتفاعل الاجتماعي، والثقافي، وكان معظم المناسبات الاجتماعية، كحفلات الزواج، تكون تحت النخيل، بينما التجمعات السكنية، تتوزع على جنبات التل المطل على الوادي، وهناك، كان للنشاط الثقافي، والديني وعاؤهما المعرفي "المحاظر"، ولها العديد من المشايخ لتعليم القرآن الكريم..
وأتذكر أني سافرت في طفولتي لمرتين الى " كيفة"، رفقة والدي رحمه الله تعالى، وكانت الاولى في نهاية الخريف، وذلك في احدى زيارات الوالد المتكررة لوالدته في " ميلمين"، وقد تركنا، الاهل بعد ان نزلوا على مرتفع ، يطل على السد الأسنتي المعروف ب" اقليك اهل الشيخ احمد"، ولكن الرحلة طالت حتى مدينة " كيفة"، وقبل مدخل المدينة الشرقي، كانت المياه تغمر مناطق واسعة، الأمر الذي جعلنا، ندخل المدينة من جهة " سقطار" وحين وصلنا حي " قميز" في الجنوب الشرقي، فنزلنا عند منزل " الصحة ولد سيدي جعفر"، وهو في حينها يسكن " امبارا " وبجانبه نصب خيمة، و في طرف غيربعيد منهما، مراحيض في الطرف غربي المساحة الارضية المحاطة بالأسلاك من الالمنيوم التي، لا تمنع المارة من المرور فوقها..
ولعل تلك الأسرة من الأسر الأولى من ساكنة ـ انواملين ـ التي اسقرت في كيفة، وذلك في أواخرسنينيات القرن، وقد تبعها معظم الساكنة، إثر الجفاف الذي قضى على الحيوان، فجفت الوديان، واستحالت الزراعة الموسمية، وتفككت وحدات المجتمع في " انواملين"، حيث حصل الانتقال من المنطقة، واستقر الكثير في مدينة " كرو"..
ولدى قدومنا الى "كيفه" في ذلك اليوم المشئوم على الأمة العربية من المحيط الى الخليج، اخبرتنا تلك السيدة،" بنت الشرفة"، وكانت باكية، مفجعة، وقد شاطرها الوالد البكاء، والفجيعة، بوفاة جمال عبد الناصر رحمة الله على الجميع، فالزيارة، كانت اذلك في 28 أو 29 ديسمبر 1970م.
وفي صباح اليوم الثاني ذهبت مع الوالد الى السوق، والتقينا ب" محمد امبارك" ـ رحمه الله تعالى ىـ وبعد الحديث معه، قال محمد امبارك، متى وصلتم، فقال الوالد بالامس مساء، انزل محمد امبارك رأسه، وقال للوالد بما أنك لا تعرف المكان، فأنا أسامحك هذه المرة، لكن أنا ابن هذه الاسرة، وأي احد منها، لم يأتني، فكأنما، يريد أن يقول لي إني لست من ابناء الأسرة، وذهب بنا الى منزله، وهو حينئذ عبارة عن " امبارين" واحد كبير، كان لأفراد اسرته، والثاني صغير، يظهر أنه لاستقبال ضيوفه..
وشاءت الاقدار أني بعد عودتنا الى اهلنا من تلك الرحلة، أصبت في آخر الشتاء بصداع مؤلم في الليل، وقد سافر بي الوالد رحمه الله تعالى الى " كيفة"، حيث كان الاطباء الصينيون مشرفين على مختلف أقسام المستشفى ، واستخدموا الإبرة الصينية لشفائي من الصداع، والتخلص من تلك الآلام المبرحة..
كان دور الصينيين بناء، فهم عمليون، وطواقمهم الطبية، لا تخرج من المستشفى ليلا، ولا نهارا، فما ان يخرج طاقم، حتى يتسلم آخر مكانه، وكانوا يستحقون كل الاحترام، والتقدير من طرف مجتمع المدينة، لكن الشائعات التي كانت، تتداول عن مظاهرهم، ومأكولاتهم من البيئة المحلية،، لم تعبر عن تقدير مجتمعنا لخدماتهم، كان الواجب عليه تجاههم، احترام الجوانب الشخصية، والذوقية في المظهر، والمأكل، وعدم تقييم خصوصية علاقاتهم الاجتماعية..
فهل لازال الحال ، كما كان، أو تغيرت الاتجاهات بتغيرالقيم في مجتمعنا الاستهلاكي الذي تضاءل الكثير من القيم فيه، كالانتماء للأسرة، عكس ما كان بالامس القريب، كما في علاقة " محمد امبارك" باسرته، بعد أن حل مكان الانتماء للأسرة الوعي" المتشيء" محصورا في الانتفاع من الوعي القبلي، والجهوي الموظفين سياسيا؟!