ليس من قبيل التجاوز القول بأن الثورة الجزائرية لم تنل حقها من الكتابات العربية، وخصوصا فيما يتعلق بدراسة تفاصيلها وخلفياتها وتداعياتها وآثار انتصارها على حركات التحرير في إفريقيا وآسيا بوجه خاص.
واللوم يوجه بالدرجة الأولى للقطاع الثقافي الجزائري ومن تولوا أمره، والذي عرف انهيارا واضحا ومتزايدا بعد وفاة الرئيس هواري بو مدين، حيث تحولت المكتبات التي كانت جزءا من الشوارع الرئيسية في الجزائر إلى محلات لبيع “البتيزا” والفاست فود، أو محلات لبيع الملابس من كل زي وكل لون.
وبينما عرفت السوق الفرنسية عشرات الكتب عن الثورة الجزائرية، ومن وجهة النظر الفرنسية بالطبع، لم تعرف الجزائر إنتاجا مماثلا من الدراسات والشهادات، وهو ما آمل أن أحاول يوما دراسة أسبابه وخلفياته.
ولا حديث عن الوطن العربي، فالقراءة لم تعد من أسبقيات المواطن الذي تلتهمه قنوات التلفزة وشاشات الهواتف الذكية، ولهذا أيضا وقفة أخرى.
وقد رأيت اليوم، ونحن على عتبات الاحتفال بالذكرى الستين لاستقلال الجزائر أن أتوقف لحظات عند واحد من الكتب القليلة التي أصدرها المجاهدون، وروت شهادات حية عن يوميات الثورة، لا لأروي بطولات المجاهد الجزائري ومعاناة الشعب الجزائري، ولكن لأثير دهشة القارئ العربي عندما يعرف دور الذئاب في الثورة الجزائرية.
والكتاب الذي توقفت عنده هو “شاهد على الثورة في الأوراس” للمجاهد محمد الصغير هلايلي، والذي أصبح بعد استرجاع الاستقلال نائبا في البرلمان.
ويتناول الكاتب تفاعل الطبيعة مع المجاهدين ( ص 158) فالحيوانات تأقلمت مع الثورة والثوار، والذئاب، التي عادة ما تنفر من الإنسان وتفر منه، كانت تلجأ إلى حيث تشم رائحة الثوار، هروبا من فظائع الجيوش الفرنسية التي كانت تتبع سياسة الأرض المحروقة، فنجدها تنحاز حيث يستقر الثوار في استراحة المحارب أو عند الإعداد للكمين، فنراها مستأنسة لهم مركزة نظراتها الحادة على الجهة التي توجد بها القوات الفرنسية، وكان ذلك تصرفا غريزيا أقرب إلى الخيال.
وهكذا أصبح الثوار يستعينون بتلك الضواري التي خصها الله بحاسة الشم لتقدير المسافات التي تفصلهم عن العدو، في حالة استحالة الرؤية نظرا لكثافة الأشجار، أو سوء الأحوال الجوية.
فإذا هدأت الذئاب وقلت حركاتها واستقرت في مكانها مطمئنة تحت جذع الشجرة كانت المسافة بعيدة بين ذلك الموقع ومكان العدو، أما إذا بدأت تغير مكانها وتقترب من المجاهدين وهي ترقبهم بنصف عين، فتلك إشارة بأن جيوش العدوّ تتقدم نحو مكمن المجاهدين، ويصبح على هؤلاء إما الاستعداد للمواجهة أو الانسحاب إلى مأمن آخر.
ويقول المؤلف: كم من مرة استرشدنا بالذئاب في حالة قرارنا الانسحاب، حيث كنا نتبع آثارها بحذر (..) فأي وجهة تسلكها الذئاب فهناك الأمان في غالب الأحيان (ص 159).
أما الكلاب مطلقة السراح في الأرياف فقد أصبحت تفرق بين رائحة الثوار ورائحة أفراد العدو، فهي لا تنبح وهي تتابع تسلل الثوار ليلا، بينما يشتد نباحها عندما تشم رائحة عساكر فرنسا (..) ومن هنا أصدر العدوّ أوامر للسكان بمنع تربية الكلاب، وقتل ما يملكونه منها.
أما الحمير، والتي كانت نعم المعين للمجاهدين في حمل أثقالهم ونقل جرحاهم ومرضاهم، فقد تأقلمت بذكاء فطري مع صوت محركات الطائرات الحربية (وبوجه خاص الطائرة الصفراء التي كانت تحلق على ارتفاعات منخفضة لمراقبة تحركات المجاهدين والإرشاد عن مكانهم لتتم قنبلتهم) فكلما سمعت صوت محركات طائرة تقترب من المكان انطلقت مسرعة للاختفاء تحت الأشجار الكثيفة، وتستمر مختفية ساكنة في مكانها مطأطئة الرأس، متابعة بآذانها الحساسة تحرك الطائرات، وعندما تتأكد من اختفاء الصوت تخرج من مكمنها وكأن شيئا لم يكن.
أما عن بطولات الرجال، فلهذا حديث آخر.
دكتور محيي الدين عميمور مفكر ووزير جزائري سابق