حَفَلَتْ الأيام السابقة بسياسة الاستباق حين صدرت، كُلٌ لشأنٍ و لكن بارتباطٍ لا يخفى، عن الأردن و سوريا و حزب الله وإيران و”إسرائيل” وتركيا تصريحاتٌ و أفعالٌ تخدم هذه السياسة. والاستباق هو تصريحٌ تحذيريٌ و عملٌ فِعليٌ لمنع أحدٍ ما من التمادي على مشروعٍ ما لمصلحةٍ ما. العالمُ رأى هذه السياسة في الشرق مع اليابان والكوريتين و تايوان و الصين و غرباً في كل ما يتعلق بروسيا و أوروبا. هي سياسةُ القول والفعل باستخدام البيان المكتوب و الطلقات المميتة، بحدود يفهمها كل طرف. لكن مقالتنا اليوم هي عن هذه المنطقة التي تتمازج فيها ألوانٌ من السياسات الاستباقية بتنافرٍ لا يؤدي لتراجعات بقدر ما يقود للمواجهات الكبرى.
الأردن منزعجٌ و متوترٌ. حدوده مع سوريا تشهدُ تطويراً متسلسلاً لتقنيات تهريب المخدرات للأردن و هو ما كشفه تصريحاتٌ ملكية و عسكرية و دبلوماسية و استدعى تحركاً عسكرياً حدودياً غير مسبوقٍ ضد المهربين المحترفين. المهربون يستخدمون الآليات و المعلومات و التقنية و السلاح و يتعاملون مع كمياتٍ هائلةٍ من المواد المخدرة و يتحركون بنسقٍ مخطط لاختراق الحدود وتسريب بضاعتهم. الجهود الأردنية الحدودية تبدو وحيدةً و بعيدةً عن التنسيق مع سوريا و هو التنسيق المتوقع و الذي يجب أن يكون بين بلدين يشتركان في مصيبة تهريب المخدرات. لكن الأردن يرى في الجانب السوري قلة مقدرةٍ أو تواطئاً و سكوتاً عن عمليةٍ مستمرةٍ أطرافها حسبما تُدْلي به الشبهاتُ و المقالات في الصحافة الاردنية هم في الدولة السورية، و زادَ البعضُ فقال أنه من عمل حزب الله و إيران و الهدف ليس فقط تهريب المخدرات و لكن خلق تحدٍّ حدودي و واقعٍ يستندُ على انحسار الانتباه و التواجد الروسي الذي كان يضمن المسافة الآمنة بينهم و بين الأردن. الخطر خطرين في نظر الأردن. سموم المخدرات و اشتعال الحدود. التصريحات الاردنية لم ترق لإيران التي ردت عليها عبر سفارتها في الأردن بأنها غير مقبولة وأنها، أي إيران، حمت وتحمي الأردن من المخدرات. مبالغٌ فيه هذا القول خاصةً و أنه أتى من دبلوماسي و ليس من دمشق و طهران و الأَوْلىٰ كان انفتاحاً منهما على مخاوف الأردن؛ و لربما فعلا دون إعلانٍ وإعلام. نحن لا نعلم. و لعل في نظرِ المراقبين أن في سماح الأردن بنقل معوناتٍ إنسانية لمخيم الركبان مباشرةً عبر منفذٍ حدودي، و هو ما لم تسمح به لسنوات بعد حوادث الاعتداء الداعشي على حرس الحدود و استشهاد بعضهم، رداً ضمنياً و فعلياً على تجاهل القلق الأردني أو التنسيق لوقف التهريب. بالتأكيد فإن المدد الإغاثي الإنساني واجبٌ لكن توقيت إرسالهِ ملاحظ. فالتنف و الركبان تحت سيطرة المعارضة المسلحة والمدربة المدعومة من التحالف و المخيم الذي تقلص عدد سكانه كثيراً هو خارج سيطرة الدولة السورية و منفتحةً فيه قوات المعارضة لتطويرٍ وظيفيٍ لمعادلةِ الاختراقاتِ الحدودية و التواجد المحالف لإيران. بكل تأكيد، و ما لم تتفق عمَّان و دمشق على خطواتٍ ملموسة و مضمونة تعيد الاطمئنان، فإن الحدود ستتحول بالتدريج لخط مواجهة ليست المخدرات هدفها الوحيد. من جانب الأردن فإن التصريحات و الركبان هي سياسةٌ استباقيةٌ ينبغي أن تُفهمَ. و يبدو بالمثل هذا السيلُ المنهمر من المهربين المنظمين المسلحين و التقنيين. لكن رسالتهم، هؤلاء المهربون، هي جُرميةً بقدرِ ما هي سياسية، و لو لم يكونوا يقصدونها و هو ما يجبُ التوضيح بشأنهِ بين البلدين فإن صحَّ أنهُ محض جريمة فيجب ضبطه من سوريا بالتعاون مع الأردن. أما إن كان المهربين أدواتٍ لسياسةٍ ما فإننا سنتجه لتصعيدٍ غير محمودٍ بين البلدين ينبغي فرملته. هكذا يقول المنطق و العقل.
و لم يكشف الإرهابي “بينيت” سِرَّاً عندما قال الأسبوع الماضي أن “إسرائيل” باتت تسدد في الصميم الإيراني و ليس على الأذرع فقط. التسديد “الإسرائيلي” ضد إيران يحدث بالتواتر، و مِنهُ ما لا تعترفُ به “إسرائيل” لكنه من نوع “يكادُ المريبُ أن يقولَ خذوني”، و في الصميم الإيراني حتماً. و إلاّٰ فماذا يكون اغتيال العلماء و العسكريين و الحرائق والتفجيرات في المعامل و المراكز و التخريب الممنهج لقدرات إيران. هي بالتأكيد سياسةَ الاستباق للقدرَ الذي تؤمن به “إسرائيل” و تنفيه إيران، و هو وصول إيران للقنبلة النووية. و من جانبها لا توفرُ إيران من سياسة الاستباق شيئاً، فمن عرضٍ للمُسَّيَرات بعيدة المدى و لتصريحات قادتها، السياسة واضحةٌ. سنبيد على الأقل مدينتين لكم! و أتوقفُ هنا لأنتقدَ مثل هذه التهديدات التي تتسمُ بالرعونة. إن كلمة إبادة بحد ذاتها مرفوضةٌ إنسانياً. و لو كانت من قبيل التخويف و المبالغة فلا يجب لسياسيٍّ و عسكريٍّ استخدامها. إلا أن إيران كما نرى تتبعُ عموماً سياسةً استباقيةً غير مباشرة و باستعمال حلفاءَ خاصةً في شمال العراق، و بتأسيس الوجود المتنوع في سوريا، التي تفتقرُ لحلفاء عرب، و بتأييد المقاومة الفلسطينية الذي تؤكده قياداتها، كذلك لفقدان الدعم العسكري العربي لها. و بالطبع في تصعيد القدرات النووية. ومهما قيل فإن الاستباق بينها و “إسرائيل” ليس استباقاً بل معارك واقعة فالتراجع ممنوع و المواجهة حاصلة و لا ينقصها إلا الاشتباك المباشر.
و على المفرق اللبناني، أعلن حزب الله سياسة الاستباق فيما يخص حقل “كاريش”. تحذيره واضحٌ أن استغلال الحقل “إسرائيلياً” و يونانياً لن يكون. الرد “الإسرائيلي” كان فورياً بأنَّ المياه مياهنا و لن يمنعنا منها أحد. “إسرائيل” لا تنتظر كثيراً فتضرب مطار دمشق بعد سويعات و تُخرجهُ عن العمل في قصفٍ لم يحدث لمطارٍ عربي منذ ٢٠٠٦ بلبنان. الإستباقية المدوية هذه هي لسوريا و للحزب و لإيران و هي ممزوجةٌ بلا خوف بالفعل الذي لا يجد رداً للآن. هنا لا يمكن التنبؤ بما سيحدث. هل سيشتعل البحر إن استمرت “إسرائيل” و نفذ حزب الله وعيده و هل ستكون النيران محدودةً أم أنها ستنتشر؟ لا نعلم حقاً فقد سبق و استبق الحزب بإعلان ردعٍ متوقع على الطيران “الإسرائيلي” و غيره من تجاوزات و احتفظ بحق الرد الآتي كما قال. فهل سيكون “كاريش” مكان الرد الآتي؟
ثم تركيا تستبقُ و تعلن منطقتها العازلة في الشمال السوري. المنطقة للعلم قائمةٌ فعلياً. فعلام الاستباق؟ سوريا قالت سنقاوم. روسيا في الأثناء تناور عسكرياً مع سوريا و بالطيران. و في الشمال الشرقي السوري الأكراد يناورون مع الأمريكان لحمايتهم، و مع دمشق يناورون و يريدون ظل العلم السوري دون معنىً سيادياً مستبقين تحركا تركياً يغير السيطرة على الأرض. هم يعلمون أن أمريكا لن توقف المدافع التركية. و يعلمون أن سوريا الرسمية هي الحل الذي لا يريدون حقيقةً و إن رضخوا له فليس دون مقابل يحققونه. و المقابل السوري لا يأتي لأنه من نوع التفريط الذي لن تقبله دمشق. وحدهما إذاً الأتراك و الأمريكان فائزان كيفما اتجهت الأمور. الأكراد ملتصقين بالأمريكان إلتصاق الطفل بثوب أمه خوفاً من صفعة الترك و السوريين و سيفعلون المستحيل لإبقاء الأمريكان هناك في قواعد حامية للقلب الكردي و متسلطة بفائدةٍ للأكراد على الثروة السورية. و الأتراك يسحقون في الأكراد فكرة الصحوة بالتهديد و بالضربات و يسيطرون على الشمال الغربي مع مقاومة دمشق الفعلية أو تلك الموعودة. و الروس ليسوا بمعرض الدخول مع تركيا بمعركةِ إثبات وجود هناك بينما تتمحور تركيا وسيطاً لمشكلة أوكرانيا كما مُعيقاً لتمدد الأطلسي في السويد و فنلندا. و سوريا دون دعمٍ روسي غير قادرةٍ على مواجهة الأمريكان و تركيا و حلفائهما متنوعي الرايات.
تفقدُ الإستباقية عندنا معناها السياسي فهي لا توقِفُ مُهَّرباً و لا طائرةً و لا مدفعاً و لا تدفعُ لحوارٍ سياسيٍّ لأن الأطراف لا تتقبلهُ. هي “مُقَّبِلاتُ” ما قبل الانجراف للتغييرات الكبيرة.
علي الزعتري كاتب ودبلوماسي اردني