الارتباط بين فرنسا وتشاد ارتباط قديم ووثيق، وظل كذلك في إبان حقبة الاحتلال الفرنسي لها، وبعد استقلالها الذي حدث في عام 1960. عزز موقع تشاد بين السودان وليبيا والنيجر وجمهورية أفريقيا الوسطى ونيجيريا والكاميرون أهميتها في ميزان المصالح الغربية بصفة عامة، ومصالح فرنسا بصفة خاصة، وجعلها هذا الموقعُ مِنَصّةً لادارة المصالح الفرنسية ثم الغربية، في فضاء يمتد بين الساحل والصحراء، ويشرف على فضاء غربي أفريقيا ووسطها.
بعد الاستقلال، ترسخ الارتباط بين تشاد وفرنسا عبر اتفاقات اقتصادية وعسكرية وأمنية، وضعت بموجبها الأنظمة السياسية، التي حكمت تشاد بعد الاستقلال، إمكانات بلادها وقدراتها في خدمة المصالح الفرنسية، ووظّفت مؤسسات الدولة لتحقيق تلك المصالح في مقابل تعزيز قبضة هذه الأنظمة على تشاد وتقوية سلطانها فيها، وتوفير الحماية لها لضمان استمرارها في السلطة، وضمان استمرار إخلاصها للمحتل السابق، والمساهمة في تنفيذ أجندته في تشاد ومحيطها الإقليمي، من خلال معادلة السلطة في مقابل المصالح الفرنسية، وفق النحو السائد في عدد من دول العالم الثالث.
في هذا السياق، منحت تشاد فرنسا الحق في إقامة قواعد عسكرية في أراضيها بدأت بـــ 3 قواعد، وارتفع عددها إلى ثمانٍ في نهاية حقبة حكم الرئيس السابق إدريس دبي، وخلال فترة حكم ابنه الذي آلت إليه السلطة بقرار فرنسي بعد مقتل أبيه.
ألف ضابط وجندي فرنسي وعشرات الطائرات، هم قوام القوة العسكرية الفرنسية في الأراضي التشادية. وتتمتع هذه القوة بحق مطلق في الحركة في الفضاء التشادي والفضاء الحيوي الذي يجاورها. وكما تسيطر فرنسا على المقدِّرات الاقتصادية التشادية، فإنها تسيطر أيضاً على مقدِّراتها العسكرية والأمنية، وتوظّفها لمصلحة مشروعها في هذا الإقليم. لذلك، اكتفت بهذا الحجم من القوة العسكرية التي تقود فعلياً القوة العسكرية لتشاد وقوات بعض الدول الكائنة جوارها.
في عام 2013، أصبحت تشاد مقراً لقوات "المهمّات المشتركة المتعددة الجنسيات"، والتي ضمّت وحدات عسكرية من كل من بنين والكاميرون وتشاد والنيجر ونيجيريا، بعد تنامي حركة "بوكو حرام". وأدارت فرنسا، من قواعدها في تشاد، عملية "سيرفال" التي انطلقت لمحاربة الحركات المسلحة في مالي، وتدير أيضاً عملية "برخان" الهادفة إلى مواجهة الحركات ذاتها في المنطقة، واتخذت من أنجامينا مقراً ومنطلقاً لهذه العملية. وبهذا برزت تشاد قوةً عسكرية إقليمية جديدة تحظى برضا ورعاية من فرنسا وأميركا. ومكّن هذا الرضا الرئيس إدريس دبي من الانفراد بالسلطة، وجاء هذا الرضا بابنه محمد كاكا رئيساً بديلاً عن أبيه، في تجاوز واضح للدستور التشادي الذي ينقل السلطة بصورة تلقائية إلى رئيس البرلمان، الذي عليه أن يرد السلطة إلى الشعب ليختار رئيساً بديلاً عبر انتخابات حرة خلال شهرين.
لم تنحصر المصالح المشتركة، التي تأسست عليها العلاقات الفرنسية التشادية في حقبة حكم الرئيس إدريس دبي، الذي ورد ذكره، وإنما امتدت أبعد من ذلك حين تلاقت مصلحة مشتركة عظمى بين الطرفين، وتتمثّل هذه المصلحة بالإبقاء على سطوة الثقافة الفرنسية وسطوة المجموعة الفرانكفونية - التي تمثل بعض النخبة التشادية - على الفضاء العام في تشاد. وفي ذلك حافظت اللغة الفرنسية على مكانتها في مؤسسات الدولة ومؤسسات التعليم، لغةً رسمية على الرغم من أن اللغة العربية هي لغة رسمية أيضاً، وفقاً للدستور، وهي لغة التخاطب الأولى بين جمهور الشعب التشادي.
نشبت أزمة وطنية كبيرة بسبب حرص فرنسا والمجموعة الفرانكفونية على إبعاد اللغة العربية وتهميشها. وحمّل قطاع من الشعب التشادي، المنتمي إلى الثقافة العربية، فرنسا المسؤوليةَ عن حرمانه من ممارسة حقوقه الوطنية بالتساوي مع ذوي الثقافة الفرنسية، وحرمانه من الدخول في المؤسسة الوطنية للإدارة، ومنع فتح كلية للطب باللغة العربية في جامعة الملك فيصل، ومنعه من تولي المناصب الكبيرة والمؤثّرة في الدولة، الأمر الذي يعني تهميشاً ثقافياً ممنهجاً لإقصاء الثقافة العربية الراسخة الوجود، والتي تعبّر عن وجدان أغلبية السكان.
أسّس بعض القوى السياسية التشادية المعارضة تحالفاً حمل اسم "وقت تمَّ" (اكتمل الوقت؛ انتهى الوقت)، وأطلق حملة واسعة لمعارضة الوجود والنفوذ الفرنسيَّن في بلده. وحمّل هذا التحالف فرنسا المسؤولية عن تخلف بلده، وعن تنصيب أنظمة حكم عسكرية وقفت في الموقع المعارض لفكرة التداول السلمي الديموقراطي للحكم، كما حمّلها مسؤولية نهب ثروات البلاد، وفرض هوية غربية لا تمتّ بصلة إلى الجذور الثقافية والتاريخية للشعب الشادي.
لقد حدد تحالف "وقت تمَّ " قضاياه وحسمها في عناوين الحرية والاستقلال والسيادة الوطنية، والهوية، والتداول السلمي للسلطة عبر الانتخاب. ويستمد هذا التحالف عزمه من رغبة شعبية راغبة في الانتقال الديموقراطي، وفي الارتقاء إلى مصافي الاستقلال والسيادة اللذين يمكّنانها من تحقيق تطلعاتها في حياة سياسية معافاة، وديموقراطية مستدامة ونهضة شاملة. وتُلهم هذا التحالفَ الإنجازاتُ التي تحققت في مالي وبوركينا فاسو وأفريقيا الوسطى، والتي تمثّلت في دحر النفوذ الفرنسي عنها وإضعافه، ويدفع هذا التحالف الزحف الروسي الصيني المتنامي في هذا الإقليم.
محمد حسب الرسول باحث في الشؤون الإقليمية