قصة أحلام متسول الحلقة 28 / ذ. إسلمو ولد ماناّ

سبت, 2022-05-28 21:46

الفصل الثاني : انواع التسول 

منذ سنة ونصف تقريبا أصبح ما كان مجرد فكرة خيالية تتردد نفسي -الحائرة - حيالها أمرا واقعا وحقيقة ماثلة للعيان . إني قد صرت متسولا أكاد أصبح متمرسا رغم قصر المدة التي مارست التسول فيها، ولكني لم أصل بعد إلى مستوى الإحتراف. فقلت له فهل يوجد فرق يذكر بين التمرس والإحتراف في التسول ؟ فقال نعم الفرق كبير وشاسع . إن المتسول المترس هو ذلك الذي أصبح يعرف المناطق والأماكن والأيام والمواسم التي تنشط فيها عزائم وهمم الناس استعدادا للبذل والعطاء بصفة عامة, وللمتسولين بصفة خاصة ، وذلك مثلا في ايام الجمعة والأعياد وأفراح الزواج و كذا تجمعات الحملات الأنتخابية وأماكن النقل والمطاعم وكذا المآتم وغير ذلك من أماكن التجمع البشري . 
أما المتسول المحترف فإنه بالإضافة إلى معرفة ما ذكرنا من خصائص لدى المتمرس , فإن المحترف يضيف إلى كل ماذكر ، الهيئة التي يجب أن يظهر بها مثلا في مدينة معينة عاقلا رجله اليسرى مرة أو اليمنى أو يسير مثلا على عكازين ، في حين قد تجده في مدينة أخرى أو منطقة من الوطن شبه مشلول الذراع الأيمن أو الأيسر أو مكفوف البصر ! ربما يقوده متسول مساعد يريد اكتساب مهنة التول من ورائه , وهو في واقع الأمر ، فلا يعاني من أي إعاقة جسدية أو عقلية ! 
كما أن فيه نوع آخر من الإحتراف و هو الذي يتسول باسم  شيخ معين ذاع صيته مثلا في الصلاح و الكرامة والبركة , وبالتالي يأخذ المتسول إسمه ويطلب بواسطته وإن كانت قد رصدت لذلك الشيخ صدقة "ونذر ما" وبالتالي تحصل الفائدة المادية لذلك المتسول بما أخذ من صدقات أو نذر. كما أن الشيخ المطلوب بإسمه هو الآخر يستفيد من الحصول على إشهار مجاني يذكر الناس به و بفضله من أجل اللجوء إليه كلما كان هناك مريض ما قد استعصى علاجه أومن ربما لديه نقص ما في الخصوبة لمن يريد الأولاد . 
وأيضا فيه طور ثالث من الإحتراف وهو الأهم وهو كون المتسول يذهب حاملا مخلة كبيرة قد كتب على جنباتها إسم مسجد ما زال في طور البناء ، او ربما غير موجود إلا على جنبات مخلة التسول تلك . ويظل يوم الجمعة وكذا أيام الأعياد سائرا بين الصفوف في أحد المساجد الكبيرة مستغلا تأثير الوعظ الذي عادة مايسبق الخطبة الرسمية, و يبقى يجمع ما يقدم له من نقود وغيرها ! ثم من حين لآخر يحرك مخلة التسول لليحدث صوت النقود المعدنية داخلها جرسا مسيقيا يساهم في لفت انتباه المصلين إليه وذلك أيضا من أجل إعطائه مزيدا من المال با سم  ذلك المسجد المتسول باسمه ! 
وفي واقع الأمر فإن فما يحصل عليه ذلك المتسول بهذا الأحتيال الماكر ، فما هو في الحقيقة إلا مال قد استولى عليه بتلك الحيلة الإحترافية غير الشرعية ! وهناك طور  رابع وجديد من التسول قد طرأ على بلادنا لم يكن معروفا لدينا من قبل ، وهو في واقع الأمر نوع من الهجرة السرية غير الشرعية   مغلف بحرفة التسول ، حيث تقوم جماعة مجهولة الهوية بالنسبة لي بتهريب أطفال قصر من الدول المجاورة وهم  في حدود العاشرة من العمر ، وذلك تحت يافطة كونهم تلامذة يتعلمون القرآن العظيم والفقه وكذا اللغة العربية - تلك اللغة التي تحاربها تلك الجماعة أصلا وبلا هوادة ! 
ثم يتركون أولئك الأطفال في الشو ارع بلا مأوى يتسولون ويستجدون الناس دائما باعتبارهم تلامذة  يقرؤون القآن العظيم ! وأكثريتهم فهي في واقع الأمرلا تشغل وقتها بتعلم أي شيئ ذو فائدة تذكر، وأظن أن الأمر كله يعود إلى حاجة في نفس يعقوب !

كما كان يجب على الأمن الوطني أن يكون على دراية كاملة بأبعاد حاجة يعقوب تلك ! ثم لليعمل بمقتضى ذلك وأن لا يكون مثل ذلك الضابط السابق الذي لمااخبرته يوما بقصة سيارة الأطفال الليلية تلك في المقاطعة السادسة،حيث لم يحرك حيالها ساكنا على الإطلاق بل قال لي بكل عنجهية بأن الأمرلا يعنيني في شيئ ! ولقد خرجت من مكتبه وأنا  مكسور الخاطر باعتباره لي متطفلا في أمر لا يعنيني بالمرة ! 
وهناك نمط خامس أيضا من التسول مغشى بثوب الهدية الشريف ،حيث قد يأتي أحد الشرفاء الكرام لبعض الأفراد ويقول لهم  بأنه يريد هديته ، وأحيانا يحدد نوعها ومبلغها بما في ذلك من حرج في أحيان كثيرة لأولئك الناس الذين ربما يعطيه الواحد منهم - تحت ضغط الإكراه المعنوي - فوق امكانياته ، فهذا النوع حسب رأي بعض الفقهاء غير مباح على الإطلاق لكونه فإما أن يكون نوعا من التسول وذلك حرام على آل النبي صلى الله عليه وسلم بمقتضى كثير من الأحاديث الشريفة ، لمافيه من  المذلة ودوافع الشفقة اللتين لا تليقان بآل الرسول المكرم صلوات الله وسلامه عليه ، وإن أخذ طابع الأبهة والتعالي فيوحي ذلك أيضا بأن الأمر صار يتعلق بالأتاوة أو الغرامة أو ( مسنون ) اللسان وكل ذلك حرام التكسب به وأخذه من المسلمين. علما أن طلب الهدية إذاكان البعض يظنه حق مورث لهم  عن الرسول ( ص )فذلك غير صحيح لإن الرسول (ص ) لا يورث بمقتضى الحديث الشريف الذي من جملة من رواه أبوبكر الصديق وكثير من الصحابة عليهم  رضوان الله  وهو :( نحن معشر الأنبياء لا نرث ولا نورث ) وقد شهد بصحة  ذلك الحديث كلا من علي ابن أبي طالب كرم الله وجهه وعثمان ابن عفان وعبد الرحمان ابن عوف وحتى ، غيرهم كثير من الصحابة عليهم رضوان الله أجمعين . وبمقتضى ذلك الحديث أيضا لم يورث العباس ابن عبد المطلب ولا فاطمة الزهراء ابنة رسول الله (ص شيئا مما ترك رسول الله ( ص ) . أما الهدية أوالمودة فمباحتان لآل رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وهما اللتان تمنحان بدون سوال سابق موجه لمانح أي منهما . ولذلك فعلى جميع المسلمين التطوع بالهدية والمودة لآل البيت لكو نهم محرم عليهم  التسول و طلب الزكاة أوأخذها ، وذلك وفاء منا لرسولنا الكريم بحيث علينا ألا نترك أبناء بضعته في ظروف تلجئهم إلى ما يخالف مقتضى الشرع الحنيف ، ولو افترضنا جدلا كما قال إطول عمرو  أن طلب الهدية حق مباح موروث عن رسول الله (ص) فقد كان يقتضي ذلك أيضاعلى الذين قد يأخذونها باسم آل البيت وضع ما قد أخذوا في صندوق خاص بآل البيت بحيث يقسم علىيهم بالتساوي فرضا وتعصيبا على قاعدة للذكر مثل حظ الأنثيين في القطر الواحد على  الأقل ، بعد حصرهم عددا ، وأ ن لا يستولي على الهدية العاملين عليها ودون بقية أحفاده صلى الله عليه وسلم . 
فهذه أيضا مجرد عينات من مهنة التول وكذا الأحتراف فيها ومهما اختلفت أسماؤها فهي في النهاية تسول والله أعلم بما هو حقا . وأنا لا أنوي الأحتراف في ممارسته إن شاء الله ، لأن معظمه يعد نوعا من التحايل غير الشرعي على الناس  من أجل أخد أموالهم بغير حق شرعي ودون طيبة نفس منهم !  
وكلما في الأمر فإني سأبقى أمارس مهنة التول البريئ منتظرا من وراء ذلك الحصول على مبلغ ولو زهيد لكي أبدأ به عملا جديدا محترما مثل محاولتي تلك الأخيرة في السينغال. ولست أنا من أولئك الذين يتسولون من اجل تسديد أجور رعاتهم أوحراس أعمالهم في مجالات أخرى . فقلت له فكيف كانت بداية التسول بالنسبة لك ؟ وأنت لا تخلو من أحساس مرهف؟ فقال : لقد كانت البداية لدي صعبة للغاية ومحرجة أحيانا كثيرة ، حيث كنت أصاب في بعض الأحيان بخجل مدمر عندما أصادف من يعرفونني أوأعرفهم. بل أحيانا أندم على ممارسة التسول وأحاول عدة أيام التوقف عنه ، إلا أنه ربما وتحت إلحاح الحاجة المتجدد أعود إليه (مكره أخاك لا بطل ) كما أني كنت في بداياتي الأولى قد أخفي مخلة التسول تحت ملابسي ليلا يراني من أعرفهم حاملها, وقد كان إخفاؤها أحيانا أفضل لأن المتصدق في هذه الحالة يقدم صدقته نقدا, ولكنها في الغالب الأعم  تكون زهيدة ورغم ذلك فالأمر أحسن بكثيرمن مجرد فضلات أطعمة غير صالحة للأستعمال أو ألبسة بالية لا تفيد إلا لصنع بردع حمار أوبرذون .
ولما أظهر مخلة التسول فمعنى ذلك أن المكان خال من أي إحراج ثم أن لازمة الصدقة أيضا قد كانت ترهق لساني وتجفف حلقي وأتمني لوقد فهم الناس من تلقاء أنفسهم بأني متسول وعملوا بمقتضى ذلك ولا أحتاج إلى المناداة  بالسؤال . و ذلك لكون صوتي لم يخلق أصلا لنداء التسول الكريه ولكن تلك الظروف القاسية التي مررت بها في شتاء عمري هي التي أرغمتي على ذلك الإنشاد الذي أجمل منه بكثير حداء رعاة الإبل . 
وعلى العموم فإني مع طول الوقت فقد تغلبت على تلك الصعوبات بفضل الأمل الذي كان يصاحبني كل يوم والذي بمقتضاه احتمال أن يكون سكان أنواكشوط سوف ينعمون علي بمبالغ نقدية يمكن أن تكون في البداية قليلة ولكن مع طول الوقت وتزايد السكان المتدينين ورقة مشاعرهم في يوم الجمعة وكذا الأعياد بسبب خطب الوعاظ فإن كل ذلك ربما سوف يمكنني من جمع مبالغ مالية لا بأس بها . 
تمكنني من  تأسيس متجر صغير مثل الذي كان لدي في السنغال قبل ترحيلي منه ، لكي أستغني بعائدات ربحه المنتظرة عن هذا العمل المشين الذي تاباه نفسي رغم ممارستي له مؤقتا وذلك (ما دام ليس في الإمكان أبدع مما كان ) كما يقال . وقد ختم أمانيه الوردية تلك بأنه عندما قديصبح صاحب دكان ومال فسوف ينسى الناس مرحلة التسول تلك وإن تذكروها فسيكون ذلك لمجرد الموعظة الحسنة ، بالنسبة الصالحين منهم ، وكذا كونه  شخصا عصاميا قد تغلب على مشاكله بنفسه ، أو الحسد بالنسبة لغيرهم  من الذين عفا الله عني وعنهم إن شاء الله.

(يتبع)