تعمدت التوقف مرحليا عن الكتابة بسبب إحساسي أنه لم يعُدْ لديّ ما أقوله، لمجرد أنني لا أملك كل المعطيات التي تمكنني من أن أقول شيئا مفيدا، ولست أريد لقلمي أن يبدو مثل عود القصبجي، الذي ارتضى أن يكون مجرد آلة في فرقة السيدة أم كلثوم ، بعد أن جفّ معين الألحان.
لكنني لم أستطع تجاهل ما تصورت أن له أهدافا لا يمكن التقليل من خطورتها، وهي تعليقات قرأتها في بعض مواقع التواصل الاجتماعي خلال الاحتفالات بما اصطلح على اعتباره يوم الطالب الجزائري (مايو 1956) ومضمونها قول البعض بأن أسماء بعض الجامعات الجزائرية مُنحت لأميين بدلا من أن تكون وقفا على كبار العلماء.
وعندما أتذكر بعض أسماء من رأى المعلقون أنهم من الأميين، بدءا بالحاج لخضر في باتنة ومرورا بقاصدي مرباح في ورقلة وموحاند أولحاج في البويرة وسعد دحلب في بسكرة ومحمد بو ضياف في المسيلة وانتهاء بهواري بو مدين في العاصمة، أحسست بأنني لا أستطيع السكوت.
وبداية، أجد لزاما عليّ التذكير بأن الجزائر لم تعرف خلال المرحلة الاستعمارية إلا جامعة واحدة كان مقرها في الجزائر العاصمة، وكانت أغلبية الطلبة المؤثرة فيها من الأوربيين، وكانت شواطئ العاصمة الجميلة محرمة على الكلاب والعرب.
يومها كانت الجامعة تضم بضع مئات من الجزائريين، لم يكونوا جميعا من أبناء الأسر البسيطة أو محدودة الدخل أو المتناقضة مع الاستعمار، في حين أن جزائر اليوم، وبفضل الثورة وسياسات ما بعد استرجاع الاستقلال، تضم نحو مائة جامعة ومركز جامعي ومعهد عالٍ، موزعة عبر التراب الوطني، تضم مئات الآلاف من أبناء الجزائر من مختلف الطبقات الاجتماعية، وخصوصا من أبناء الفقراء ومحدودي الدخل.
وتم هذا الإنجاز التاريخي وغيره بفضل نضال وجهاد الملايين، وفي مقدمتهم أولئك الأميين، الذي يستكثر البعض عليهم تخليد تضحياتهم بتسمية بعض المراكز الجامعية بأسمائهم.
والواقع هو أن من يعتبرهم البعض من الأميين كانوا قمة في الثقافة السياسية، وكانوا تجسيدا للوعي الاستراتيجي الذي يتميز به القادة عبر الزمان، برغم أنهم لم يعرفوا السوربون أو أوكسفورد أو هارفارد، لكن عبقريتهم جعلتهم في مستوًى يرتفع بكثير عن مستوى بعض من حملوا أرقى الشهادات العالمية، لأن جامعتهم كانت ميدان النضال العملي والعصامية العنيدة.
هذا ليس كلاما عاطفيا، بل هو واقع سأثبته بالدليل والبينة، علما بأنني أنا جامعي وليست لدي عقدة من أي نوع.
كان المطلوب لمواجهة العدو الاستعماري وضع استراتيجية للعمل الثوري، مضمونها أن الصراع مع أقوى قوة عسكرية وسياسية في البحر الأبيض يتطلب شن معركة على ثلاث جبهات: جبهة القتال العسكري المباشر بالأسلوب المناسب الذي يتطور طبقا للاحتياجات وللإمكانيات، وجبهة المواجهة الديبلوماسية وجبهة المواجهة الإعلامية، وشملت تلك الإستراتيجية النقاط التالية التي سهر على إعدادها من يعتبرهم البعض اليوم من الأميين.
أولا – تعبئة الجماهير للالتفاف حول الثورة وزرع الإيمان بحتمية النصر وتحقيق وحدة الصف والهدف.
ثانيا: القضاء على الفكرة التي روجت لها فرنسا منذ 1830، من أن الجزائر جزء من فرنسا، وإبراز لا إنسانية الاستعمار الاستيطاني الفرنسي.
ثالثا: الرد على دعايات العدو وفضح أكاذيبه والتصدي لمناوراته، وإقناع الرأي العام العالمي بأن الحركة الثورية الجزائرية هي حركة وطنية واعية، منطلقها إيمان الشعب الجزائري بعدالة قضيته، وهي ثورة لا ترتبط بأي توجهات أجنبية بأي حال من الأحوال، وهي قادرة على تحمل كل مسؤولياتها الوطنية، بما في ذلك استرجاع وجود الدولة الجزائرية المُستقلة وبناء علاقات دولية تعتمد على الاحترام المتبادل للاختيارات وللمصالح.
ولكي أوضح عمليا كيف تم تنفيذ ذلك أستشهد بوثائق الثورة نفسها، والتي هي جزء أساسي من تاريخ الثورة.
وكثيرون لا يعرفون أن أول بيان عن الثورة كان بيان 30 أكتوبر 1954، الذي كان باللغة العربية وصدر قبل بلاغ أول نوفمبر بيومين ووزع بواسطة منشور على قطاعات كثيرة، وكانت صياغة البيان تجسيدا لعبقرية الشباب الذين قاموا بصياغة عباراته واختيار جمله وكلماته.
وتجلت في هذا البيان عبقرية لا جدال فيها، إذ أنه اعتمد ثلاثة أساليب بلاغية في نص واحد.
الأسلوب الأول: مخاطبة الشعب الجزائري بصيغة المفرد، فهو يقول له : “إن إخوانك في تونس والمغرب يكافحون، وعليك ألا تنسى لحظة واحدة أن مصيرنا واحد”.
وهذا الأسلوب الذي اختاره البيان يُشعر المواطن الجزائري بالألفة والحميمية، وبأن الخطاب موجه له بشكل محدد.
الأسلوب الثاني: مخاطبة الشعب الجزائري بصيغة الجمع، فيقول: “اعملوا مع إخوانكم المغاربة والتونسيين من أجل تحقيق استقلالكم”.
وهذا الأسلوب يخلق الشعور لدى مجموع المواطنين بأنهم كتلة واحدة، مما يزرع لديهم الشعور بالقوة والاتحاد.
الأسلوب الثالث: يتوجه البيان لمستقبليه بصفة المتكلم الجمع فيقول: “إن مصيرنا واحد، وليس هناك من مانع يحول بيننا وبين الاتحاد، إن سلامنا واحد وحريتنا واحدة، ونحن نستطيع الكفاح بكل جدارة”.
وهذه الصياغة تزرع لدى المواطنين الإحساس بأن من يرسلون البيان يعيشون معهم ويقفون إلى جانبهم ولا يخاطبونهم من برج عاجي.
ولقد برزت عبقرية المناضل الجزائري أكثر فأكثر في بيان أول نوفمبر 1954، والذي كتبه وطنيون مؤمنون بوطنهم وملتزمون بتحريره برغم أنه لم يكن من بينهم دكاترة كبار وفلاسفة عظام وكتاب عباقرة.
كان الهدف الأول من بيان أول نوفمبر اكتساب تعاطف المعني الأول بالثورة، وهو الشعب الجزائري، ثم ضمان تعاطف الحلقات الجغرافية المحيطة بالجزائر، عربيا وإسلاميا، ثم دوليا، واستثمار كل هذا في تدمير الوجود الاستعماري وانتزاع الحرية والاستقلال.
تقول الجملة الأولى في البيان:
أيها المناضلون من أجل القضية الوطنية، أنتم الذين ستصدرون حكمكم بشأننا، نعني الشعب بصفة عامة.
وهكذا وضع الشعب في موضع اتخاذ القرار، وهو أهم عامل لخلق التفاعل الجماهيري مع حركة ثورية تنطلق لتدمير أهم قوة عسكرية في البحر الأبيض.
النقطة الثانية هي اعتبار الثورة التحريرية تتويجا لمراحل أخرى سبقتها، أي أنها لم تعط لنفسها كل المزايا، وهذا نقطة رئيسية لضمان التأييد العام من كل الاتجاهات، وهذا أهم ما يمكن أن يحققه التجنيد الذكي.
النقطة الثالثة هي تحديد الأهداف الثورية بما يحقق وضوح الصورة بالنسبة للوطنيين وتأكيد التعاطف من قبل الأشقاء والأصدقاء، وهكذا حُدد الهدف الأساسي بإقامة الدولة الجزائرية الديموقراطية “الاجتماعية” ضمن إطار المبادئ الإسلامية، وتحقيق وحدة شمال إفريقيا داخل إطارها العربي الإسلامي.
ثم تأتي نقطة بالغة الأهمية والتي استهدفت تقليم أظافر العدو بالابتعاد عن كل أسلوب يعني الحقد والضغينة، وسيكون لهذا دور أساسي في التجنيد الإعلامي للساحة الفرنسية..
ويؤكد البيان أن المصالح الفرنسية ، المُحصّل عليها بنزاهة (أعيد …المحصّل عليها بنزاهة) سوف تحترم، وسواء تعلق الأمر بالأشخاص أو بالعائلات، وهي نقطة بالغة الأهمية سنعرف قيمتها التاريخية فيما بعد عندما راح المواطنون الفرنسيون الفارين المطالبة بما أسموه أملاكهم في الجزائر.
ويُختتم البيان بصيغة المفرد التي سبقت الإشارة لها في بيان 30 أكتوبر، ويقول: “أيها الجزائري، إننا ندعوك لتبارك هذه الوثيقة، إن جبهة التحرير هي جبهتك وانتصارها هو انتصارك”.
ثم يقول بصفة المتحدث الجمع، لنزع كل إحساس بالزعامة الفردية: “أما نحن، العازمون على مواصلة الكفاح، فإننا نقدم للوطن أعز ما نملك”.
هذا البيان أكد من جديد عبقرية المناضل الجزائري، وهو أبسط ردّ على من اعتبروا رجال نوفمبر أميين لا يستحقون التقدير والتمجيد والتخليد.
وبغض النظر عن أن بعض من رددوا تلك التعليقات كانوا ينطلقون من منطلق حسن النية الذي يستهدف تقدير العلماء لا يمكن أن أتجاهل احتمال وجود خلفية خبيثة تحاول اليوم خلق الاستهانة بالقيادات التاريخية للثورة الجزائرية، بل وقيادات مرحلة الاستقلال، وهو ما يمكن أن يكون جزءا من محاولات تدمير ارتباط المواطن الجزائري بثورته وبوطنه وبالتزامه بمواقف بلاده، كخطوة أولى نحو تدمير الوجود الفاعل للجزائر على الساحة الإقليمية والدولية.
أي أن الهدف في نهاية الأمر هو تدمير دور الجزائر العربي والإسلامي والدولي.
ولكن، من المستفيد من ذلك، على رأي أغاثا كريستي؟
دكتور محيي الدين عميمور مفكر ووزير اعلام جزائري سابق