أظهرت أزمة أوكرانيا سقوط جميع الفضائيات في الفخ، لأن الفضائيات رُصد لها مواقف أدت إلى سياسات تحريرية كشفت عن موقفها السياسي الذي عبرت عنه عن طريق الإعلام.وقد حللنا موقف ثلاثة فضائيات هي الجزيرة والميادين وتليفزيون هيئة الاذاعة البريطانية وهذه مجرد انطباعات تحتاج الي دراسة تفصيلية للمادة الاعلامية.
فهيئة الإذاعة البريطانية زعمت أنها مستقلة عن الحكومة البريطانية والتي سجل التاريخ لها خطأً في هذه الموضوعية المزعومة ، خاصة خلال أزمة السويس عام 1956 ، عندما عرضت الموقف المصري من العدوان البريطاني – الفرنسي على مصر ، كما عرضت بتفصيل كبير مواقف أعضاء مجلس العموم البريطاني و المعارضة السياسية و وزير الخارجية إيدن في ذلك الوقت .
ولم تنتبه هيئة الإذاعة البريطانية إلى أن معارضة الحملة على مصر المعروفة بأزمة السويس كانت احتجاجا على انهيار الإمبراطورية البريطانية التي كانت لا تغيب عنها الشمس ، و أن إيدن كان رمزا في الحكومة البريطانية التي اتهمت بالخيانة ، ولكن المؤرخين المصريين يتحينون الإشارات بأن مصر ضحية العدوان البريطاني ، وأن هناك ما أسماه المؤرخون شركاء الأمة الأحرار حتى في بريطانيا ، ونسى هؤلاء المؤرخون أن مجلس العموم البريطاني نفسه كان قد انتفض للاحتلال البريطاني لمصر والوحشية التي ضربت بها الاسكندرية عام 1882 ، كما أن مجلس العموم نفسه كان ثائرا في مناسبتين تتعلقان بمصر فيما بعد ، وهما الحكم على أحمد عرابي و زملائه بالإعدام بتهمة التمرد على الحاكم وهو الخديوى محمد توفيق في ذلك الوقت ، ثم خفف الحكم إلى النفي إلى سيلان ( سريلانكا الحالية ) ، وكتبت الصحف الموالية في ذلك الوقت أن الضمير البريطاني يقظ ، وأنه رفض الإعدام لأن بريطانيا العظمى لا تعترف بعقوبة الإعدام ، ( بينما ارتكبت القوات البريطانية مجازر وإبادة في حق الشعوب ومنها الشعب المصري ، وتجاهلت الصحف عندنا هذه المجازر .)
المناسبة الثانية التي انتفض فيها مجلس العموم البريطاني هي محاكمات دنشواي عام 1906 ، وألقت باللائمة على المحكمة التي كان يرأسها شقيق سعد زغلول باشا وصدّق بطرس باشا غالي رئيس الوزراء على الحكم ،مما أدى إلى تنديد الصحف البريطانية بهذه الوحشية، واتخذت هذه الواقعة دليلا على تخلف مصر والمصريين ومبررًا لاستمرار الوظيفة الحضارية للاحتلال البريطاني في مصر.
ومعلوم أن أزمة أوكرانيا ليست صراعًا بين روسيا و أوكرانيا كما صور بعض من اسموا أنفسهم بالخبراء الاستراتيجيين والعسكريين في مصر و العالم العربي ، وإنما هي صراع سياسي جاد بين روسيا و الغرب عموما أتخذ مسرحه أوكرانيا وأن نتيجة هذا الصراع بدت ملامحه نهايتها لصالح روسيا ، و الدليل على ذلك أن الفضائيات الموالية للغرب عموما و الولايات المتحدة خصوصا اتخذت موقفا يتأرجح بين المهنية و الموضوعية و بين الانحياز للغرب ، بل أن بعض الفضائيات اتخذت المهنية والموضوعية شكلا لكي تؤكد موقفها المنحاز للغرب .
وعلى سبيل المثال هيئة الإذاعة البريطانية و الإعلام الغربي عموما رغم أنه مستقل عن الحكومات الغربية في الظروف العادية .
ولكن قمنا برصد الحقيقة وهي أن الإعلام الغربي جزء من الغرب وأنه ليس صحيحا أنه مهني وموضوعي، ومثال ذلك الحملة الغربية المكثفة من جانب الغرب على العالم الإسلامي والمسلمين والاسلام واتهامهم جميعا بالإرهاب، بمناسبة مسرحية 11 سبتمبر 2001 التي فضح بوتين قصتها في الصراع الأخير مع الولايات المتحدة و تحدي بايدن بالمطالبة بالتحقيق الدولي في هذه الوقائع.
وبالفعل فإن الغرب قد انكشف و استرجعنا تاريخ جرائمه في العالم العربي والإسلامي بلا استثناء، وكل الدول الاستعمارية ارتكبت الجرائم البشعة في حق العرب والمسلمين والأفارقة دون رحمة.
ومثال الفضائيات في الدول العربية اخترنا فضائيتين الأولى الجزيرة القطرية التي خرجت بانطباع مؤكد من خلال متابعتها الدقيقة أنها تؤيد الرواية الغربية في روسيا، ويؤكد مراسلوها على الأحداث وماتسميه الجرائم التي ترتكبها القوات الروسية في أوكرانيا.
صحيح أن ما عرضه مراسلوا الجزيرة كان صحيحا وأن لبعض التصريحات الروسية دلالات لاتخلو من قصة إخبارية، ولكن هذه هي الموضوعية و المهنية التي تخلق الانحياز للولايات المتحدة و الغرب، وفي هذا المقال لن اتطرق إلى أسباب الظاهرة، ولكني اكتفي برصد الظاهرة و بيان دلالتها السياسية تاركا لغيري أن يحلل أسباب انحياز الجزيرة للغرب .
وإذا كانت الجزيرة باللغة العربية قد حاولت أن تتسم بالمهنية فإن الجزيرة بالإنجليزية لم تترك لدى المراقب شكا بأنها منحازة للغرب، ولا يمكن تفسير ذلك بأن طاقم الجزيرة بالإنجليزية هم جميعا من الإنجليز، ولكن القناة تضع خطا سياسيا مشبعا بسياسة تحريرية واضحة تعكس هذا الخط .
يقابل ذلك قناة الميادين التي انحازت انحيازا واضحا لروسيا.
وربما كان انفصال الميادين عن الجزيرة لا يزال سببه قائما وهو أن الجزيرة تعكس السياسة القطرية في سوريا وإن كان الآن بشكل مخفف منذ الصراع القطري السعودي، الذي جعل قطر تراجع مواقفها في سوريا واليمن، وتترك مساحة محسوبة بين موقفها وموقف الحكومة السعودية.
ونظرا لأن الميادين يبدو أنها تمول من إيران، وإيران وروسيا حليفتان في الجبهة السورية، فكان متوقعا لموقف الميادين المنحاز لروسيا والمناهض للغرب، و هذا هو الخط العام في السياسة الإيرانية منذ الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، وخاصة بعد أن أعلنت إسرائيل انحيازها الواضح والتام للولايات المتحدة، وما كشفت عنه الوقائع من أن الرئيس الأوكراني و رئيس الوزراء من اليهود، وأن يهود أوكرانيا يشكلون عصب المقاومة الأوكرانية للقوات الروسية في إطار السياسة الغربية لاستنزاف الجيش الروسي، لعل ذلك يسهم في تقويض القوة الروسية وليس في إجبار بوتين على وضع حد ونهاية للعمليات الروسية في أوكرانيا.
هكذا يتضح لنا أن الإعلام العربي منقسم بين روسيا و الغرب وفقا للانتماء السياسي للدول العربية، وأن الإعلام الغربي كشف بصراحة عن الوجه الحقيقي في هذه الأزمة ولا يدافع عن روسيا إلا قناة روسيا بالعربية، ولذلك فإن المواطن العربي يشكل موقفه من الأزمة بقدر المعلومات والاتجاهات التي يحصل عليها من مصادر متعددة.
وقد رصدنا اتجاها غير مدروس للرأي العام العربي المؤيد لروسيا ربما بسبب السطوة الأميركية المتوحشة على الحكام العرب أنفسهم ، بل أن الحكام العرب أنفسهم يشعرون بتراجع النفوذ الغربي والأمريكي، ولذلك اتخذت بعض الدول العربية مواقف ليست نهائية، ولكنها دالة على أن الهيمنة الأمريكية المطلقة لم تعد قائمة، ومثال ذلك الموقفان السعودي والمصري وهذه المواقف لم تتخذ شكلها النهائي بعد وأنها تنتظر لما تُسفر عنه الأحداث الراهنة.
السفير د. عبدالله الأشعل كاتب ودبلوماسي مصري