الفصل الثاني : سكان ألأكواخ والاستعداد للسفر !
إن سكان الصفيح الذين قد ساكنتهم فهم عبارة عن تجمعات من الوافدين من المواطنين العاطلين عن العمل الذين قد تواجدوا في هذه المدينة من مختلف مناطق الوطن بحثا عن العمل بالإضافة إلى بعض الأجانب الذين قدموا لنفس الغرض ، ولا يوجد من وسيلة لديهم يتسلون بها يومئذ سوى داري عرض للسينما ، واحدة منهما توجد في حي لعريكيب تدعى سينما ( مسطوه) مملوكة لرجل فرنسي والتي تعرض بعض الأفلام الإباحية ، وأخرى قديمة في حي كانصادو تابعة لشركة ميفرما مثلها تماما في ذلك . مما أدى بذلك الشباب إلى ملئ أوقات فراغه بلعب الورق وممارسة قمار (البوكر) و معاقرة الأمور التي لايرضى الله عنها ، و التي ليست فيها فائدة تنفع الناس في الدنيا ولا في الآخرة .
بل بها الكثير من الأضرار الصحية والأخلاقية، خصوصا تلك المتعلقة منها بالممارسات المشينة التي تمارس مع بعض الاجنبيات الوافدات على بلادنا من بعض الدول المجاورة للأسف.
و ربما مؤدى ذلك فهو كو نه لا يوجد في المدينة يومئذ من رادع شرعي أو مرشد أخلاقي او ديني مثل (المحاظر) التي تعلم الشباب الدين الإسلامي والأخلاق الحميدة ، ولا من يوجه ذلك الشباب الوجهة الحسنة من أب أو ذي قربى صاحب علم و حكمة وورع . ومما فاقم ذلك الوضع فهو كو نه لا يوجد في المدينة سوى مسجدين واحد منهما تقام فيه صلات الجمعة ويوجد في حي الغران
، والثاني موجود في حي ( كانصادو ) تابع لشركة المعادن وهي التي تعين إمامه ، وهو ضيق لا يتسع لما ئة
مصل وجل شباب المدينة يومئذ من المهاجرين الذين قد تمردوا على واقهم البدوي القاسي والصعب . ونتيجة لظروف المدينة التي ذكرت بعضا منها سابقا ، ومنها البطالة فقد انغمسوا إلى الأذقان في متاهات مدينة أنواذيبو وغاصوا فيها إلى الر كب في وحل الفساد اللأخلاقي الذي يقود بدوره إلى ممارسة الرذيلة بجميع أنواعها، حيث لا يوجد يومئذ لذلك الشباب من منقذوا عظ ولا مرشد ناصح ، وهو الذي بدأ يستمرئ الإدمان على الفساد بمختلف أنواعه حتى صار الضياع ينخر كيانه ، وليس لديه من وسيلة إصلاح سوى خطبة يوم الجمعة مرة واحدة في الاسبوع لمن حضرها منهم يومئذ وهو قليل !
والذي أتمنى لذلك الشباب من الله العلي القدير الإسفاقة من غفلتهم تلك وأن يؤوبوا إلى رشد أمتهم الإسلامية وأن يتوب الله علي وعليهم أجمعين إن شاء الله !
، فهذه الوضعية هي التي أظنها قادت البلد في نهاية المطاف إلى هذا الأنفلات اللا أخلاقي، و الذي قضى على ثقافتنا الإسلامية النقية الطاهرة والتي حل محلها العهر
اللااخلاقي والسياسي الطبقي المقيت والمشين الذي قاد البلاد هو الآخر و سا قها في آن واحد إلى دمار أخلاقي قل نظيره ، حيث لم يبق ولم يذر ، والذي نسأل الله عز وجل السلامة منه لبلادنا مستقبلا والتغلب عليه في نهاية المطاف بالحكمة والموعظة الحسنة إن شاء الله !
اما أهل المدينة الاصليين ، فإنهم يمتازون بالكرم و الطهر والأحترام و الاخلاق الحميدة, و لا علاقة لهم بما يدور في مدينتهم من ممارسات شاذة بالنسبة لنظامنا الحضاري و الديني و الأخلاقي المتوارث من جيل عن جيل ومن أمة عن أمة .
بل إن تلك الاخطاء سالفة الذكر وغيرها فيتقاسم المسؤولية عنها كلا من النظام الحاكم يومئذ وكذا الوافيدين من الوطنيين والأجانب على حد سواء , وذلك لكون النظام فهو الذي يمثل السيادة الوطنية كما أنه هو الذي يدير البلاد ويسيرها وحده ، و تغاضيه عما يدور فيها من خرقات تمس - بلا شك - حرمة الدين الحنيف وكذا الاخلاق الحميدة ، وهو الذي عيونه شاخصة ومبثوثة في كل وزمان ومكان من أرجاء المنطقة ، ولا يحرك ساكنا حيال كل ذلك ولا يغير منكرا يتعلق به !
اللهم إلا إن كان ذلك جهلا منه بما يدور في البلاد وهو الذي يديرها فذلك أمر بعيد الأحتمال !
وربما يكون الأمر عائدا برمته إلى استغلال بعض أفراد من مخابرات النظام الحاكم لذلك الواقع المشين لليخففوا بواسطته من ضغوط اهتمامات وحاجيات ذلك الشباب العاطل عن العمل والعاجز
في نفس الوقت عن اشباع معظم رغباته الما دية و المعنوية على حد سواء ، وذلك بانشغالهم بتلك الممارسات الشاذة المنحرفة والتي ربما يراد من ورائها امتصاص معظم طاقاتهم الغريزية (الشهوانية والغصبية ) لليكون في نهاية المطاف شبابا غير مهتم إطلاقا بشؤونه الخاصة ، ولا بأمور بلاده وكأنه ( منزوع الدسم ) إن صح ذلك التشبيه ليلا يحدث منه ما يكدر صفو سير النظام الحاكم في تلك المنطقة الحساسة شبه الحدودية و الملاصقة للصحراء الغربية المتنازع عليها يومئذ من جهة ، ومن وراء ذلك المغرب الذي له خضور معتبر في تلك المنطقة بشكل أو بآخر من جهة ثانية ، والذي لا يفصلها أيضا عن الغرب الإوربي العلماني سوى عرض المحيط الأطلسي شمالا وذلك من جهة ثالثة !
وعلى العموم فإن مدينة أنواذيبو حين قدومي إليها وحين غادرتها فقد كانت ممارسات الوافدين فيها سواء كانوا وطنيين أم أجانبا، لا يمكن أن تنسب إلى أي بلد يدعي أهله الأنتماء إلى دولة الإسلام !
فما هذه الا نظرة عامة قد تولدت في ذهني يومئذ كانطباع عام للأسف عن واقع تلك المدينة التي ورطت نفسي بالقدوم إليها بحثا عن عمل ما أتقوى به على متطلبات الحياة . حيث أرغمتني ظروفي الخاصة فيها على مساكنة بعض الذين تعرفت عليهم من سكان أطراف المدينة، ساكني علب الصفيح حيث يتعانق البرغوث والرطوبة . و ذلك قبل إن أتعرف على تلك الأسر الثلاثة الذين قد ساكنتهم أخيرا ، ورغم قلة ما باليد والخصاصة فإنهم على العموم يغمرهم الكرم والإيثار والإباء والتضحية في خدمة الضيف ولو طالت إقامته ، فلن يشعر بعدم الرغبة بوجوده بينهم كأغلى واحد منهم .
وتلك الأسر على التوالي فهم : اهل إسلمو ولد سلمان وهل محمود ولد حامد ، وهل إدومو ولد صمبه ، ولهم مني الشكر والتقدير والأحترام وجزاهم الله عني خيرا بأحسن جزائه على ما عاملوني به من لطف وإحسان .
ثم إني قد بقيت هنالك مدة سنة كاملة في مدينة انواذيبو إلى حين شعرت في فترتي الأخيرة في المنطقة بالدوار الشديد الذي أحس به كلما أردت القيام من مكان جلوسي ، وكذا فقد انتشرت أيضا في معظم جسدي الأمراض الجلدية التي كادت تستوطنه بالكامل تقريبا ولمدة سنوات طويلة بعد ذلك !
ويعود سبب كل ذلك من وجهة نظري إلى لدغ حشرات البرغوث المزعجة المسماة محليا ( فت ) ، وكذا سوء التغذية وانعدام الخدمات الصحية العامة وحتى الخاصة في تلك المدينة بالنسبة لي خصوصا ندرة المياه للأ ستحمام وكذا برودتها إن وجدت يومئذ في منطقة علب الصفيح على الأقل ، حيث كنت أقيم ، كما أنه ما كان يشرب المواطن المقيم في تلك الأكواخ من ماء فإنه يسحب بالفم بواسطة خراطيم ( الكاوتشوك ) من قاع براميل القصدير الصدئة التي يخرج منها الماء محمر اللون في أغلب الأوقات ، مما أثر ذلك على على صحتي التي بدأت أشعر بأنها تسرق مني رويدا رويدا من طرف الأماني الو ردية الحالمة بيوم غد أفضل من جهة ، ومن سوء التغذية والمياه الملوثة وكذا البرد الشديد من جهة ثانية !
إذن فإن فترة قدومي إلى مدينة أنواذيبو يبدو أنها قد كانت في الوقت غير المناسب لكونها قد صادفت بداية سنوات الجفاف التي كانت تعد بحق سنوات عجاف على كافة التراب الوطني ، مما ضاعف من تأثير ها على عموم الوطن ، فهو حداثة نشأة الدولة من شبه فراغ كامل كما هو معروف ، فهذا من جهة و البداوة التي كان يفتقر أهلها إلى الخبرات الضرورية لممارسة الحياة الحضارية من جهة أخرى .
بالإضافة إلى قلة حنكة موظفي الدولة يومئذ وكذا انعدام الوسائل لديهم ، وضعف إعلامهم ، بحيث لو كان قويا لنقل صورة مؤثرة تترجم واقعهم المعيش للعالم الخارجي ، لكي يحصلوا منه على مساعدات قيمة ، تخفف عنهم بعضا من وطأة ذلك الواقع المركب من البداوة والتخلف ، المضاف إليه ما سببته لهم حرب الصحراء غير المتكافئة ، وكذاغيرذلك من أزمات اقتصادية واجتماعية متعددة العوامل والأبعاد أقل ما فيها سوء فهو الجفاف الذي عم كافة بلادنا تقريبا للأسف الشديد !
(يتبع)