الجزء الثالث السفر إلى مدينة إنواذيبو بحثا عن العمل :
لقد اخترت السفر الى مدينة انواذيبو لأنها الأقرب إلى نفسي لكونها مدينة و طنية و كذا لشدة الدعاية المروجة عن شركة (ميفرما) يومئذ والتي كانت تستخرج معا دن الحديد من ضواحي مدينة (ازويرات) لتصديرها عبر منائها المعدني في مدينة انواذيبو إلى كثير من الدول .
الفصل الأول انواذيب وظروف العمل فيها :
لقد توجهت إلى مدينة انواذيبو على أساس كو ني سوف أجرب العمل فيها بعد الأزمة الأخيرة التي قد تعرضت لها جراء زواج امريم ، وذلك بحصولي ربما على عمل مافي شركة المعادن أو في شركات السمك الأخرى لكي أشاغل به نفسي عن التفكير فيما يشغل زواج امريم في ذهني من اهتماما ت وكذا ظروف ذلك الزواج المزعج التي تم فيها ، ولكوني أيضا ربما يمكنني ذلك العمل الجديد بعد الحصول عليه من عائد مالي فلربما يوفرلي ما أحسن به من ظروفي الخاصة التي قد أصبحت جد صعبة ولاتطاق .
وإذالم أجد ما يلائم قدراتي من اعمال في كل من ذلك . فلسوف أوحال العمل في التجارة لسابق خبرتي في ممارستها خصوصا فيما يتعلق منها بتجارة المواشي ، وذلك في أي مستوى منها يتوفر لي العمل فيه ، مستغلا في ذلك فرصة بداية ظهور بعض الأعمال التجارية التي بدأت تنشط في المدينة يومئذ مع دخول بعض شركات السمك الأجنبية في أنشطتها التجارية والصناعية ، بالإضافة إلى قرب مستعمرة اسبانية من مدينة انواذيبو تدعى ( لگويرة ) وقدكانت مزدهرة تجاريا يومئذ مما يوفر لمعظم الرجال القادرين على حمل البضائع على أكتافهم فرص أعمال إضافية ، خصوصا أولئك منهم الذين بإمكانهم تهريب البضائع العصرية من لگويرة مثل مساحيق زينة النساء والسجاير والثياب العصرية الجاهزة ، وكذا المسجلات والرجوا ت وبعض ذخائر الأسلحة النارية، وغير ذلك من البضائع الثمينة ، التي كانت رائجة يومئذ في أسواق مدينة انواذيبو.
الشيئ الذي سيوفر مداخيل إضافية زيادة على النشاطات السمكية و المعدنية. ودون أن أسأل عن طبيعة العمل في أنواذيبو ولا كيفية الظروف الإجتماعية فيها ولا المناخية وهل كل ذلك يلائم خبراتي وكذا قدراتي وحتى صحتي . ورغم ذلك حسمت أمري وتوكلت على الله وذهبت إلى مدينة انواذيبو لا ألوي على شيئ ، وكلي أمل في إيجاد ما ذكرت.
ولقد كانت المفاجأة غير السارة بالنسبة لي فهي أني لما وصلت المدينة في بداية السبعينات وبعد استراحتي لعدة أيام من وعثاء السفر ، قد قمت خلالها بالأتصال بمختلف القطاعات التي كانت تعتبر مظنة للأعمال ومشاهدتي لها ميدانيا ، كما سألت العا ملين في تلك المنشآت عن خفايا تلك الأعمال والأنشطة المتعلقة بها ،وكذا كيفية وإمكانية الحصول على فرصة عمل تلائمني في مختلف تلك القطاعات والمنشآت التابعة لها.
فإذا بي أجد فعليا وللأسف بأن العمل في أنواذيبو شبه مستحيل بالنسبة لمن هو في مثل ظروفي الخاصة . لأنه حتى الأعمال المكتبية أو الفنية في المدينة يومئذ شبه مستحيل الحصول عليها إلا للمتعلمين باللغة الفرنسية وحدهم، وحتى أن حملة الشهادات العربية - على قلتهم - يومئذ فقد كانوا يحشرون ضمن طوابير العاطلين عن العمل كشطآن البئر الممتدة أمام مكاتب التشغيل ، وليس أمامهم من فرص للعمل -مثلهم -مثل الأميين الجهلة سوى الفأس والرفش أوتنظبف الأسماك وتصبيرها أو تشريحها و نشرها وتعليقها فوق حبال معدة سلفا لتجفيف تلك الأسماك وتذويب زيوتها . فمابالك بي وأنا النكرة الغريب في تلك المدينة، شبه الأمي، والمتداول من الأعمال يومئذ يحتاج الراغب فيه إلى عضلات الشباب المفتولة وكذا صحتهم وقوتهم البدنية ، المنعدم كل ذلك لدي !
أما أعمال الحراسة أوالعمل في أعالي البحار على متن سفن الصيد ، وكذا الحدادة أوالنجارة والسباكة و حتى المكنيكا والكهرباء فيحتاج المترشح لتلك الأعمال إلى خبرات أولا ، وثانيا بعد التكوين للحصول على تلك الخبرات ، فسيأتي دور الوسيط المأجور ، أو الوجيه المتنفذ ، وكذا تدخل هؤلاء الأثنين في غير ذلك من الأنشطة المدرة للدخل في المدينة يومئذ !
إذا فلابد للذي يرغب في الحصول على عمل مناسب في تلك المدينة يومئذ من أن يقدم رشوة معتبرة بمبالغ طائلة ، أو وساطة متنفذ له شأن كبير في تلك المدينة الغريبة ، و مصدر غرابتها بالنسبة لي يعود أساسا إلى طبيعة إدارتها ومسيريها وليس في المدينة في حد ذاتها !
وأنا كما ذكرت لك سابقا فلا أعرف أحدا من أطر المدينة ولا من وجهائها ولا مال لدي أرشي به ، ولا قوة بدنية تمكنني من حمل الأثقال أو العمل بالفأس أوالرفش وحفر الاخاديد في الصخور الصلبة وملئها بالخرسانة المسلحة ، أو السير عدة كلميترات يوميا أ نظيف سكة الحديد يتعاقب علي خلال أوقات الدوام لفح الحر و زمهرير البرد القارس ، إن حصلت أصلا على عمل مياومة ما في تلك السكة الحديدية أي ( الجرنالية ) ! مما جعلني كل ماذكرت من صعبات ، إلى أن أصير مجرد رقم مضاف إلى آلاف أرقام الشباب والكهول والشيوخ العا طلين عن العمل والمسجلين لأسمائهم في سجلات مكاتب التشغيل . ينتظرون آمالا غير واضحة المعالم ربما تتراءى لهم عن بعد خلف تخيلات السراب المتموجة ، والذين قد توافدوا - أولئك الشباب - على المدينة من داخل البلاد وخارجها هروبا من واقعهم القاسي الصعب جراء سنوات الجفاف العاصفة ، وذلك بحثا عن فرصة عمل شريفة ، ولكن للأسف الشديد ، فقد تبخرت آمالهم الوردية تلك لمالم يجدوا العمل المناسب في عاصمة بلادهم الإقتصادية !
فقلت له فكيف كانت مدينة أنواذيبو حين قدومك إليها في بداية السبعينيات ؟ فقال إن مدينة أنواذيبو قد كانت عبارة عن مدينة متواضعة أشبه ما تكون بقرية رغم انتشارها أفقيا على مساحة شاسعة نسبيا محاذية للبحر الذي يغمرها رذاذه أحيانا في أوقات موجات المد العاتية ، وهي تتكون من أربعة أحياء وذلك في شبه جزيرة يحدها البحر من الشمال الغربي و من الجنوب الشرقي ومن الغرب تماما.
و تقع في شمالها الشرقي قضبان سكة الحديد القادمة من مدينة الزويرات على بعد مسافة 600 كم2 إلى ان تموت في المحيط الاطلسي غربا حيث مناء تصدير الحديد و كذا ادارة الشركة و تواجد آليتها و مخازنها.
و تتكون المدينة أيضا من أربعة أحياء أساسية كما ذكرت وتسكنها قرابة خمسة عشر ألف نسمة معظمهم من الوافدين الوطنيين وكذا الأجانب.
وكان أحد هذه الأحياء يدعى (كانصادو) وهو مقر شركة المناجم ويسكنه كوادر الشركة من الفرنسيين وغيرهم ، وحي (الغران) ويقيم فيه أهل البلد وبه الجامع الكبير الذي تقام فيه صلاة الجمعة وحده يومئذ، وإمامه رجل فاضل يدعى (البن ولدبده)، وحي (لعريگيب) الذي توجد به المدرسة الأبتدائة الوحيدة التابعة للدولة في المدينة وكذا معهد للتكوين المهني يدعى (سانتر ممدو توري) والمقبرة،
ثم حي (صالة) الذي يقع في المنطقة الرطبة على رصيف شاطئ الأطلس ، وقد كان ذلك الحي أكثر تحررا من بقية الأحياء لكون معظم سكانه من الأجانب. ويحيط بحيي لِعْريْگيب والغِران حزام من البؤس تشكله علب القصدير الصدئة التي يسكنها الوافدون على المدينة ، سواء كانوا من الو طنِيين أم أجا نبا مهاجر ين وباستثناء حي كانْصاَدُو حيث يقيم الأوربيون فلا توجد خدمات صحية على الإطلاق وذلك لكون نظام البلديات يومئذ غير معمول به في بلادنا.
كما لا توجد في المدينة أيضا مرافق تابعة للدولة تقدم نفس الخدمات التي تقدمها البلديات عادة , و يوجد بالمدينة أيضا شارع واحد معبد يقسم المدينة نصفين ويمتد من مقر الشركة على ضفة المحيط الأطلسي غربا حتى خزان مياه الغران شرقا . ويتفرع منه فرع قصير متجه صوب حي كانصادو الراقي نسبيا سالف الذكر ، وفرع آخر متجه صوب مطار المدينة . كما يوجد بها كذلك مناء واحد وبقالة تابعة لشركة ميفرما في حي كانصادو ، ثم بقالة (البيرساك ) في حي صالة وكذا عدة شركات تعمل في مجال صيد السمك منها مثلا شركتي ( گلفي ) و شركة (سفريما ) كما أن فيها بريد للمواصلات . وبها إعدادية واحدة ومعهدان للتكوين المهني واحد في لعريگيب تابع لوزارة التعليم ، والآخر يعود لشركة المناجم ويقع مكانه في مقرها في ( ابوينت صانترال ) كما ذكرت سابقا . وبها أيضا قلعة قديمة قرب المطار تابعة للحرس الوطني وهي من بقيامبان قد تركها المستعمر الفرنسي تقيم فيها عائلات بعض الجنود ، وأحيانا تتخذ السلطات الإدارية قسما منها كمعتقل مؤ قة يحتجز يفه بعض المعا رضين للنظام ، كما ترك فيها الفرنسيون أيضا مباني الولاية المسماة الدار البيظة وقلعة المنعطف الأزرق (تور ابله) !
فهذه مدينة انواذيبو يوم قدومي عليها ، وهي نفسها حين غادر تها ، والتي أتمنى لها من الله العلي القدير أن تعود إلى سابق رشدها كمدينة إسلامية ، وكذا أن تنمو وتزدهر ، ولأهلها الصحة والسلامة والأنتصار على كل معوقات الزمن في قابل الأيام إن شاء الله ، وأن تطبق إدارتها مقتضيات العدل والإنصاف على كل المواطنين والوافدين على حد سواء.
الفصل الثاني : سكان أحياء القصدير والاستعداد للسفر !