الفصل الثالث :الهجرة الأولى الى السنغال
تحت تأثير الدعاية الدائمة ( لجلات ) و ارباحهم من تجارة المواشي ، قررت السفر إلي مدينة (كيفه) في نهاية خريف إحدى تلك السنوات الأولى للأستقلال الموريتاني في مواسم تواجد جلات نهاية الخريف عادة في كيفه لشراء أغنامها وأبقارها ، حيث صادفت جماعة من أولئك التجار قد أكملت شراء أغنامها ولاينقصها سوى (أقديم) ولم تطل المماكسة بيني معهم في شأن شروط العمل معهم . بل قبلت كل شروطهم ، لأن هدفي الأساسي كان حينئذ فهو الوصول إلى حيث هم قد أصبحوا رجال أعمال يجمعون ذلك القدر الكثير من الكباش والثيران ما لم يستطع جمعه حتى شيوخ القبائل خلال مدة سنة كاملة بل اكثر !
وقد كان الرجل الذي تعاملت معه رجلا كريما سمحا وقورا يدعى محمد الأمين ولد خيري ، حيث قد خرجت
معه ضمن جماعة من هؤلاء القوم في ذلك الزمن الغابر في نهاية الخريف أسوق لهم الغنم من غرب مدينة كيفه حتى حصرتها في سوق (بكين)، في مدينة دكار السنغالية على قدمي هاتين المتشققتين الماثلتين أمامك ، وضرب قدمه اليسرى بكفه الأيمن .
وقد كانت رحلتنا تلك شاقة وصعبة وطويلة دامت قرابة شهر كامل من السفر على الاقدام إلا أ نها كانت تتخللها استراحات ولعدة أ يام ، وذلك كلما نمر بارض غنية بالاعشاب و المياه و يتوفر فيها الامن . وقد كان معي مجموعة من الرعاة و تجار الغنم ، والذين كانوا يذبحون لنا أولئك التجار شاة أو اثنتين ونستريح عدة أيام ونحن نتناول اللحم الطري المشوي , و معظم زادنا يتكون أساسا من ( التيشطار) وهو القديد و ( باسي ) فهو كذلك نوع من الكسكس ، و كذا حليب الضأن الذي لا يعادله أي حليب في لذاذة طعمه ولا في صحته مهما كان مصدر ذلك الحليب .
و رغم مشقة تلك الطريق وطولها فإنه قد كان مما يخفف من وطأة مشقتها فهي سهرات ليلية كنا نقيمها احيانا تحت أضواء القمر وعلى أنغام ( نيفارة) زميلي امعيتيگ و ربابة الراعي دنبه صو الفلاني المصاحبة احيانا لأنغام شبابة زيدان ولد اعمر وكذا حكاياته الجميلة المؤثرة , ثم مناظر الاودية العميقة و الهضاب الجميلة التي لم يسبق لنا مشاهدة أمثالها من قبل.
و أحسن ما احتفظت به ذاكرتي من مناظر تلك الرحلة فهي من جملة أمور كثيرة سباحة الغنم الفطرية عبر نهر السنغال التي لم أشاهد مثلها من قبل ، و كذا عوم الكلاب و سباحة الحمير الخاصة التي تكون ذيولها منزلة في النهر ممسوكة من طرف سباحين مهرة ، لكي تبقى رؤوسها شبه معلقة في الهواء خوفا من استنشاقها الماء لليلا تختنق وتنفق .
و مما انبهرت به كثيرا فهو مع دخولنا الأراضي السنغالية هو مشاهدتنا لأضواء السيارات في ظلمة الليل الحالكة و التي خيل إلينا حينها بأن النجوم قد تسا قطت من علو السماء على الطرقات العامة ، و كذا الأصوات المنبعثة من تلك السيارات و التي تشبه صرير أصوات ( بزيزوان ) الصيفية المزعجة للغاية ، ثم ذلك الطريق الأسود الممتد ( كتبيب المراهق ) من ضفة النهر إلى داكار العاصمة السينغالية .
وكذا منظر بعض النساء السنغاليات الجميلات وهن متأزرات بثيابهن الملونة والمطرزة بالزركشة الرائعة و كأن آ ذانهن مدلاة على اعناقهن جراء ما يحملن من أقراط ذهبية وحلي نفيس , حيث تدلية تلك الأقراط في مهاوى رقابهن يشبه ما وصف به الشاعر عمرو ابن أبي ربيعة ، اقراط (هند ) وهي إحدى الفاتنات الجميلات التي قد شاهدها بمنى فهام بها لما رآها وقرطيي أذنيها يتمايلان في مهوى جيدها أثناء طوافها حيث قال فيها / نظرت إليها بالمحصب من منى / ولي نظر لولا التحرج عارم / فقلت أشمس أم مصابيح بيعة / بدت لك تحت السجف أم أنت حالم / بعيدة مهوى القرط أم نوفل / أبوها وأما عبد شمس وهاشم / .
بلإضافة إلى ما سبق مشاهدتي للمصارعة السينغالية أيضا و التي تشبه الى حد ما المصارعة اليابانية المسماة ( السومو) خصوصا فيما يتعلق منها بالقماش الذي لا يكاد يستر سوى القبل و الدبر من المتصارعين الأثنين بالإضافة إلى كثير من التعاويذ والتمائم المربوطة فوق عضلات المرافق والركب تيمنا بها لإفشال سحر وكيد الخصم المصا رع للطرف الثاني !
كما أني قد اكتشفت لديهم كذلك وجبة غذائية جيدة تدعى ( تيب اجن ) و هي تتكون عادة من السمك الطري و الارز و البهرات الخاصة, و لها طعم متميز قل نظيره في أي وجبة غذائية أخرى .
فهذا بعض ما تبقى في ذاكرتي من احداث تلك الرحلة العجيبة والممتعة في نفس الوقت !
اذا وبعد ما أن وصلت مدينة بكين بدكار وإستخلصت أجرتي من تجار الغنم ، حتى بدأت أعمل مثلهم ، وأشتري الغنم بالذمة وأبيعها ، في أسواق داكار وأتهجى لهجة (ولف) المستخدمة في تلك النواحي وأطبقها في مرابض (أنجريم) ( وأنبكه)و(جلف )بصفة عامة
وصرت من ذلك التاريخ من كل سنة أوسنتين تقريبا أعود إلى وطني الأرض حاملا ما استطت حمله من الثياب و الشاي و السكر و صناديق ( الشهرة ) و (مدافع بفلكة وإذاعات ومسجلات و غير ذلك من الحوائج التي لها قيمة معتبرة يومئذ .
ثم أقضي شهورا في ربوع ارضنا الطيبة أتفقد حيواناتها الداجنة وغير الداجنة ، وتربتها وأشجارها وأزهارها وجبالها وهضابها ومياهها العذبة وكذا هواها النقي ومواطنيها. و أتنقل بين مختلف أحيا ئها راكبا مرة وراجلا أخرى ، أجر عمامتي وأزكم أنوف الأهالي بصباغة (سيكو) الزكية ، وأمارس هوايتي في صيد الغزلان والحبارى
المتواجدين بكثرة يومئذ، ويظل الأمر هكذا إلى أن ينفد ما في محفظتي من نقود ، فعندها أكر راجعا إلى السنغال قصد العمل فيه حتى ابتليت في إحدى زياراتي للوطن ذات مرة بحب فتات تصغرني بعقد من الزمن تقريبا !
الجزء الثاني مغامرة ذلك الحب المفاجئ :