تعبير الشعراء يتبعهم الغاوون هو في هذا الزمان السياسيون يتبعهم المحللون. يكتسحُ التحليلُ، لما قام و يقوم و قد يقوم به السياسيون، مشهدنا اليومي، هذا لمن يتابع الأخبار، فالتحليل السياسي مهنةً للكثير. وبما أن الذاكرة الإعلامية صارت قصيرةً بِقِصَرِ دقائق معدودةً فلا ضيرَ أو خشيةً من تحليلٍ خاطئ، فلن يتذكره أحد. و إن أصاب، فكذلك سينطوي تحت وطأةِ ما يأتي بعده ولن يذكره ذاكر.
كان التحليلُ السياسي يكتسي هالةً مع أمثال محمد حسنين هيكل و غسان تويني و كلوڤيس مقصود لكنهم مضوا و إن بعض كتاباتهم ما تزال حيةً في مضامينها. رافقهم ثم حلَّ مكانهم آخرون قليلٌ ممن يسطعون بالتحليل العميق و نتتبع ما يقولون و يكتبون مثلما يتتبع الجمهور جيشُ المتنبئين لأحداث العام الجديد. لكن جيل العمالقة ذاك لم يتزامن بالكامل مع ثورةِ الأقمار الصناعية والإنترنيت و بوقتهم كان لافتتاحية الصحيفة والكتاب واللقاء التلفزيوني المرتقب بريقٌ و جاذبيةٌ فحازوا اهتمامنا كلما ظهروا بحديثٍ. لكن التحليل السياسي اليوم يقتحم أفكارنا في عالمٍ من التشويش. مثل ضوضاء شارعٍ مزدحم. و قد طغت الضوضاء على المعقول و نشرت من اللامعقول الكثير. طبعاً، هناك ما يمكن متابعته و التعلم منه لكن الغث أكثر و تلمس السمين من الغث مع ضوضاء الانترنت مسألةً مرهقةً. و لكلٍّ ميدان متسوقين و بهرجةٌ إعلانيةٌ، فالمحلل السياسي يستعين بالفيلم التوثيقي و الخرائط الملونة و جهاز “اللابتوب” بمؤشره الالكتروني. كما يتسابق ليقول شيئاً بوجه مضيفه فلا تعلم من تتابع، المحلل أم المضيف. و قد يضع المضيف ضيفاً أمام آخر ليتحاورا فيتساجلا و رأينا كيف يتحول الحوار لسجال و لاشتباكٍ لفظي سوقي و عند البعض يدوي. و من التحليل المكتوب ما يميلُ للإطالة فيضيع القارئ و يميل للاختصار و الرمزية فيضيع الموضوع. ثم ظهرت مادةٌ مرئيةٌ على مواقع مثل “يوتيوب” و بعضها هدْرٌ للوقت كما للمنطق. و بعضها يُتابَعُ لموضوعيته و ارتباطه بالعقل و المعلومة.
وهناك سوقٌ للمحللين. بعضهم يعرض “بضاعته” التحليلية بدون مقابل. هوايةً و ممارسةً عقلانيةً و فكرية و مع مرور الوقت قد تتجه الهواية للاحتراف و قد تنزوي. لا يربطهم بالتحليل إلا الرغبة بالمشاركة فيما يقدحون من فكر. و منهم من يعمل في التحليل بمقابل فهي وظيفته التي يعتاش منها، كمن يعمل بمراكز البحث و الدراسات، و لهؤلاء الشكر لعملهم الذي تغلب عليه الرصانة و العلمية، حتى لو أختلفت معهم. و منهم من يُضَوْضِئُ بالقلم و اللسان. فهو إما “كلام جرايد” علَّ أحداً يلحظهُ فينقُدَهُ (من المال)، و هذا النوع من المحللين لا شاطئَ مبادئ لهم فشطآنهم هي وجهةُ موجُ المال الدافع. اليوم شرقا و غداً غرباً. و الابتعاد عنهم فضيلة. و إما كلامٌ له أبعادٌ و نوايا. و كل الأنواع من المحللين تصيب و تخطئ و لكن بعضها، كالنوع الأخير، يُصيبُ ويخطئُ عن سابقِ تخطيط. عندها تضيع استقلالية التحليل لأنه أصبح وسيلةَ نزاعٍ مع و ضد. والقارئ المثقف يريدُ تحليلاً يضيئُ له زوايا الحدث المظلمة و لا يريد تحليلاً يقوده نحو مزيدٍ من الغموض أو يتعمد تضليله. غير أن كثيراً مما نقرأ و نتابع مرتبطٌ بالجهةِ الناشرة أو الإعلامية، و مالها مرتبطٌ بالسياسة التي تحدد وُجهةَ التحليل. و قد يكون الكاتب محايداً لكنه يراقب نفسه ليضمن نشر ما يكتب و في هذا وجعٌ لا يعلمه ألا الكاتب.
وتحضرنا في التحليل السياسي عباراتٌ مثل “حان الوقت” أو “آن الأوان” و “ما يجب و ينبغي عمله” و هي تقع في خانةِ التمني و الحث. لا يسمعها سياسي. و إن سمعها فلا يلتزم بها إلا إن تماشت و سياسته. فالسياسي الممتهن لا يأمل و لا يتمنى بل يلوي المواقف للمصلحة بدون عواطف. و يقولها المحلل رغبةً في التغيير لاتجاهٍ معين، إن كان محايداً أو متحيزاً. المحايد يتمنى عن حُسنِ نية و المنحاز يقود الرأي العام تحيزاً غير بريء. و بعض العبارات مثل “على الأغلب” و “على أبعد تقدير” و “محتمل” و “ربما” هي من باب “لَعَمْ” المشهورة. المحلل هنا لا يوافق و لا يرفض و يُبقي الباب مفتوحا فإن صابت أصاب و إن خابت أيضا أصاب. و بعض المحللين يبني على معرفةٍ عميقةٍ و متابِعةٍ لأصحابِ الأحداث و العارفين الصانعين للسياسة فيأتي تحليله تفسيراً لما كان أو سيكون، و قد يكون محايداً لكنه بمعرفته سيُعتبرُ عنصراً من عناصر السياسة والسياسي. مِثْلَهُ مثل الموظف، لأن معرفته تُحَوِّلُ دوره من الاستقلال في التحليل إلى الانقياد في ذات التفكير والتبرير و التمهيد لسياسةٍ معينة، ولو لم يشأ، لأن استنكافه عن الميلِ بالتحليلِ سيبعده عن مصادر المعرفة و النشر. و قد يكون المحلل مؤمناً بدوره التبريري. سمعنا عن قوائم رواتب ومكافآت لمحللين من حكوماتٍ مختلفة تدفع لتبرير أفعالها. هل هم مرتزقةٌ للمال أم مؤمنون بهذا الدور؟ و بعضهم طموحٌ يَسْتَشِمُّ التطورات والأخبار فيجتهدُ ليحللها على حذرٍ أن يقرأ فيها أكثر مما يلزم. و هو هذا المحلل الذي سيقع في براثن عبارات التمني و الأمل و الأوان الذي يجب أن يأتي. فاعرف عندما تقرأ له أنه لا يملك من التأثير على السياسة إلا بقدرِ رفَّةِ فراشة في إعصار.
السياسةُ لا تخضع للتحليل الصحفي ولا تأبه به إلا عندما تستخدمه أداةً لتسويق موقف و لرد الفعل حين يكون رد الفعل مطلوباً أكثر من التجاهل. فالسياسة تعتمدُ التحليل المعلوماتي الاستخباري المتزاوج مع قياس المصالح بأنواعها، الوطنية و الذاتية وعوامل المال و الاقتصاد و الجغرافيا و التاريخ و البقاء في السلطة لشخص وطبقة وحزب و ربما لون و عرق و دين. و ما يفعله التحليل الصحفي الإعلامي هو محاولةٌ متواترة لفهم و تناول كل هذه العوامل وما من محلل يستطيع أن يُلِّمَ بكل هذا الظاهر و المختفي بكل تحليلٍ يأتي به. كُتُبُ التاريخ و السيرة الذاتية و التوثيق لما حدث قد تقول و تفسر لماذا كان ما كان وقد تمتنع لكن السجلات الرسمية التي تبقى سريةً لعقود هي التي تحتوي على مفاتيح التحليل لما حصل و حتى هي قد تطالها يدُ الرقيب عند أتاحتها للباحث. أما الحاصل الآن في هذه اللحظة في عقلِ السياسي وقراراته فيخضع لاعتباراتٍ قد لا يراها المحلل بكل عناصرها فيجتهد لاستقراءها ليصيب أو يخطئ. و قد يراها كما هي حقيقةً، و هذا من النوادر، فيُطلَبُ منه السكوت أو الكتابة بالرموز كجزءٍ من سياسةٍ بات هو فيها عنصراً و ليس مراقباً موضوعياً.
أختمُ هذه السابرة بأن أفضل ما يمكن قوله من وجهةِ نظرِ محلل (!) أن المكتوب العربي مقروءٌ من عنوانه و أن مضمونه لا يكترثُ لكثرة التحليل. فلا الشعراء سيتوقفون عن التمجيد و الهجاء ولا أتباعهم الغاوين، ولا السياسيون سيتوقفون عن رسم السياسات المصلحية و لو مع عدو الإنسان العربي و الدين. و سواء برعَ المحللون أم تاهوا فلا أهميةً كبيرةً لبراعةٍ أو خيبةٍ تتساويان في المحصلة: لا يقرأ لهم سياسي ليعلم أو يتعلم. يبقى السياسي العربي سيد الموقف. و قد لا نخطئ عندما نقول أن التحليل السياسي قدرٌ أحمقُ الخطى!
علي الزعتري كاتب ودبلوماسي اردني