الفصل الأول مرحلة التعارف والنشأة :
دون سابق ترو ولا تفكير يحدد الموضوع الذي أريد تناوله مع الرجل مدفوعا في ذلك الإتجاه بحب التطلع الكامن في نفسي حيال الأسباب الفعلية القائمة وراء تاريخ حافل بالفشل لهذاالنموذج الوطني من الأشخاص ، ولكن مغامرة الوصول الى ذلك الهدف تستدعي من جملة أموركثيرة منها العمل على استئناس ذلك العجوز وركونه إلي ، لأكون في مرحلة لاحقة قادراعلى طرح ما أريد عليه من أسئلة ، لأكتشف لاحقا من خلال أجوبتها السر الكامن وراء فشل معظم هذه النماذج الوطنية التي حرمت أصلا من التعليم والتوجيه منذ الثلاثينات من هذا القرن. وأول مؤشر سوف يشجعني على متابعة هذه المهمة فهو ما مدى موافقته على إستقبالي في مقرسكنه إن كان لديه سكن على الإطلاق .
كان هذا من جملة ما يدور في خلدي وأنا أنزل خلفه مباشرة من سلم الحافلة المْتثَلمْ ، ثم سرت بجانبه متظاهارا بأني أسير في نفس الإتجاه وبدأت أتجاوزه وأبتعد عنه شيئا فشيئا حتى صرت على بعد أمتار منه، عندئذ تواريت عن ناظريه داخل أحد الدكاكين المتناثرة دون إنتظام على ذلك الشارع الرملي المتدفق عبر الرمال المتحركة في إتجاه منطقة النحر ، حيث صادفت صاحب الدكان مازال يوقد مصباحه الغازي ، ويترنم بدعاء توديع ملائكة النهار ، وكذاالترحيب بملائكة الليل، كان الجو وقتئذ لطيفا هادئا بسبب النسائم القادمة من جهة الشواطئ الغربية للمحيط الأطلسي ، حيث بدأت الشمس تختفي رويدا رويدا وراء التلال الغربية المنبسطة حول مدينة أنواكشوط ، ساكبة عليها أشعتها الذهبية . وهي مرتدية ثوبها المسائي الوردي المغموس في عتمة الغسق ، ملبسة بذلك الجمال الأخاذ المنطقة بكاملها ألوان قوس قزح الزاهية.
في ذلك الظرف بالذات رابطت بعيني على الطريق العام الذي يسلكه العجوز حتي بدأ يظهربجانبنا وقد تجاوزنا بعدة أمتار وهو يخطو خطوات وئيدة على ثلاث دعائم ، قدمين وعصايسير على إيقاع تلك العصا المرشدة، فعندئذ أتجهت خلفه متخذا إياه قدوة أرفع رجلي كلمارفع قدمه واضعها حيث يضها تبعا لحركته البطيئة حتى توقف أخيرا أمامي مسندا قامته شبه المائلة تجاه الأمام على عصاه قبالة ذلك الصندوق الخشبي الذي علا الصدأ كلما علق به من معادن، وبعد لحظات من البحث والتنقيب فيما يمكن أن يكون جيوبا أخرج منها مفتاح العريش (لبراك) وسدده بيد مرتعشة تجاه ثقب الباب وبمساعدة سبابته اليسرى ولج المفتاح داخل فراغه وتم فتح الباب بتودئة بعد عدة محاولات ، وأدخل عبره مخلة التسول والعصا ثم أتبعهما بجسمه المتهالك حتى وصل إلي بحر الباب عندئذ دق رأس العصا على أرضية الكوخ وأنساب بكامل ثقله تجاه الأرضية لليجلس القرفصاء أخيرا بجانب المخلة معلقا كلتا يديه متراكبتين على رأس العصا المدبب، تلك العصا التي يجد فيها هذا الشيخ الدعم الأساسي لعموده الفقري الذي بدأت فقرا ت ظهره تسحب بقية جسمه إلى الأمام بصفة تدريجية ،
فهذا هو الجو العام الذي اقتحمت فيه على هذا العجوز خلوته بعد أن أذن لي بالدخول في مكانه كي أصلي معه فريضة المغرب ، حيث تبادلنا التحية السلام بإيجاز قبل الصلاة وبعد هاأعادني بالسلام مرة ثانية وسألني عن الطواري بصفة عامة ثم بدأيراقص أصابع يديه يتلي أوراده وينفث ما قرأ على سبحته من ادعية ويربت بها على كامل بدنه وبينه مع ثيابه .
وأخيرا سألني مرة ثانية عن إسمي ثم عن قبيلتي ، حيث أجبته على أسئلته تلك بما تبادرلي من أسماء الأشخاص وكذا القبائل . وأخيرا عاد إلي السؤال مرة أخرى عما إذا كنت على علم بتاريخ توزيع الأرض على (الگازرين) في هذه الناحية يعني محتلي أرض الدولة . ولم ينتظرمني جوابا ولم يعلق كذلك عل القبيلة التي أدعيت انتسابي إليها ، ولم يسأل عن أي من مشاهيرها ، بل طفق في إلقاء أسئلته جزافا ، وإن إختلفت في الألفاظ والعبارات فإنها تصب جميعها في قناة واحدة الا هي فمتى يتم توزيع . قطع الأرض على محتليها من سكان علب الصفيح هذه ، وقد جاء دوري أنا الآخر لأسأله عن صحته وعما إذا كان فعلا ينتطر ملكية الأرض بمجرد سكنه المتواضع ذلك الذي يقيم فيه كعارية ، وبعد الإيماءات الإيجابية البطيئة منه لاحظت على صفحة وجهه من خلال ضوء القنديل المثبت على جذاذة خشب صغيرة داخل(البراك ) ، نوعا من استئناس الرجل بي مما شجعني مبدئيا على استغلال تلك السانحة للقيام بالمهمة التي بدأت العمل من اجل تحقيقها .منذ وقت قصير .
بادأته قائلا أتسمح لي بطرح بعض الأسئلة عليك إذا لم يكن في ذلك حرج او مانع ؟ فقال لي إسأل عما شئت، ولكن قل لي فلم هذه الأسئلة؟ تجاهلت مؤقة الرد عليه إلى حين وقلت له ما إسمك؟ وأين ولدت؟ وما تاريخ ميلادك؟ وماهي الأنشطة التي أنفقت فيهاما مضى من حياتك؟ وما هي الأمال التي مازالت معلقة لديك تنتظرتحقيقها؟ وصار عند سماعه سيل الأسئلة تلك يقطب حاجبيه الأشيبين ويقرب بعضهما من بعض ويظللهما بيسراه مكورها عليهما، وكأنه ينظر إلى ماضيه البعيد من خلال أشعة شمس حارقة،ودام ذلك لدى جوابه على كل سؤال من تلك الأسئلة على حدة . وقال في امتعاض ظاهر وفي نهاية المطاف فلماذا كل هذه الأسئلة وما الفائدة المبتغاة من ورائها ، وهل لها علاقة بتوزيع ا لأرض في هذه الجهة من المد ينة؟ فقلت له محاولا إخفاء هدفي الحقيقي الذي جئت من أجله،إن هذه الأسئلة بصفة عامة قد تفيد الناس في حياتهم المستقبلية وذلك لكون كل تجربة إنسانية مهما كانت بسيطة يمكن أن تجنبهم مستقبلا مخاطر كان بالإمكان وقوعهم فيها، لولم يحصلواعلى تجارب من سبقوهم في هذه الحياة العجيبة. ومن جهة ثانية ربما كذلك الحصول على فوائد جمة من هذه التجارب قد تقودهم إلي النجاح في المستقبل البعيد .
وما إن انتهيت من تبريرطرح تلك الأسئلة عليه ، حتى لاحظت ارتخاء أعصابه بعد التشنج الذي كان باديا على قسمات وجهه الشاحب ،وأظن أن سبب ذلك يعود إلى ما استنتجه من سلامة هدفي من وراء تلك الأسئلة، و قال أيها الأخ سوف ألبي طلباتك هذه ولكن سيكون ذلك أثناء تناولنا الشاي معا إن شاء الله إذالم يكن لديك مانع لأ نني لم أشربه منذ الصباح الباكر.
الفصل الثاني :النشأة والبدايات الأولى