في أحد أيام يوليه من سنة 1995 م حيث كنت عائدا من مقر عملي في شارع جمال عبدالناصر وسط العاصمة أنواكشوط ، حيث مكتب المحاماة المشترك بيني مع بعض الزملاءالكرام ، لما أثار انتباهي رجلا هزيلا يبدو من هيأته أنه متسول وذلك من خلال سحنته, تابعته با هتمام إلى حين وُلوجه باب حافلة نقل متوجهة إلي منطقة (توجونين )ولكوني كنت دائماأسائل نفسي عن الأسباب التي ربما ترغم الناس على التسول الذي قد أصبح يتزايد باطراد في بلادنا ، لذلك قررت ساعتئذ بأن أعرف من ذلك الرجل الأسباب التي أدت به إلى التسول هونفسه.
لأستنتج من ظروفه لاحقا مايمكن تعميم بعضه على غيره ! وبعد تمعن في وجه الرجل لاحظت بأنه ليس غريبا علي ذلك الوجه، بل تذكرت أني قد رأيته أكثر من مرة وهو يبادل(مخلة )التسول من منكب إلى آخر محاولا إيلاج بوابات الدكاكين والمنازل.
كما لاحظت ايضامن خلال قسمات وجهه ذي الملامح المتداخلة ،كلوحة فنية عبث بها رسام مبتدئ ، وكذابنبرته الصوتية الخافته وكأنه يكتفي بتلك الخصائص المتميزة للتأثير بها وحدها على مستقبليه من أجل جر عطفهم لكي يواسونه بأوراق نقدية أو قطع من السكر نظيفة قابلة للإ ستعمال ،ولقد تذكرت بأني قابلته أكثر من مرة في معظم أحياء العاصمة وفي الطرقات العامة و ساحات المساجد أيام الجمعة والأعياد و هو ينافس المتسولين من مختلف الأعمار والأجناس بحاله ذلك الذي يدعوا إلى الشفقة ، كما يبدو من هيئته المتغيرة تلك التي تجعلنني أكاد أنساه كلما سافرت خارج العاصمة ، إنه يختلف عن معظم المتسوليين ، سواء منهم أولئك الذين يتسولون لأنفسهم، أو لغيرهم، بميزة أساسية ألا وهي كونه لا يرغب في شيئ محدد بذاته.
بل أظنه يسأل كمايبدو من أجل البقاء، ولكن لا أدري إلى متي سيظل أمل البقاء قائماً لديه ! إنه أمامي هذه اللحظةعلى حين غرة مكوما جسمه على تلك العصا المكعبة وقد أسند جبينه على مقبضها ، إنه كمايبدو مستغرقا في التأمل على المقعد الخلفي للحافلة الرابطة بين مدينة 3 ومقاطعة توجنين, وأخيرا قد انتبه من غفلته تلك شبه مذعور كمن كانت تخنقه كوابيس النوم المزعجة ، وذلك قرب الحي الإداري بتجنين لليسأل مساعد الحافلة عما إذا كان قد اقترب من محطة بنزين بوحديدة ، ولما أخبره بأنه تجاوزها كثيرا حينها تحركت سبحته لاَ إراديا بين أصابع يمناه وحوقل وتاب إلى الله ولعن الشيطان الرجيم الذي أنساه وأبعده تلك المسافة عن مقر سكنه البعيد من ذلك المكان. حيث توقفت الحافلة في مكانها خلال ثوان لما دق أحد الركاب سقفهابقطعة من النقود المعدنية تلك اللغة التي تفهمها جيدا ، حيث نزل ذلك الراكب ثم تبعه الشيخ متحركا من مقعده ساحبا جسمه النحيف مستعينابعصاه تلك التي يجس بهانبض كل شيئ ، وكذا أي موطئ قدم يطؤه. إنها كما يبدو تعد مرشده الوحيد في هذا الوجود.
ولما وصل حافة الحافلة نزل ودق رأس العصا في الأرض للينزل بقية جسمه متوكئا عليها وترك مخلته بجانب مقعده للينزلها مساعد الحافلة لاحقا على أثره وبقى لحظات متأرجحا بين الوقوف والجلوس يقلب أصابع يديه في جيوب( دراعته )الرثة بعثا عن قطقة نقود متجسدة لليسدد بهاأجرة الحافلة.
وأخيرا وبعد لأي ، عثر على صرة خفيفة من النقود تحتوي على وحدات من فئة أوقية واحدة ، جمع منها عشرا وطبعها واحدة بعد أخرى في كف مساعد الحافلة دون أن يستفزه بشتى أنواع العبارات المرفقة بالتأفف وعدم الأحترام.
الجزء الأول محاولة استئناس الرجل ومعرفة نشأته :
وتحت تأثير ذلك المشهد أللا أخلاقي وقبل أن تتحرك الحافلة من مكانها قررت الهبوط خلف الرجل في ذلك المكان.
الفصل الأول مرحلة التعارف والنشأة :
(يتبع)