تصريحات الأمير ويليام الانجليزي خلال زيارته للمركز الثقافي الأوكراني في لندن بخصوص الحرب الأوكرانية، بإن “البريطانيين اعتادوا أكثر على رؤية الصراع في إفريقيا وآسيا،” و “إنه لأمر غريب جدا رؤية هذا الأمر في أوروبا،” جاءت تعبيرا صارخا عن النظرة الاوربية المركزية الى العالم. هذه النظرة الناتجة عن عقلية استشراقية فوقية عنصرية متأصلة عند الغرب. بحيث ترى ان الحروب والأزمات لا تحدث داخل أوروبا “المتحضرة،” وانما خارجها ضمن عوالم أولئك الملونين من غير ذو البشرة البيضاء “غير المتحضرة.” هذه الثنائية الاستشراقية العنصرية، التي كانت تتخفى وراء منظومة “أخلاقية” خادعة يتغنى بها الغرب، والشعارات الزائفة التي كان يرفعها ب “نصرة الديمقراطية وحقوق الانسان والحريات في العالم،” انكشفت عورتها جميعا في الحرب الروسية-الأوكرانية.
تبني هذه العقلية الغربية العنصرية ثنائية من الشرق “المُتخلف” مقابل الغرب “المُتحضِر،” كسبيل لتوطيد هيمنتها الفكرية والثقافية ونشر أيديولوجيات تتماشى مع أهدافها الاستعمارية. وتغوص هذه النظرة عميقا في التاريخ الأوروبي وتتجذر في مجتمعاته. والغرب هنا لا يعني الجغرافيا فقط، بل يتعدها الى الدلالات الرمزية والمجازية الظاهرة، والمستترة في مسامات المجتمعات الغربية البيضاء، وخصوصا في ثنايا “اعلامها” المتحيز. بحيث يعكس كيف يرى ويفهم ويتعامل الذات “الأبيض” ويربط الأمور مع ما يشبهه، ويرفض بالمقابل ما يختلف ويتمايز عنه. فيقوم بخلق “اخر” ملون، يسقط عليه كل ما يكرهه ويرهبه ولا يأتمن جانبه في كل مجالات حياته. وتطفو هذه المفاهيم والقيم والاخلاقيات الى السطح بشكل ملموس في “الاعلام” الغربي في حالات الصدمة والخوف والضعف وانعدام الأمان، تماما كما عبر عنها الأمير ويليام بوضوح باهر.
ومن الجدير ذكره ان آلة الغرب العسكرية تصطحب الاعلام الغربي التابع لها حيثما تذهب كجزء حيوي من ترسانتها الحربية المدمرة. فيقوم هذا “الاعلام” الحربي بدك العقول بقنابله وصواريخه من اجل تهديمها والقضاء عليها. وذلك بنفس الطريقة التي يتم بها احراق المنشآت والمدن والقرى والناس بأسلحته الفتاكة الأخرى. ويقع تحت تصرف هذا “الاعلام” مخزون كبير من الذخيرة الحية تنتجها مصانع جاهزة وعالية التمويل، من مؤسسات الأبحاث، ودور النشر، والاستوديوهات وصناع الأفلام، واصحاب الأقلام المأجورة. وتعمل هذه المعامل على إبقاء هذا المخزون مزود بالذخيرة الحية من التضليل الإعلامي، والشيطنة، والفيديوهات المفبركة، والتقارير الملفقة، والروايات المزيفة، وتغييب الحقائق، بكل الاحجام والانواع. بحيث تناسب كل اصناف العقول والنفسيات والمجتمعات المستهدفة. فحيث تكون آلة الحرب الغربية يكون “الاعلام” الغربي،” من اجل مساعدتها على تحقيق أهدافها التوسعية الاستعمارية.
فعندما نشاهد المراسلين الغربين يصفون بقلب حزين مصدوم أوضاع اللاجئين الأوكرانيين، ويقولون عنهم بكل صراحة فجة ووقاحة بأنهم “ليسوا لاجئين من سوريا او أفغانستان او افريقيا،” وانهم “مسيحيون، وأناس أوروبيون، بعيون زرقاء وشعر أشقر يقتلون،” نصل الى حقيقة واضحة، ان هؤلاء المراسلين يتحولون في مفاهيم الحروب الجديدة الى جنود في آلة الحرب الغربية. فهم لا يفتؤون يدعمون حروب الامبريالية لأكثر من مئة عام خلت. حتى قناة الجزيرة الإنكليزية لم تسلم من هذه العقلية العنصرية في تغطيتها. فقد أرغمت على الاعتذار بسبب التصريحات “الخالية من الحساسية” التي أدلى بها مذيعها حول اللاجئين الأوكرانيين. وبالتالي، ليس هناك اعلام غربي حر في السياسات الخارجية للغرب. هذا الاعلام خاضع لتوجيه الحكومات الغربية. وعندما نغوص في البحث لفهم من هي هذه الحكومات، ومن يملك المؤسسات الإعلامية، نكتشف ان كليهما مملوك وخاضع لنفس الشركات العابرة للقارات ونفس رأس المال.
أحد السمات العنصرية الواضحة في “الاعلام” الغربي هو الكيل بمكيالين. فلم يحظ النضال الوطني الفلسطيني لمئة عام خلت ضد الاستعمار والمعاملة الوحشية الصهيونية بنفس التغطية “الإعلامية” التي حاز عليها الاوكرانيون في أسبوع واحد. بل ان ما حصل هو العكس تماما، فقد قاموا بوصف الفلسطيني ب “الإرهابي المجرم” وهو المدافع عن وطنه وحريته وكرامته، بينما وصفوا الاوكراني ب “المدافع عن الحرية والمظلوم”. والأمريكي البشع، الذي قتل ما يزيد عن مليوني عراقي ومئات العلماء العراقيين، ودمر حضارة العراق التي تعود لخمسة آلاف عام قبل الميلاد، فهو في نظرهم “يدافع عن الحضارة الإنسانية ضد الهمجين.” بالإضافة الى ان الشرعية الدولية و”الاعلام” الغربي لم يقم بأي شيء يذكر لذم وتعرية الفواحش وجرائم الحرب التي ارتكبها الغرب عموما في معظم ارجاء العالم النامي في بلدان اسيا وافريقيا وامريكا اللاتينية.
عندما تُكال الشرعية الدولية بمكيالين، ويتسم ميزانها الملتو المنافق بالانحياز العنصري للمجتمعات الغربية بهذا الشكل المعلن، تداس القيم والأخلاق والإنسانية، وتسحق العدالة والحق، وتتجبر القوة.
ان العنصرية الغربية وتصنيفها للإنسان وفقا للون والعرق والدين كان من أقبح ما كشفته الحرب الروسية-الاوكرانية عن طبيعة المجتمع الغربي. فهذه العقلية وهذا التصنيف يحطم كل المقاييس التي لطالما تغنى بها الغرب وتستر خلفها ب “الدفاع عن قضايا الشعوب والديمقراطية والقيم الإنسانية.” ان الادعاء بتبني الغرب لهذه القيم والمبادئ يسقط ويبان زيفه عندما يتم تجاهله من قبل النظام العالمي ومنظومة مبادئ حقوق الانسان، التي يشهرها الغرب دائما بوجه الأنظمة المناوئة له، او التي يرغب في تركيعها، وتحديدا في منطقتنا العربية. هذه السياسات والعقلية العنصرية لها تداعيات خطيرة على المجتمعات الغربية نفسها، فغالبا ما ترتد عليها في حالات الانهزام والتراجع.
ان تمدد اليمين المتطرف وتزايد انتشاره واقترابه حد التماهي مع اليمين التقليدي، يحمل في طياته مخاطر فعلية على المجتمعات الغربية. فهي تعاني من أزمات وانقسامات داخلية حادة مستعصية. ويحمل صعود اليمين الفاشي وشعبيته المتزايدة احتمالات باتت جدية بعودته إلى حكم أوروبا. فالذي رأيناه في امريكا من احداث شغب وتمرد في أواخر فترة رئاسة “ترمب،” يؤشر الى إمكانية حقيقية لحدوث انتحار مجتمعي ذاتي، من حرب أهلية، وتمرد وشغب مدمر، وانفصال وتفكك امريكي، ومثيل ذلك في اوروبا.
دول أوروبية كثيرة كانت قد عانت تاريخيا من عنف اليمين المتطرف. وهذا من قبل ان يكون لهذا اليمين هيكليات وتنظيمات عسكرية. واليوم تطور هذا اليمين ونما وانتظم في هيكليات عسكرية ميلشياتيه. وقد اندمج بعضها في جيوش أوروبية رسمية، مثل كتيبة “آزوف” الفاشية في الجيش الاوكراني. وقد كشفت هذه الحرب مدى التنسيق والدعم المتبادل العالي بين هذه الميلشيات الفاشية على المستوى العالمي. وإذا استمرت أوروبا بتنفيذ إملاءات أمريكا كمل تفعل الان حيال الحرب الروسية-الأوكرانية، واستمرت بممارسة هذه السياسات العنصرية التي تذكي صعود اليمين الفاشي، فأن الاتحاد الأوروبي سيتفجر من الداخل. وعندها تصبح اوروبا دول متصارعة، وتتحول الى ساحات معارك عالمية، كما كانت عليه خلال الحقب النازية والفاشية العائدة اليها بقوة. ونحن نسمع ونرى ونحس بهذه الفاشية من خلال اظهارها لمشاعر الكراهية للأجانب، واضطهاد المهاجرين، والخطاب العنصري ضدهم، وانتشار الرهاب الإسلامي بينهم بشكل كبير.
إننا لا نخفي انحيازنا لروسيا بغض النظر عن حيثيات الصراع وتفاصيله بينها وبين أوكرانيا. وذلك لسبب بديهي هو اننا نعرف الغرب. فقد عهدناه وخبرنا سياساته بالتغول والبلطجة والدموية على العالم. ولمسنا خطابه العنصري وكيل اعلامه بمكاييل مختلفة ومتناقضة بالجسد والروح. وقد دفعنا بالدم الغالي ثمن ظلمه وبطشه وحروبه ودمار آلته العسكرية المتوحشة. وبذلنا الألم الكثيف والتضحيات الجسام من ظلم الغرب على مر العصور بما لا يقدر ويحصى. فيأتي تعاطفنا مع الروس بالعقل والقلب تعاطفا انسانيا، ووطنيا، وقوميا، ومصلحيا.
ميشيل شحادة كاتب فلسطيني