لا تغفر السياسة الأمريكية الأوروبية للدول أن تمارسَ ديموقراطيةَ الاختيار فهذه الدول إما مع الغرب و إلا عليهِ. إما مُتسربلٌ ثوب الولاء و إما عليك أن تعتمرَ خوذةً سميكةً. لن يأتي لك الولاء إلا ربما بِكَفِّ الشَّر و رزمةٌ من المستهلكات و ستأتي لك المعارضة بكثيرٍ من الآلام. السياسات الغربية قد خلقت بالفعلِ عالمين عندما طبعت كل ما هو روسي، حتى القطط و الروايات، بأنه الشر. الروسي في هوليوود، التي تؤثرُ على العقول، جَلْفٌ يقتربُ من الغباء أو مافيوزي يتاجرُ بالسلاح والمخدرات والنساء. في النهاية يخسر أمام الشريف المبدئي الظريف الوسيم. عندها بالبديهة، أن كل ما و من هو ضد روسيا فهو الخير و من هو معها فهو الشر. لكننا سنكون سُذَّجاً إن اعتقدنا أن سياسات التكريه و التشويه و الحصار والعقوبات هي وليدة الحدث الأوكراني فهي في الأدراج تتطور باليوم تنتظر اللحظة. وهو ما يؤكده التصميم التاريخي لشيطنةِ روسيا و تهيئةِ الرأي العالمي، حتى الجاهلَ منه، لتَبَنِّي هذه الوجهة حين تهِلُّ اللحظة المناسبة. هل من يشك بوجود خططٍ مماثلةٍ للصين؟ بالطبع، وللبلدان التي قد تفكر بالاعتدال، وليس الانحياز. في علاقات هذه الدول مع السياسات الغربية هي إما طائعةٌ وإما شيطانةٌ. آلةُ الشيطنةِ الغربيةِ لأعدائها ومنافسيها كونيةٌ و شاملةٌ تستخدمُ ما يخطر و ما لا يخطر على البال. قد نقرأ غداً أنهم منعوا الكلاسيكيات الموسيقية الروسية. التحضيرُ لهذه اللحظات يبدأ مبكراً جداً. بالنسبة لروسيا و الصين يبدو هذا واضحاً فهما العدوان الكونيان للغرب. لكننا نعلمُ أننا في الخطط ذاتها منذ الأزلِ الروماني. حروب التوابل و القدس و الممرات البحرية و النفط و اليهود المظلومين و الاستقلال و الاشتراكية و الإرهاب و الربيع و الطائفية كلها أسبابٌ منطقيةٌ للغرب ليقول لنا أننا لا نغيبُ عن المخطط. لا أدري كيف نُهمِلُ تصريحاً واضحاً من الجنرال الأمريكي المخضرم ويزلي كلارك حول النوايا الأمريكية بغزو العراق و سوريا و غيرها قبل الغزو بمراحل. كانت الخطط جاهزة وتنتظر القرار. منذ رُسِمَتْ الخطوط المستقيمة بيننا و قالوا أنها الحدود من يحاول الإفلات سيلقى مصائر لا تسر. لا تزال السياسة هذه هي السائدة عندنا وعند غيرنا من المتجرئين على السادة. العربُ في الإعلامِ الغربي إمَّا قفاطينَ أو دشاديشَ بلهاء أو مُلتحينَ كومبارس في قصةِ النصر على الإرهاب. و لدى الروس خططاً هم الآخرون وغزواً ربما أدنى درجةً مما غزا الغرب لكنهم بمناطق نفوذهم منذ الإمبراطوريات و الستالينية و حتى الزمن الحالي فعلوا اللازم و قهروا شعوب. ربما لم تأتِ غزوة أوكرانيا من عدم فهي نتاج الحماقات الغربية على الشفير الروسي و كانت تُحَمَّلُ بحزمةٍ من المهددات التي لم تستسغها روسيا، فَحَيَّدَتْها. و نفترضُ أنها استعدت للتبعات.
اليوم انقسم العالم في الظاهر بين معسكر الغرب و الروس. نعود الأدراج عقوداً خلت و لا نسمعُ أن الخط الهاتفي الأحمر بين موسكو و واشنطن قد أستُخْدِمَ ليبني نوعاً من التعايش فالأيام تعود مع تفوُّقٍ عدديٍّ غربي حين انضمت للاتحاد الأوروبي و الناتو دولاً كانت في حضن الاتحاد السوفييتي و حلف وارسو و هذا يُشْعِرُ الغرب أنه متفوق. و إن كان تصويت الجمعية العمومية يدلُّ على اتجاه، فمعظم العالم يقف ضد اجتياح أوكرانيا، و بالتالي ضد روسيا. و لو بوسع الغرب لطردَ روسيا ونفاها من العالم. و في التصويت هذا كانت مقايضاتٌ. بعضها هزيلة لا تليق بدولةٍ مثل روسيا لكنها السياسة. أسماكٌ صغيرة في عالم الحيتان. و الغربُ يقولُ في النهاية أنه الحاكم.
غريبٌ أن تتوقع روسيا اصطفافاً معها بتصويتٍ لا يقدم أو يؤخر و لكن الغرب يطلبه بل لا يتوقع غيره و يفرضه. و الغرب لا يتراجع و لا يهابُ اتباعَ سياسةَ عَلَنيةِ التخويفِ والعقاب مع الدولِ التي تبدو مستقلةً بقراراتها. في نظر الغرب واجبُ هذه الدول أن ترضى عن سرورٍ بالانحياز لهُ لأن الغرب يُمَثِّلُ العدالة و حقوق الإنسان. و روسيا، و من معها، الشَرُّ بعينهِ. لا يهم إن ظهرت عنصريةٌ في التعامل مع الهاربين، و بين النزاعات، طالما يتعاملُ معها الإعلام الحُر ليطمسها و طالما لا تعترف بها الحكومات الغربية. الحقيقة هي ما يقولهُ الغرب و ما سواه أكاذيب. و علينا و غيرنا ممن يقول كفى أن نرضى أننا لا نتساوى معهم. لا في الحقوق و لا في السيادة و لا في حق الدفاع عن النفس.
كثيرٌ من الدول التي ننحدرُ منها تجدُ راحةً في تبعيتها الغرب حتى لو تجرعت منه العلقم. كأنه استلذاذ الألم. و لِنُقْرْ أن اللادا الروسية لا تنافس الجاغوار البريطانية و لا التيسلا الأمريكية! و قِسْ على ذلك لفيفُ المشتريات و المُلهياتِ التي تُرْضِي غرور العالم و التي لا تستطيع روسيا أن تنافسها. حتى اللقاح الروسي ضد الكوفيد لم يَطُلْ قامة الڤايزر. و سياسة التسمين بالماكدونلدز و الستاربكس لا ينافسها مثيلٌ روسي، و لا التشبيك بالواتسآب و الإنستاغرام. و كلها أسلحةٌ بيدِ الغرب هي بين الترغيبِ والترهيب. لاحظَ من كتبَ يدعم فلسطين أنهُ وجدَ نفسه محظوراً، وها هي روسيا تُحظرُ كذلك. الرسالة المرسلةُ للعالم هي أن الاصطفاف مع الغرب يحملُ معهُ مكافآتٍ ليس أقلها التنعم بالمستهلكات وأن الاصطفاف مع غريمهِ سيأتي بوابلٍ لا ترغب به الدول و الأفراد من المنغصات. هذا هو الدرس الذي يريدُ الغرب من العالم فهمه.
لكن الذي يديه في نار الغضب الغربي لم يتخلف عن دعم روسيا و هناك من امتنعَ فصار بِحَسَبِ الغرب أقربَ لروسيا منه للغرب. و هكذا يتكون في العالم محورين واحدٌ مع روسيا و واحدٌ مع الغرب، و واحدٌ ليس محوراً و هو صامتٌ و آملٌ أن تنتهي الأزمة قبل الاضطرار لأخذِ موقفٍ أوضح بين المحورين. لكن العالم كان فعلياً انقسم وهو فقط كان في حالةِ انتظارٍ رهينَ اللحظة التي يفرغَ فيها صبرَ أحدهم من الغرب. سَئِمَ الروس من السياسات الغربية و التصريحات المهينة كذلك. ألم يَصِفْ الرئيس بايدن نظيرهُ الروسي پوتين بأنه سَفَّاح؟ فعلَ ذلك و لم يعتذر. و لطالما رأت روسيا في التمدد الأطلسي بأوروبا تهديداً لن تقبله و في التفاف القواعد الأمريكية حولها في أوروبا وآسيا إصراراً على تحجيمها إحكام الطوق عليها. و رأت كذلك تواتر العقوبات إمعاناً للإيذاء و لكن أيضاً لاستصغار روسيا بمتواليةٍ من التحركات التي يعتقدُ الغرب أنها تبعث لروسيا رسالةً عن حدوديةِ قدراتها. و مهما كانت نتائج الصراع الحالي في أوكرانيا فإن الغرب لن يعود عن سياساته المعادية لروسيا وسيسعى بكل السبل لتغيير مسارها الپوتيني. “إغتيال پوتين” هو آخر ما تفتقت عنه العقلية المتطرفة للشيخ الحقود ليندسي غراهام في الكونغرس. التغيير بالإغتيال جزءٌ مهمٌ و فعَّالٌ في السياسات الدولية و كم من زعيمٍ ذاقَ محاولات الاغتيال. ربما أنجحها و أشهرها زعيم تشيلي سلڤادورآييندي لصالح الفاشية المدعومة أمريكياً. في المقابل لن تغمض عينٌ روسيةٌ عن الغرب في أوروبا و آسيا و البحار الممتدة و لن تهدأ عن استخدام كل الأسلحة المتاحة. نكادُ نستنتج أن المحورين يتوقان للحرب القادمة و إن كانا يفضلان انهياراً غير نووي السبب إن أمكنهما تدبيره. فالعالم لم يعد يتسع للتنافس و نفدَ الصبر و من الآن فصاعداً إما نحنُ و إما هم. ليست رأسمالية ضد شيوعية بل أعمقَ بكثير. كأنها نزاعُ السادة و الرعاع.
يقول المثل أن العشبَ و كل صغير لا بد أن ينهرس تحت أقدام فيلين يتقاتلان. فما بالك بثلاثة أو أربعة أفيال تتقاتل. هل نتخيلُ مقدارَ الهرس إن انجرت الصين و كوريا الشمالية و الهند و الباكستان و إسرائيل كُلٌ حسب مصلحته المُبتغاة لصراعٍ كلاسيكي أو نووي، حيث هي الدول النووية المعروفة، بالإضافة للصراع الأكبر بين روسيا و الغرب. و ما بالك بفتحِ الشهية لدولٍ ليست نوويةً أن تبتلع دولاً منافسة تحت جُنْحِ صراعاتٍ عاصفةٍ. في إفريقيا على سبيل المثال. تكرار التوتسي و الهوتو. ستكونَ جَنَّةَ نوستراداموس و سلفهِ البلغارية أن تتحقق كوابيس نبؤاتهما. و لربما نهاية العالم كما نعرفه.
ما ينتجُ من أوكرانيا هو أن يتكوَّرَ كل محورٍ على نفسه و حلفاءه و يتحين الفرصة ليُنهي الطرف المعادي. و سيشهدُ العالمُ لذلك صراعاتٍ دون حَدِّ العراكِ النووي امتداداً للنفوذ، و بالتالي حدوداً مشتعلةً و أُخرى ستنكسر و سنرى تَلَّوي الدولِ باحثةً عن ملاذاتٍ آمنة. هي نتيجةٌ حتميةٌ لما يحدث. لن ينسى الروس سيل الإهانات و العقوبات ولن ينسى الغرب الغزوة الروسية و ستقتنص الفرصة كل عقليةٍ في مكانٍ ما تعتقدُ أنها قادرةٌ أن تنتصر.
كلمةٌ أخيرة عن الإنسانية. نتعاطفُ مع الذين يعانون؛ بلا حدود. هم الضحايا بلا شك. وكيف لا؟ فنحن كنا و لا نزال الضحايا الأزلية. نتعاطف كذلك مع زملاءَ لنا في الغرب، و نحن ننتقده بشدة، شاءت الأقدارُ أن تكونَ منابتُنا و منظومة إيماننا قد وضعتنا على طرفي المعادلة. كلما اجتمعنا سمعنا منهم عن استيائهم من حكوماتهم و سياساتها و سمعوا منا حُجَجَ المظلومين المغلوبين على أمورهم. و اتفقنا أن للزمالةِ روحٌ تسمو فوق الخلاف الصراع الذي لا قرار لنا فيه. وأن ليس على الأرضِ سلام.
علي الزعتري كاتب ودبلوماسي اردني