نعالج فى هذه المقالة تقييم الصراع وأطرافه وموقف العرب وإسرائيل من هذا الصراع وأهداف الصراع النهائية.
من المعروف أن الولايات المتحدة والغرب عموما يتصارع مع روسيا منذ القرن الثامن عشر عندما كانت بعض الدول الأوروبية دولا استعمارية كبيرة فقد تحولت روسيا من امبراطورية اقطاعية إلى دولة شيوعية عام 1917 وقد حصرها الغرب لكى يقضى عليها فى مهدها ولكن الاتحاد السوفيتى طور قدراته وانتهج نظرية نقل الثورة إلى دول أخرى ولم تفلح اجراءات الغرب وعزله للاتحاد السوفيتى وعدم اعتراف واشنطن به حتى عام 1933 عندما شعرت واشنطن أن الاحداث فى أوروبا تتطور بسرعة بعد وصول هتلر إلى الحكم وتحديه لأوروبا كلها ولصلح فرساى واقدامه على مجموعة من الاجراءات التى تراجعت بريطانيا وفرنسا امامها كان ذلك أحد أهم العوامل التى دفعت واشنطن إلى الاعتراف بالاتحاد السوفيتى وبالفعل صح توقع واشنطن لمستقبل الاحداث حيث اجتاح هتلر السهول البولندية واحتل بولندا وهولندا وفرنسا وبلجيكاوتحول من هدف استرداد الكرامة الالمانية الي الانتقام حتي من دول لم تشترك في ظلم المانيا والاخطر انه تبني نظرية عنصرية تقول بسمو العرق الآري وتوسع في الهيمنة وتجاهل موازين القوة حتي ذهب البعض الي تشبيه يوتين بهتلروقد يكون ذلك صحيحا نسبيا ولكن التفاصيل تناقض ذلك. فالصراع اساسا هو بين روسيا وامريكا علي المسرح الاوكراني . يقول بوتين بحق أن الغرب يترجم حقده على روسيا ويستخدم أوكرنيا منفذا للتأثير على وجود روسيا أكثر من تقليص نفوذها كدولة عظمي ولذلك اضطر إلى هذه العملية الجراحية لاعتبارات أمنية. وبوتن محق فى أن أوكرنيا التى كانت عضوا فى الاتحاد السوفيتى ولم يتم الفصل الكامل بينها وبين روسيا فاحتفظت ببعض أنواع القوة العسكرية من أيام الاتحاد السوفيتى وهذا هو السبب فى حرص الغرب على قلب الحكومة الموالية لموسكو عام 1991 فيما عرف بالثورة البرتقالية وهو نفس العام الذى تولى فيه بوتن حكم روسيا فقضى على مهددات الأمن الروسى مثل قضية الشيشان ثم أنه كعضو فى الكجي بى يدرك تماما أن الاتحاد السوفيتى قد تمت خيانته وأنه يريد أن يعيد الاتحاد السوفيتى كقوة عظمي بدون الشيوعية وأن يحل محلها القومية المتطرفة وفى هذا يتشابه مع هتلر. فالصراع بين روسيا والغرب هو صراع على المكانة فى النظام الدولى الجديد ولوقف محاولات الغرب تقويض الاتحاد الروسى كما قوض الاتحاد السوفيتى وهذا هو السبب فى أن بوتن يبرر دكتاتوريته فى الداخل بحيث تتماهى الدكتاتورية مع الوطنية وهذه النقطة من المآخذ الكبيرة التى يأخذها الغرب على روسيا ثم أن روسيا بوتن تتحالف فى جبهة عريضة مع الصين وإيران وكوريا الشمالية ولا يعرف على وجه التحديد مصير الصراع العسكرى فى أوكرانيا ولكن الواضح هو أن بوتن استغل تراجع النفوذ الأمريكى ولاحظ المؤشرات وآخرها الانسحاب الفوضوى من أفغانستان.
فإذا نجح بوتن فى فرض شروطه على الغرب من خلال غزو أوكرانيا فإن نظاما جديدا سوف يحل محل النظام الحالى الذى يتأرجح فى التشكيل منذ الحرب العالمية الثانية وللأسف هذا النظام ستكون القوة العسكرية هى المرجح والآداة الاساسية لتسوية المنازعات وسوف تتراجع مبادئ القانون الدولى القائمة على سيادة الدولة ووحدة أراضيها وسوف تتراجع أيضاً أثار العقوبات وأدوات الردع الناعمة فى العلاقات الدولية وأما إذا فشل بوتن فى ذلك بفعل الضربات المتلاحقة من العقوبات على روسيا فإن النظام الدولى الحالى سوف يستمر بقلقه وعدم استقراره.
ومن الواضح أن المسرح الدولى الحالى يختلف تماما عن المسرح الدولى عام 1939 فقد تحصن هتلر بإيطاليا واليابان وهى دول المحور وكانت ألمانيا هى آخر دول المحور التى سحقت بسبب انضمام الاتحاد السوفيتى إلى التحالف المناهض لهتلر والسبب المباشر فى أنضمام موسكو إلى الغرب هو اقدام هنتلر على غزو الاتحاد السوفيتى رغم أنه أبرم معاهدة عدم اعتداء بين البلدين حملت أسم وزيرى خارجية البلدين.
موقف إسرائيل والعرب من صراع الكبار لتغيير النظام الدولى:
يبدو أن النظام الحالى مفيد لإسرائيل لأنها أرست علاقات سابقة مع موسكو فى سوريا تمكنها من الاغارة بشكل متكرر على مواقع القوات الإيرانية فما يهم إسرائيل من هذا المشهد كله هو منع إيران من حيازة السلاح النووى ولذلك نلحظ تفاوتا كبيرا بين رؤية مراكز البحوث الإسرائيلية التى تنصح بالحياد فى هذا الصراع وتلحظ أيضا بقلق تراجع الهيبة الأمريكية وتقوية النفود الايرانى فى نهاية المطاف والملاحظ أيضا أن حلفاء روسيا لم يحددوا موقفهم من الصراع وسكت العرب تماما فى هذه المأساة ولكن معظم الرأى العام العربى غير الإسلامى يؤيد روسيا كراهة فى أمريكا وليس حبا فى روسيا ذاتها.
أما التيارات الإسلامية فى العالم العربى فترى أن بوتن ورط روسيا فى صراع مفتوح ينتهى حسب أمالهم فى اختفاء القوة الروسية من المسرح الدولى وعلى أى حال لم نلحظ مواقف معلنة من التيارات الإسلامية أو من العواصم العربية التى أن نطق منها أحد فانه يطالب الطرفين الروسى والأوكرانى بضبط النفس علما بأن أوكرانيا ليست طرفا فى الصراع وانما هى مسرح له.
أما إسرائيل فقد حسم وزير خارجيتها الموقف بإصدار بيان ينتقد فيه الهجوم الروسى على أوكرانيا ويطالب بالمحافظة على وحدة أوكرانيا وسيادتها الاقليمية دون أن يدين روسيا ولكنه ألمح إلى أن إسرائيل لن تخذل الولايات المتحدة فى هذا الموقف ولا نعلم على وجه اليقين الترجمة العملية لهذه الاشارة.
أما تركيا فإنها فى موقف حرج لأنها تؤيد موقف أوكرانيا ولا تريد فى نفس الوقت أن تصطدم بروسيا وقد حافظت حتى الأن على حيادها كعضو فى حلف الناتو وقد رفضت تركيا طلب أوكرانيا منها منع البوارج الحربية الروسية من عبور المضايق فى البحر المتوسط إلى البحر الأسود واستندت تركيا الي اتفاقية لوزان التى ينتهى العمل بها عام 2023 وتطلق يد تركيا الحديثة ولا يحتمل أن تخاطر تركيا بالانحياز للناتو وواشنطن ضد روسيا لأنها تدرك جيدا أن مصالحها الأمنية والسياسية والاقتصادية مع روسيا كما أن مواقفهما فى الساحة السورية متناقضة ولكن نشعر بأن تركيا كما سبق أن ذكرنا فى مقال سابق تسير بين روسيا وأمريكا على حبل مشدود.
أما العالم العربى فسوف يتأثر بشدة بهذا الصراع فى نقطتين الأولى هى الهيمنة الأمريكية على كل العالم العربى ولا يعرف أن فازت روسيا فإن هذه الهيمنة ستضعف دون ضمان بأن تسري النتيجة علي العرب .
النقطة الثانية هى اعتماد العالم العربى كله على القمح الروسى والاوكرانى فقد تستفيد قطر إذا قررت روسيا منع الغاز عن أوروبا ولكن روسيا أعلنت حتى الآن انها لن تقوم بذلك وانما ستصدر الغاز عبر تركيا بديلا عن أوكرانيا أو عبر أوكرانيا بعد السيطرة عليها من خلال الغزو .
وعلى كل حال فإن هذا الصراع يعتبر الحرب العالمية الثالثة فى نتائجه وليس فى ساحاته وسوف يطرح تحديا كبيرا فى العلاقات الدولية فى المستقبل وهو كيف نرد ونكبح القوة النووية إذا قررت شيئا يؤدى إلى زيادة نفوذها.
والخلاصة أن الصراع الحالى سوف ينهى النظام العالمى القائم ولكنه لن يخلق نظاما عالميا جديدا وسوف يعيش العالم فى فوضى دولية إلى أن ينشأ نظام عالمى مستقر وهذه فرصة لمصر والسودان أنها تستطيع أن تستخدم القوة إذا استطاعت ضد أثيوبيا حتى تؤمن حقوقها المائية فى نهر النيل بدلا من أرغام أثيوبيا على احترام قواعد القانون الدولى للانهار الدولية التى يتوقع أن تتراجع ويتراجع الاحترام لها بعد أن يهدأ غبار هذا الصراع بين روسيا والغرب وقد تلجأ الصين أيضا إلى غزو تايوان وفى هذا مزيد من الضربات للولايات المتحدة ومن المتوقع فى ضوء ذلك أما أن يزيد التحالف الغربى تماسكا أو أن يتفكك ويصبح المحيط الأطلسى فاصلا وحاجزا بين الولايات المتحدة وبين حلفائها فى أوروبا.
وفى كل الاحوال فإن هذه التطورات تلقى الرعب فى قلب إسرائيل ولكنها لا تلقى الطمأنينة فى نفوس العرب .
السفير د. عبدالله الأشعل كاتب ودبلوماسي مصري