لحسن حظّي أن ظروف العمل قادتني في أواخر العام المنصرم، لا أسف عليه، الى باريس. ولجميل طالِعي أن العامَ الجدّيد صبّحني بالشمس التي تسلّلت من بين الستائر باعثة رسالةَ صيفٍ ونحن في أوج الشتاء، وغالبا ما يكون الطقسُ الباريسي هذه الأيام جائرا بصقيعه وأمطاره الغزيرة أو ربما بالثلج. وما عجزت عنه الشمسُ التي جاءت جميلة هذا الصباح في غير موعدها كحبيبة ساحرة لم ننتظر قدومها، أدفأته رسائلُ الأحبّة التي كان بعضُها نَسْخاً ولَصْقا، وكثيرُها مكتوباً بعبارات القلب والروح.
صباحُ الخير أيها العام الجديد. سنُحسِنُ الظنّ بك رغم اشتعال الحرائق في كل ما حولنا. اسمك جميل 2022، تكرّر فيه الرقم 2 ثلاث مرّات، هو بحد ذاته يدفع الى التفاؤل. يبدو أنّ لتكراره ثلاث مرّات، رسائلَ واضحة. فالحبّ لا يكون الا بين إثنين، والعلاقاتُ الاجتماعية والإنسانية الصحيحة لا تقوم بين الفرد ونفسه وإنما مع آخر أو آخرين، والاتفاقات لا تستوي الاّ بين طرفين ولذلك يُقال إن رقصة ” التانغو” تحتاج لإثنين. أنت تُبشِّرُنا إذا بإمكانية التآلف في عهدك، والتقارب بين أيامك، والحبّ في كل ثوانيك.
في عِلم الأرقام، يقال إن الرقم 2 يعني الثنائية والتبادل والتصالح وفهم الآخر والتوازن والانسجام مع الكون، لا بل أن البعض ذهب الى حدّ القول إن الملائكة يُؤثِرون الرقم 2 على غيره من الأرقام في علاقتهم بالبشر. لنتفق إذا أنت ونحن بني البشر بما أننا طرفان، على أن نرى منك حسنَ طلّتِك وبهاء سماتِك وتفاؤلَ شكلك وتباشيرَ قدومِك مع الشمس. سنأخذُ هذا الجانب منك فقط، لأن الجانب الآخر، يعني التوازن بين المتطرّفَين، أي الخير والشر، والحرب والسلم، والليل والنهار، والفرح والحزن، والعشق والفراق، والزواج والطلاق.
دعنا من الأحزان يا رجل، كفانا منها ما رأيناه في الأعوام الماضية بعد أن جاءنا رفيقُك العام 2020 بنُذُر الموت بالجائحة اللعينة، وما سبقه من انهيارات اقتصادية، وتفكّك عربي، وتفاقم للعنصرية والتطرف في العالم، وانبعاثٌ لأشباح الفتن والقوميات والشوفيانيات باسم الأديان وهي من الأديان براء.
نحنُ أيها العام الجديد والصديق العزيز، نحبّ الحياة، ونفرحُ بفنجان قهوةٍ في صباح مُشمس، ولكن ابتُلينا بحكّامٍ ما عرفوا من جوهر الحياة سوى الجشع والفساد والجور، وابتُلينا بجغرافيتنا السياسية رغم أن جُغرافيتَنا الطبيعية ساحرة وكانت منبتَ الأديان. لكنّ علّتنا أيها العزيز تكمُن في تمسّكنا بالتاريخ الذي وقفنا عنده وتسمّرنا، بينما الآخرون ركبوا قطار المُستقبل وابتعدوا كثيرا ونحن نتفرّج عليهم، وحين امتلكوا ما كان عندنا، عادوا الينا تارة بالصاروخ وتارة أخرى بالعلم والمعرفة، فخضع البعضُ خوفاً وتقبّل البعضُ الاخر من مبدأ القبول الطوعي بالاستعمار.
نحنُ نحبّ الحياة، لكن كثيرَنا لم يعرف اليها سبيلا، إما بسبب الفقر، أو الأنظمة، أو الاطماع الخارجية، أو الاحتلالات، أو لقلّة حيلتِه، وضعف شكيمته، وانعدام رؤيته.
دعنا إذا نتفق وإياك من مبدأ الرقم 2. فلنوقّع عهدا شرفيا بيننا، حتى ولو أننا مبتلون بحكّام ما احترموا عهدا. وحتى لو أن شعوبَنا في بعض الأحيان تثور من القهر أو الظُلم، لكنها لا تعرف ماذا تُريد لرفع القهر عنها، وإن عَرَفت فهي قد تختلف وتتباغض بين بعضها البعض بسبب البحث عن زعامة، تماما كما يفعل القادة الذين تثور ضدهم. الاّ ما ندر.
ولأننا نُحبّ الحياة، سنحاول أن نخترع لها أساليب فرح، ونسيرُ وإياك صوب شيء من طمأنينة الروح، وسكينة القلب، وانتفاء القلق، ونزرع وأياكَ في قلوبنا بذور المحبة والتسامح والحوار ونتبادل الورود والأفكار والمعرفة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، التي لا شك أنك ستأتينا منها بالكثير، بدلا من تبادل الشتائم والغباء والكلام الفارغ.
نحبّ الحياة، ويموت بعضُنا لأجلها لأنه يُحبّها، ويريد فقط الخروج من سجن أو احتلال أو استعمار، ولأنه يرغب فقط بأن يحبّ نفسه بشيء من الكرامة لا الذل.
ولأننا نحب الحياة دعنا نفكّر وأيّاك بمبادئها من منطلق أننا سنفكّر سويا اعتماد على الرقم 2 الذي تكرّر ثلاث مرات في اسمك. اعذرني إن كرّرتُ لك ذلك، فكيلا تنسى، ذلك أن الأعوام التي سبقتك، وعدتنا بالكثير، ثم نسيت أو تناست، وفعلت عكس ما وعدت، تماما كمعظم سياسيينا قبل وبعد الانتخابات، وقبل وبعض وصولهم الى الكراسي. الاّ ما ندر.
وكبدايةٍ لاتفاقنا، اقترح عليك مجموعة من الأفكار حول نظرتي للفرح، وأنتظرُ جوابَك عليها كي نناقشَها انطلاقا من كوننا اثنين.
فأن تفرحَ يعني:
أن يأتيك اتصال صباحي من شخصٍ تُحب أن تسمع صوته.
أن تتسلل الشمسُ الى سريرك تلامس وجهك وتدعوك لاستقبل النهار.
أن تشرب قهوتك على شرفة بيتك او في مقهى، وأنت ممتنٌّ لله أنه وهبك الصحة والقدرة على الفرح
أن تسيرَ صباحا قرب البحر أو أن تسير في الجبال أو في غابة بين الأشجار الغناء، وتسمع خرير النهر وزقزقة العصافير وتتأمل جمال الخلق وصنيع خالق كلّ هذا السحر.
أن تساعد محتاجا من قلبك وليس على سبيل الخلاص من توسّله اليك.
أن تنجح في مشروع بدأت العمل عليه
أن تقرأ كتابا جميلا وغنيا ينقلك الى عالم أجمل.
أن تلتقي بأصدقاء حقيقيين في زمن عزّت فيه الصداقة الصافية، وتتحاور معهم وتضحك.
أن تُناضل بفرح وتثور بكرامة لترفع الذي والقهر عن أهلك ومواطنيك دون رغبة بمنصب ومال، ودون فتح أبواب وطنك لكل طامع ومحتل وغازٍ.
أنت ما زلتَ في مُستهلّ عمرِك أيها العام الجديد والصديق الذي سنُحسنّ الظن فيه، ولأنك ما زلتَ في خطواتك الأولى صوبنا، ونحن نفتح قلوبّنا لك، سأسمح لنفسي أن أقول لك: إن خبرتي في الحياة علّمتني ان الفرح قرار مهما اشتعلت النيران من حولنا، ومهما تفاقمت المصاعب. وعلّمتني أن التعلق بشخصٍ أو بشيء ومحورةِ حياتنا حوله، يشلُّ قدرتنا على الفرح في حال فقدناه، فخير الحب هو ان تعطي دون ان تفكر بما ستربح بالمقابل.
علمتني الحياة كذلك أن الزهد بالمادة والمجد والشهرة والمال والمناصب، تجعلك تتخلص من أعباء كثيرة صنعها الانسان وصار عبدا لها. كلُّ شيء عابرٌ في يومنا العابر الا الضمير، فهو الساهر الفعلي على افعالنا وهو الحكم على مسارنا في هذه الحياة، كلما اقتربنا منه كبُر الفرح في قلوبنا، وكلما نأينا عنه، احتلت المادة والحسد والحقد مكان الفرح.
الفرح قرار، وهو يكمن في أشيائنا البسيطة في يومنا العادي. ومن يقرّر أن يكون يومه سعيدا، سوف يكون، حتى لو أصيب بالمرض العُضال، فقد شاءت صدفُ الحياة أن تعرّفت في العام المُنصرم على سيدة في مقتبل العمر والعطاء، بهيةُ الطلعة ناجحةٌ جدا في عملها وعائلتها الصغيرة مع زوجها وابنها الوحيد، لكنها ابتُليت بالسرطان وهي تعدّ كتابا عنه، حين قرأته تأكدت أن الفرح قرار مهما جارت الحياة. لا تبحث يا صديقي الجديد إذاً عن الفرح المطلق، فهو غير موجود، تمتّع بلحظات الفرح كلما وُجدتها.
سأنتظرك ترتاح قليلاً من سهرة وداع العام الفائت، وتستقرّ بيننا، وسنكمل النقاش. فلا تخذلنا كما خذلنا معظمُ رفاقك منذ وُلدنا في هذا الشرق المقهور، الاّ ما ندر.
كلّ عام وانتم بألف خير
سامي كليب