سؤال يتطلب من الباحث الاجتماعي التنقيب للكشف عن المخزون المخبأ في " جرة" الواقع في بعديه الاجتماعي، والتاريخي، والدور المبحوث عنه في العامل السياسي المحكوم بعلاقة التبعية للقوى القبلية، والجهوية من جهة، و للنفوذ الفرنسي، كمظلة للحماية من التحديات الخارجية..
وللقارئ أن يمعن تفكيره، ويقارن بين الوقائع، وله كامل الحرية في ان ينصف من يغلب مصالحه، ثم بعد ذلك، عليه أن يصدق حواسه في مشاهدتها لتلك المعطيات، أو لا يصدقها، لكن حري به ان يحكم عليها ليساعد في توثيق أحكام التاريخ على هذه الفترة الانتقالية، والأدوار التي لعبها رؤساء نظام الحكم الوطني .. والأمر يتطلب منا الرجوع بالقارئ الكريم للوقوف ولو من بعيد نسبيا لمشاهدة ما جرى من معوقات الحكم الحديث أثناء التسيير السياسي التالي:
1 ـ ففي بداية الحكم السياسي الحديث(1960م)، تم الاحتماء بالفرنسيين من الاتجاه الثوري"التغييري" الذي كان يقوده المرحوم " بوياكي ولد عابدين"، وكان حصاد الحكم محصورا في تأميم شركة "ميفرما" ومشروع العملة النقدية - الذي كانت الجزائر السند له - غير ان هذا الحصاد تناثر شذرا، مذرا، وغابت قيمته الإيجابية بعد الحرب في الصحراء الغربية التي كان الدخول فيها من طرف قادة الحكم، استجابة لمطالب القوى الاقليمية بإيعاز من فرنسا وإسبانيا..
وبعد سيطرة النفوذ العسكري أحادي التسيير(1978م)، كان الجهل السياسي، والدكتاتورية العمياء الموجهة بالدافع الانفعالي للتعذيب من طرف" الأمن" الداخلي للقوة السياسية القومية في المجتمع، فأعطا ذلك عنوانا حصريا لحكم "محمد خونا ولد هيدالة"، وقد تلاه الخطر الجاثم ل" لقبيلات" - على حد قول معاولة ولد سيدي احمد الطايع - على صدر نظام حكم بالإفلاس السياسي الذي افقد نظام حكمه - معاوية - أي قدرة لقبول الاعتراض عليه فيما قام به تجاه مجتمعنا من سياسة كان عنوانها ،كما قال لقادة حزبه: " سأجوعهم،ليخضعوا أذلاء، او يخرجوا من البلاد،،" علاوة على توزيعه لسياسة الخصومات بين المناطق، والاستعانة بتأجيج الصراع التافه حتى بين العوائل ، فكانت النتيجة، ان نظام الحكم حصد كل النخب السياسية، لأن كل بطن سياسي يحتاج إلى طعام، فاصطادهم جميعا بصنارة وضع على رأسها " طعم " اللائحتين الصفراء، والخضراء، لتقسيم المجتمع داخل حزبه "الماركسي، الفرنسي التابع، والمتصهين المطبع، والقبلي المتخلف " وقد اعمى الجشع النخبة السياسية ، ليقع الجميع في "شبكة" الحكم، فجرهم، كصياد برؤوسهم القبلية، والسياسية الاستنفاعية، وبقي معاوية قبيل هروبه، في2005، يمارس السادية بجبروتها، وعدم انسانيتها، فتارة، كان يمرغ تلك الرؤوس السياسية التابعة له، ومنها المخضرمة، ويرميها على قارعة السياسة، ومرة يستبدلها بغيرها، إلى أن يحين الوقت لحاجته فيها، ليقل لأحدها :"وجب قضاء فائتة" على ما قال وزير خارجيته الأخير ولد بلال..
بينما تفرد بثنائية مفارقة عهد المرحوم ولد الشيخ، المدني بجبة التصوف، كان من افترض أن يجذبه الزهد في الدنيا، والخشوع الى محراب العدل، وتوزيع الرحمات بين الناس، لكنه استبدل ذلك بالتوجس خيفة من المؤسسة الحديثة الصامدة في وجه التراجع الى عصور التخلف بالبلاد ، فعاجل الرئيس المنتخب بتفكيره السياسي " الصفري" - او بتفكير مستشاره الألمعي (،،،) - فقام رحمه الله باستفزاز قادة الجيش في بداية حكمه، لأنه توقع عدم خضوعهم لما سيقوم به من تحكيم تلاميذة الاشياخ في الحكم، والإدارة التي بدأوا (بتطهيرها) من اصحاب المذهب من " المنكرين" على حد وصفهم - وكأن المجتمع في حاجة الى احياء النزعات - إذ لا مبرر لما قاموا به من الطرد من الوظيفة العمومية، إلا تأكيدا لاحياء ذلك الصراع الدفين الذي يحمل ( المشايخ )جذوته المتقدة حقدا وكراهية في صدورهم، فمارسوا السلوك النشاز على أفراد من أحفاد الجيل الثالث والرابع..! وكان الثأر المتخلف من نصيب الأسر الدينية في منطقة الجنوب،، وأثناء ذلك حصل الصدام بين قادة المؤسسة العسكرية، وبين رئيس الدولة الذي استجمع القوى التابعة لشيخه في السينغال، حيث كان الأخير مركز الإفتاء السياسي للطرق الصوفية التي حاولت استعادة نظام المشايخ قبل مائتي سنة،، ولعل القوم استحضروا العلاقات التاريخية بين شيوخ الطريقة الصوفية في الجزائر، بعد عودة الشاب الشيخ ابن الدوحة الطرقية،، من فرنسا، عندما أصبح زوجا لفتاة فرنسية منحدرة من مدينة " بوردو" في الجنوب الفرنسي، الأمر الذي جعل سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله، يتوقع وقوف فرنسا الى جانبه في الصراع اكثر مما قدمت له من قوة اسناد تلك القوة الوطنية التي تمثل المعارضة السياسية الموريتانية، وهي خليط من المتنفذين السابقين، والوزراء، وقيادات حزبية، لا تخفي ولاءها لفرنسا، وعلاقاتها بالسفارة الفرنسية من حين لآخر،،
2 ـ أما عن الواقع الاجتماعي، فتقديمه، يحتاج الى تتبع العوامل السياسية الناظمة له منذ مئات السنين، وهو تقديم يعتمد على التحليل، والاستنتاج، حيث يتوقع تحكم عاملي المواجهة في الحروب مع المستعمر البرتغالي، ثم إعادة البناء التنظيمي في تجمعات قروية مستأنفة خلال عدة قرون، منذ بداية القرن السادس عشر الى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، عندما بدأت الحركة الاستعمارية الفرنسية، تحتل بلادنا التي كانت مستعمرة برتغالية وانزل الاحتلال البرتغالي الخراب بالمدائن التي حولها الى ركام من الحجارة، وبعضها محا آثاراه، كالمدن التي كانت موجودة منذ القرن الرابع الهجري، حيث ذكرها الرحالة في المصادر التاريخية، وهي مدينة" أوليل"، ثم مدينة" أودغست"، ومدينة " أرتيني" التي كانت عاصمة حكم " المرابطون" منذ أمر عبد الله بن ياسين رحمه الله ببنائها على غرار المدائن الاندلسية، وهناك عاصمتهم التالية الأخرى المسماة " آزوكي".
ولعل السؤال الذي يتبادر الى الأذهان، هو: ما الذي حدث لسكان هذه المدن التي تم تدميرها من طرف المحتل البرتغالي؟ ولماذا لم يحدث بدلا من ذلك تفاعل إيجابي على غرار ما جري قديما في الأندلس والبرتغال،،أو حديثا بين المستعمر، والمجتمعات التي وقعت تحت النفوذ الاجنبي، لينتج من ذلك تأثير بين القوى الغازية، والمجتمع الأعزل ، اذا افترضنا أن الأخير خضع للإحتلال في فترة ما ؟ وأين هو دور العوامل الاجتماعية في تسجيل الحوادث التاريخية؟ ولماذا حل الخراب محل التطور الذي يفترض أن يكون من نتائج التفاعل بين المجتمعات؟
والى حد الآن لا توجد وثائق، تقدم إجابات على الأسئلة اعلاه، او ما يشير الى حركية المجتمع في التاريخ لرصد الاحداث، وتسجيل بعض الوقائع خلال الفترة المذكورة، من اجل أن تساعد على فهم ما جرى، وكأن صفحات التاريخ احرقت بكاملها، أو أن المجتمع، وقع في سبات طويل ـ كأهل الكهف ـ خلال ثلاثة قرون ونصف القرن، لذلك، لم يكن من المتاح للمؤرخ الاجتماعي، إلا احتساب الزمن الفيزيائي الذي لا يعكس حركة النمو العمراني، او التطور الاجتماعي، أو الثقافي، او تسجيل الوقائع التاريخية،، وكل باحث في التاريخ الاجتماعي مطالب بتقديم تصوراته تجاه مجتمعنا خلال هذه الحقبة المظلمة .. ولا يبقى في انتظار ما ستكشف عنه حركة التراث، والترجمة للسير الذاتية للفقاء والادباء التي ستقدم إجابات منتظرة عن هذه الحقبة التاريخية..
لذلك لا مندوحة عن تغطية الفترة المذكورة بتقدير الوقائع المنسجمة مع خط التاريخ العام السابق على هذه المرحلة المطموسة المعالم، والموسومة بفقدان الذاكرة التاريخية..
ومن البدهي افتراض الباحث لوجود مقاومة وطنية تصدت للمحتل، لأن الرصيد التاريخي لنظام حكم "المرابطون " في وجه اعدائهم، يعزز هذا الاحتمال، رغم ان ليس هناك ما يؤكد انتصارهم، وصدهم للمحتل عن بلادهم، الا اذا كان ذلك قد حصل في بداية الصراع، غير أن النهاية المأساوية، تؤكد وقوع هزائم عديدة، انتهت بتدمير المدائن، والقتل الجماعي، وتشريد الساكنة الحضرية، واستئناف الهجرة الى المناطق الداخلية النائية في الصحراء الرملية، و الهجرة الى مرتفعات الجبال،،ويؤكد هذا الاحتمال عدة معطيات، ومنها :
أ ـ أن الكثافة السكانية بقيت نسبية حتى الآن بالنظر إلى المجتمعات المجاورة، الأمر الذي يفسر تعرض المجتمع الى حروب إبادة، اكثر مما وقع في الجزائر منذ 1830 ـ 1962 حين قتل المحتل الفرنسي خمسة ملايين، وستمائة الفا(5.600000)، وتلك الإبادة الجماعية، تؤكدها محدودية الكثافة السكانية المنخفضة في بلادنا،، ومن المؤشرات الجزئية لحجم الإبادة الجماعية التي تعرض لها مجتمعنا حينها، كالعدد المنخفض لإحدى القبائل " كلمتونة" على سبيل المثال..
ب ـ أن اسماء القبائل الموجودة اليوم، لم تذكرها مصادر التاريخ على عهد حكم "المرابطون" المفترض أنهم استبدلوا الرابطة القبلية بالرابطة السياسية العامة.. وكان غياب أسماء القبائل المذكورة في مصادر التاريخ قبل حكم الإصلاح الاجتماعي المذكور الذي دام أكثر من مائة سنة، هو من اهم الأدلة على غياب الرابطة القبلية بعد تلك المرحلة التي شهدت تحولات اجتماعية، قد تكون في مستوى النهضات التي عرفتها المجتمعات العربية حينئذ وهي امتداد للنهضة العربية الاولى ،،
أما عن أسماء القبائل الحالية، فهي تختلف عن أسماء السابقة، رغم التحوير الذي عمد إليه البعض للربط بين الاسماء لكل منها، لكن غاب عن المجتمع ان النظام القبلي الحالي مستانف، لذلك لا توجد علاقة موضوعية بين الاسماء المستانفة، مع السابقة عليها الا من جهة افتراض ظاهرة اخفاء الاسماء، وطمس الهوية الاجتماعية، إذا كان أهلها مضطرين إلى ذلك، وهذا الاخفاء، التمويه بالأسماء، قد يتوقع بالنسبة للأفراد، لكنه لا يتوقع في سائر المجتمع الواحد الذي يعرف بعضه بعضا، وعدوه "البرتغالي"، كان يجيد العربية منذ ثمانية قرون قضاها تحت الحكم العربي في الاندلس، كما أجاد تراثها..
ج ـ ويفترض في ذلك العهد، أن حركتي التطور الاجتماعي والحضاري، أدتا الى نقلة نوعية بالمجتمع من التنظيم القبلي الى التنظيم الحضري الذي صهرته الوحدة الاجتماعية في تنظيم مغاير للتشكيلة الاجتماعية في العلاقات القرابية الأولية،، وبناء على المتغيرات الاجتماعية المصاحبة لحكم " المرابطون"، وهو الذي آثر الرابطة، الجامعة للمجتمع كهوية سياسية عامة، كما هي اجتماعية بديلة للرابطة القبلية السابقية منذ الأحلاف اللمتونية في القرن الثالث للهجرة الذين أشار اليهم ابن خلدون في كتابه التاريخي ،،
د ـ ومن المفترض أن البناء الاجتماعي المستأنف بعد سقوط حكم الإمارة المرابطية على يد المحتل البرتغالي، أدى الى تفكك المرابطية الاجتماعية بعيد الانتقال من الحضر الى الصحراء، فأخذت الجماعات أسماء اقرب الى عناوين لتجمعات ما ، لتاخذ اسماء جديدة، قد تكون اسماء لمناطق سكنية بعد الهجرة القسرية من الحضر، وهو الاحتمال الأكثر موضوعية من غيره من أسماء التجمعات، كاسماء الشخصيات الدينية، او القيادية، حين يعمد مجتمعهم المحلي الى تخليدهم بالابقاء على أسمائهم ..
ويستخلص من هذا أن القبائل الحالية، قد لا يكون الجامع بينها البنوة لأب واحد، نظرا للتطورات السابقة في فترة النهضة العمرانية، والتحولات الاجتماعية العميقة.
وهذه المعطيات آنفة الذكر، تستبعد اسطورة البنوة - للجماعات - لأب واحد، باعتبار هذه الاسطورة من معتقدات المجتمعات الأولية السابقة على التطور الاجتماعي، وذلك بسبب غياب المؤرخين، والعجز عن تفسير العلاقات التاريخية فيما بينها، لذلك احتاجت إلى قياس الظواهر في الحاضر لتفسير الغائب عنها معرفته في بداية التجمع السكاني،، وذلك على اساس العلاقة بين افراد الاسرة الواحدة ذات الأب المعروف لدى الجميع، فقاسوا عليه التجمع السكاني في بدايته على انه امتداد للعائلة الممتدة - ولا يصدق هذا التفسير، علماء الاجتماع في علم الاجتماع العائلي - .
ولا يبرر هذا التفسير حديثا الا غياب البحث التاريخي الجاد، وإنه لأمر محزن ان مجتمعنا لا زال يجتر أفراده تفكيرا اسطوريا بدائيا، أسوأ ما فيه أسطورة النبوة لأب واحد.. هل لأن البعض ليس عنده وثائق تاريخية، ليدحض هذا التفسير البدائي، وغير مدرك لتأثير التحولات الاجتماعية، والحضارية السابقة، ولهذا فالجميع، يردد - ببغائيا - الانتساب للأب واحد، وهو بمثابة " الطوطم" كرابط بين افراد المجتمع في المصاهرات، وغيرها من العلاقات الوظيفية ذات النفع المادي في اكثر الاحيان، خلافا للأثرة في تلقي الأوزار..؟!
3 ـ وقد قادت الاستنتاجات السابقة الى ما كان قد أشار إليه المؤرخ الاجتماعي ابن خلدون عن التطور الاجتماعي حيث تمر المجتمعات خلاله بمرحلتين: القبلية في البداوة، والسياسية في المدائن،، وبناء على هذا التصور النظري الذي راهن على التطور المتنامي، باعتباره مزامنا للانتقال من الرابطة القبيلة البدوية، الى السياسية الحضرية، وعليه ، فلا يتوقع أن مجتمعات المدن على عهد حكم (المرابطون) - وهم قادة الحركة الإصلاحية - ان تبقى منقسمة على نفسها إلى قبائل في المدن، كما كان الامر في طور البناء القبلي، علما أن "البكري" ذكر في كتابه " المسالك والممالك"، الكثير من المعلومات عن الوحدة الاجتماعية الحضرية في مدينة " أودغست"، باعتبارها تنتمي لثلاثة أعراق - ولم يقل قبائل - : العرب، والبربر، والأفارقة، وكان بين العرب والبربر تنافر شديد ـ على حد رأيه ـ.
ولعل هذا الانقسام الداخلي، ساعد على استقبال قادة الحركة المرابطية الاصلاحية، والاندماج في مشروعها العام الذي كان من المفروض انه عمل على تشكيل البناء الاجتماعي اطار موحد ينظم العلاقات بين المجتمعين الحضري، والبدوي على حد سواء، وقضي على الانقسامات بين الأعراق، كما اهتم بتنظيم العلاقات بين الحاكم والمحكوم.
..
والوثيقة السياسية التي اجتهد في تقديمها أبو بكر الحضرمي لأولي الحكم في كتابه " الاشارة في تدبير الإمارة" تؤكد هذا التحول فكريا وسياسيا لقادة المجتمع.
بينما كان غياب الحكم السياسي الموحد لوحدة المجتمع في القرن التاسع عشر، مبررا موضوعيا لتلك التحالفات القبلية، تحت عنوان الإمارات الأربع ، ولعلها تحالفات اسمية أكثر منها سياسية تنظيمية نظرا لافتقادها للشروط التي تعطيها بعدا سياسيا،لذلك فهي تحالفات "عرفية"، ولاتعتبر من التحالفات سياسية ناظمة للحياة الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، لأن نظام الإمارات الأربع التي توزعت في المناطق، افتقدت لكل مظاهر التحضر، ولعل هدفها من التحالف، كان تجنب الحروب البينية فيما بين القبائل، واحيانا لردع الاعتداءات القبلية الأخرى التي كانت - ربما - حروبا بالإنابة عن القوى الاستعمارية التي بدأت الصراع فيما بينها على المستعمرات منذ بداية القرن التاسع عشر حيث سجلت أكثر وقائع الحروب القبلية في هذا الفترة..
ومن الملاحظات على البناء الاجتماعي المهلهل في ظل (ظل )الإمارة هو ضعف وحداته القبلية، ووسائل ردعها في مواجهة الاحتلال الاجنبي، ولعل المقولة التالية أصدق عليه من غيره " أسد علي وفي الحروب نعامة"، ذلك أن حركة المقاومة الوطنية في مواجهة المحتل الفرنسي، لم تستطع التصدي له، وسحق الاحتلال قوتها، فاستسلم المجتمع في جميع ربوع البلاد، وكان أول المستسلمين لسلطة المحتل، قادة الإمارات من ابناء الأمراء الذين نكثوا عهد الوفاء لآبائهم الذين استشهدوا، وإذا كان الشهداء آمنوا بالتضحية في سبيل قضية وطنية في الدفاع عن المكانة الاجتماعية،و الارض، والعرض، والمال، فإن اقصى ما طمح اليه ابناء الأمراء، هو ان يبقوا على قيد الحياة تحت سلطة الحاميات العسكرية تحت الاحتلال المباشر، وأن لا تأخذهم ب(جريرة ) آبائهم المناضلين ،، ولم يختلف عن تفكيرهم في طلب النجاة بالنفس، والتقرب من الادارة العسكرية، بعض مشايخ المجتمع الذين يروى عنهم الكثير من القيل، والقال في هذا المجال مما لا يسمح غياب الوعي السياسي الحديث لدى الجهويين، ولدى الأفراد ( المتثاقفين)من احفاد المشايخ، الإشارة اليه، ولو بعد اكثر من مائة سنة، أحرى الحديث عنه، وتحليل ابعاده الاجتماعية، والنفسية، وخلفيات التفاعل مع القوى المتحكمة من ابناء الكفار، وأعداء العقيدة ،،!
والخلاصة التي لايختلف عليها المناكفون، هي أن الإمارات الأربع، استذلت، ولم يبق لها من فاعلية تذكر، و حتى من حضور رمزي عام، ومثلهم في ذلك، القبائل التي اخضعها، شيوخها بعيد توظيف معظمهم من لدن الإدارة الفرنسية، واقتصر دورهم في جمع "العشر" ـ وهي ضريبة الاحتلال على الممتلكات الخاصة، مضافا اليها النهب للثروات الاخرى خارج الملكية الفردية، كالصمغ العربي، والصيد البحري في المياه الاقليمية، وتصدير المعادن، ولم يتورع بعض المشايخ ــ رحمهم الله تعالى، وغفر لهم ما تقدم ــ عن تقديم المعلومات الاستخبارية للإدارة الفرنسية من اجل انتزاع تلك الضريبة الجائرة من أرباب الممتلكات العينية من اصحاب المواشي الذين قطعوا بها القفار حتى لا يراهم عيون ادارة الاحتلال،، وهذا يبين الى أي حد كانت القبيلة في مجتمعنا، تكوينا اجتماعيا هشا، ومقادا برموزها من سدنة الاحتلال، ففرط بعضهم ـ وليس كلهم ـ الى حد الخيانة الوطنية بالمفهوم السياسي نظرا لما قام به بعضهم ضد الشرفاء المناهضين للمستعمر الفرنسي، كالمناضل الوطني" ولد امسيكة" الذي قتل ومثل بجثته، استرضاء للمستعمر، وجلبا للمنفعة، وهذا يمثل قمة التخلي عن قيم الشرف، والنخوة العربية، وعزة النفس، والخروج الصريح على مبادئ الدين الاسلامي،، في مقابل استرضاء المحتل،والبحث عن المقابل المادي، انطلاقا من الدور الوظيفي الذي ورثه النظام السياسي منذ الاستقلال، حيث تواضع على تقديم الاعتبار للقبيلة بناء على خاصتي الضعف، والاستنفاع مقابل التبعية لنظام الحكم سواء أكان مدنيا،ام عسكريا دون أن يسعى النظام الوطني للتفكير في إيجاد عقد اجتماعي جديد للمجتمع، رغم صورية "الدستور": كعقد اجتماعي في المجتمعات المعاصرة، ولكن دوره نسبي في تنظيم العلاقات بين المواطن، والإدارة الوطنية في مجتمعنا القبليي الذي يريف سكانه المدن في حدود 80%، ومع ذلك لازال محكوما بنظام الأسرة الممتدة، القائم على أسطورة الأبوة الموحدة غير أن مظاهر الحكم السياسي، ومؤسساته، ونظمه، لم تعط قيمة الى الآن للعلاقات الثنائية بين المواطن، والدولة، بل آثرت التحالف من حين لآخر مع القبائل ولو كان حصل العكس، لساعد ذلك على الدفع بالمجتمع الى النظام الحضري، وانتماء الفرد لمدينته، ومجتمعه، وهوية دولته - بدلا من قبيلته - وهي فرصة للتخلص من النظام القبلي المهتري حين تعاظم دور الشرائح، والفئات الاجتماعية التي قوضت تلك الهرمية الاجتماعية التي لازالت ترمز للنظام المتخلف في المجتمعات السابقة على الدولة الحديثة..
الخلاصة:
لقد اظهرت التجارب السياسية في بعض الاقطار العربية، والافريقية، أن تمسك انظمة الحكم بالنظام القبلي، هو من أجل الاستغناء عن الأحزاب السياسية الحديثة التي يفترض انها تعبر عن وعي الحراكات العامة في المجتمعات المتطلعة للتحديث. بينما الاحتفاظ بالإطار القبلي، واسعافه، تقوم به الأنظمة السياسية التابعة للغرب لتوظيف التخلف في جميع مظاهره، ولو انه في حالة من "الموت السريري" بالكاد، ليظهر للمراقبين بما لا يدع مجالا للشك، أن نظم الحكم المذكورة في معظم الاقطار الافريقية، والعربية لا تريد " التغيير" المصاحب للتطور الاجتماعي، والتنموي، وإنما هي تسعى للابقاء على النظام السياسي التابع للخارج، بالتحكم في قيادته، وأي خروج على ذلك من قوى الداخل، سيصطدم بالحرب الأهلية التي تدخر القبيلة لها، كما حصل في الصومال، وليبيا، والكونغو وغيرها ، وهذه هي المرجعية التي تعزز الوعي السياسي لدى قادة الحكم منذ واحد ستين سنة، وهي ذات المرجعية التي يتقاسمها النظام السياسي مع الوعي السياسي لدى معظم الاحزاب القبلية، والجهوية، والعرقية، فكلها تقف على رصيف المجتمع القبلي، والرضوخ للقيم المؤطرة للتراث القبلي، ، وتجميع " لوثة" التراتبية المحاكية لهرمية المنحنى المحدودب،، لتزويد أنظمة الحكم، بمخدر الأدوار المفتقدة لقادة الأمراء، ورؤساء القبائل..
وهذا المعطى الوظيفي يقضي على مظاهر الوعي الثقافي، والسياسي لدى الاجيال الموريتانية، سبيلا للإبقاء على التالف من مخلفات القوى البديلة للنخبة السياسية من وسطاء قبليين، وفئة من المتفرنسين..
لكن الذي لم يكن في الحسبان على ما اعتقد البعض، أن الاطار القبلي قد تحلل فعلا - لا أمنية - الى غير رجعة، والفضل يرجع الى الله تعالى، ثم الى معطيات العصر، ومتغيراته التي راكمت التحديات الداخلية، والخارجية ،، كجشع قادة الفئات الاجتماعية، والشرائح التي تواجه النظام السياسي بالمنظمات الدولية، والتحالف مع خلايا "الموساد" ـ حسب المنشورات المتداولة ـ كما تتحالف مع القوى السياسية العرقية على الرغم من استرضاء قادتها الانتهازيين بما يشكل مسكنا، مهدئا، وليس هو من جملة الحلول المخلصة للجسم الاجتماعي من أزماته، كالاصلاح العام، ولو حصل الاخير، فلن تتراجع الفئات الاجتماعية الى الحضن القبلي، وتبعيته للنظام السياسي مهما اغدق الأخير على أفراد قادتها من التعيينات، والعطاءات السخية لفئات المجتمع، كما فعلت جمعية " تآزر" على سبيل المثال، لأن فئات المجتمع مستغلة بلونها من طرف تلك القيادات الانتهازية الموجهة من طرف القوى المعادية للوطن ومستقبل الاجيال،،فيما أشرنا إليه آنفا...
د/ إشيب ولد أباتي