تُعقد في واشنطن في الفترة 9-10 كانون الأول/ ديسمبر الحالي، قمّة افتراضية للديمقراطية على أن تعقد النسخة الثانية في نهاية العام المقبل حضورياً. وتعتبر هذه القمة تنفيذاً لتعهد الرئيس بايدن من خلال حملته الانتخابية بأن تعود بلاده لتأدية دور قيادي في علاقتها مع حلفائها حول العالم.
إذاً الهدف الأساس هو استعادة الدور القيادي للولايات المتحدة بالتعاون مع حلفائها وليس من خلال إجراءات حقيقية على الأرض تعالج مواقع الخلل أو مواطن التراجع في هذا الدور القيادي الذي تهدف القمة إلى استعادته؛ أي أنّ المبادرة بحد ذاتها تتضمن اعترافاً ولو ضمنياً بأنّ دور الولايات المتحدة القيادي في العالم آخذ في التراجع وهو بحاجة إلى علاج. والسؤال هو: هل هذه القمة هي العلاج المطلوب أو هل هذه هي المبادرة التي ستؤدي النتائج المرجوة؟!
لقد بدأت الدراسات والتحليلات والآراء حول هذه القمة قبل انعقادها تُظهر أنّ المعايير التي استندت إليها الدعوات، إن كانت هناك من معايير، هي معايير فاشلة ولم تبرهن عن أي اتساق بين الهدف والإجراء ولا بين الشكل والمضمون؛ فقد تمّ دعوة 110 دول وتمّ استبعاد الصين وروسيا بينما تمت دعوة تايوان والفلبين لموازنة النفوذ الصيني، والباكستان التي تتمتع بعلاقات متينة مع الصين ربما لمحاولة إغرائها بالتعاون إقليمياً مع الولايات المتحدة في مكافحة الإرهاب، كما تمت دعوة أوكرانيا لمقاومة النفوذ الروسي.
كما تمّ استبعاد الوطن العربي برمته ماعدا العراق كي تقنع الولايات المتحدة نفسها أن غزوها للعراق في عام 2003 وكل الكوارث التي يرزح تحتها الشعب العراقي قد أنتجت ديمقراطية ورفعت من شأن العراق إلى مصاف الدول الديمقراطية. أما أن يُدعى الكيان الصهيوني الذي يمارس نظام الفصل العنصري ضد السكان العرب الأصليين ويقتل ويدمر وينتهك كل حقوق البشر والزرع والحجر فهذه هي ضربة قاصمة لتعريف الديمقراطية التي يتبنون.
منذ انهيار الاتحاد السوفييتي وتحكّم الولايات المتحدة بقيادة القطب الواحد في العالم يحاول الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة أن يثبت لسكان الأرض أن الديمقراطية الليبرالية التي تعتمدها الدول الغربية هي النسخة الوحيدة للديمقراطية المعترف بها عالمياً، وأن المعيار لمن هو ديمقراطي أو غير ديمقراطي يمتلكه الغرب ولا يمكن لأي دولة في العالم أن تقرّر من هو النظام الديمقراطي إلا الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون، وهنا بالذات يقع موطن الخلل الأساسي.
فطبيعة الحياة تفترض أن كل دولة وكل شعب ينتج نظامه السياسي النابع من حضارته وقيمه وتاريخه والمستند إلى معتقدات وموروث شعبه والمنسجم مع هذا الموروث ومع طموحات وتطلعات هذا الشعب، ولا يمكن لواشنطن أن تحكم على كل شعوب الأرض بما هو الأنسب لهم وما هو النظام الأفضل لتحقيق كرامة ورخاء الإنسان، خاصة إذا كانت أحكام واشنطن تعتمد على مصالحها من التحالفات وتضرب عرض الحائط بأسمى القيم الديمقراطية والإنسانية حين لا تنسجم مع مصلحتها المباشرة ومع مخططاتها الآنية والمستقبلية.
لقد أثبتت تجربة كوفيد-19 أن هذه البلدان التي تدّعي الكمال وتنصّب ذاتها حَكماً على الآخرين تعاني من فجوات مرعبة في أنظمتها الصحية والإنسانية ومعايير وقيم حقوق الإنسان، كما أثبتت ذلك أيضاً مظاهرات وتحركات الأمريكيين من أصل أفريقي بعد أن تعرضوا لممارسات قاتلة من قبل الشرطة الأميركية. وفي إطار كوفيد أظهرت دول مثل الصين وروسيا كفاءة عالية في معالجة الوضع الداخلي في بلدانهم ومدّ يد العون إلى الدول الأوروبية والعشرات من دول العالم مما غيّر الصورة التي يروّج لها الإعلام الغربي دائماً عن تفوّق الغرب في كل المجالات وأن الدول الأخرى لا تقترب من كفاءته وأدائه.
قد يكون هذا الشعور والاستنتاج هو المحرّك الأهم لعقد هذه القمة التي من الواضح أنها لن يُكتب لها النجاح؛ الشعور بأنّ الصين قد سبقت الغرب في مجالات عدة وأنها تمكنت في السنوات الأخيرة أن تنفذ إلى عقول وقلوب البشرية بمجموعة من القيم الحديثة والحضارية والخلّاقة مما يرشّحها على أكثر من صعيد أن تكون القطب الأهم في التوازن الدولي. كما انخرطت روسيا في مكافحة الإرهاب وتوسعت في علاقاتها في المنطقة العربية وآسيا وحققت اتفاقات هامة مع الصين تجعل من الدولتين قطبين أساسيين في قيادة العالم على أسس الاحترام المتبادل وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول مع موقف حاسم ضد العنصرية والاحتلال والطغيان.
يضاف إلى هذا أن الولايات المتحدة اتخذت في العقد الأخير أسلوب فرض العقوبات على كل من يخالفها الرأي متجاوزة بذلك نظام الأمم المتحدة؛ إذ كما تمّ الاحتلال الأميركي للعراق وقصف الناتو لليبيا وتدميرها دون موافقة الأمم المتحدة درجت الولايات المتحدة على فرض عقوبات قسرية أحادية الجانب على الدول التي ترفض السير في ركابها والانصياع لأنموذجها وآرائها في الحكم والتقييم. وفي السنة الأخيرة اخترعوا عبارة " نظام على أساس القواعد" ولا أحد يعلم ماهي هذه القواعد وما هو هذا النظام! وبدأت الولايات المتحدة بمطالبة الدول بالالتزام بهذا النظام.
وإذا ما أخذنا ما تعرضت له سوريا في مسألة الأسلحة الكيماوية والتزوير الذي قام به عدد من أعضاء المنظمة وأموراً أخرى كثيرة في منظمات الأمم المتحدة نستنتج بما لا يقبل الشك أن الولايات المتحدة تحاول أن تسمّي نفسها وكيلاً حصرياً وحَكماً دولياً عوضاً عن الأمم المتحدة وكل المنظمات التابعة لها.
إن كل ما سبق هنا يُري أن هدف الولايات المتحدة هو فرض إيديولوجيتها الإمبريالية على دول العالم وإعطاء نفسها الحق أن تحكم من هو المقبول دولياً ومن هو غير المقبول بذريعة الديمقراطية وحقوق الإنسان، وهذا ناجم عن الخوف من الأنموذج الصيني ومن ولادة عالم متعدد الأقطاب ظهرت مؤشراته من الصين وروسيا، عالم يؤمن أن البشر جميعاً يتقاسمون هذا الكوكب وأن الإنسانية هي القيمة الأسمى التي يجب احترامها بعيداً عن المذهبية والإقليمية والعنصرية المبنية على أساس العرق أو اللون أو الدين.
لقد حفلت تصريحات المسؤولين الصينيين وأعمالهم على الأرض بالعمل على نظام "رابح رابح" لكل البشر وتحسين الوضع الاقتصادي في العالم وخلق تشابك المصالح ذات المنفعة المتبادلة لجميع الدول والشعوب من خلال "حزام واحد طريق واحد" وهذا ما يصبو إليه بنو البشر في كل مكان وفي جميع بقاع الأرض.
إذا كان هدف قمّة الديمقراطية هو أن تبرهن أن هذه الدول تملك الأنموذج الأفضل للحكم فإن ذكاء الشعوب قد تجاوز هذه المحاولات بحيث أصبحت التعددية القطبية أمراً واقعاً على الأرض وأصبحت الصين وروسيا قطبين هامين في قيادة العالم. والمسألة مسألة وقت حتى يعلن سكان الأرض انحيازهم للقيم التي تضمن سلامة وأمن بلدانهم وكرامتهم وحقهم في الحياة الحرة بعيداً عن الاحتلال والهيمنة والطغيان والوصاية.
ولقد تجاوز ذكاء الشعوب محاولات الحكومات الغربية لتحديد معايير الحكم العادل وتأمين حقوق البشر، ومازال الإعلام الغربي يوفّر آخر فرصة للتضليل وقلب الحقائق ولكن الوعي الذي تحقق في العقد الأخير يُظهر أن الشعوب قد أدركت حقيقة ما يجري وأنها سوف تنحاز ولا شك إلى من يمثل قيمها الحقيقية ومصالحها.
العالم متجه إلى حكم التعددية القطبية ولن تتمكن قمّة الديمقراطية من إيقاف عجلة التاريخ ولا حتى من إبطائها. ليست الصين قوة اقتصادية وتقنية منافسة للولايات المتحدة فقط، ولكنها تقدم أنموذجاً للحكم وللعلاقات بين الدول يُثبت مصداقيته وانتشاره على مستوى العالم ولن تتمكن هذه القمة من إيقافه خاصة وأنها فشلت في إقناع أحد بسلامة معاييرها وأحقية أهدافها قبل أن تعقد.
بثينة شعبان / مفكرة عربي