يسعى العاطل عن العمل في أول مسيرته-إن كان جادا أو شديد الحماس- إلى إيجاد تدريب أو إلحاق في أي مؤسسة مهما كانت وذلك للتعرف على بيئة العمل حتى ولو وكان حضوره غير مدفوع أو مرحب به، ولا يصر العاطل في البداية على أن يستلم تعويضا، ما يهمّه هو اكتساب الخبرة، والتسلح بالتجربة وهي حجر الزاوية في أي اكتتاب أو تعاقد.
وهذه مسألة إنسانية ومفصلية في حياة أي إنسان، لكنها كالفيل الضخم في الغرفة كما يقال، أي لا أحد يتكلم عنها لحرجها الشديد للعاطلين وأرباب العمل والمؤسسات الرسمية والخاصة على حد السواء، ويتفق الجميع-مع اختلاف مواقفهم وآرائهم- على تجاهل هذا المشكل ولا تجد من يثيره أو يتحدث عنه. وبما أن حكومتنا المبجلة صادقت بالأمس على إنشاء صندوق للتشغيل، فارتأيت أن أشارك بتجربتي الشخصية وكيف أن بيئات العمل سواء الحكومي أو الخاص بيئات غير مهيئة من الأساس لاستقبال العمالة الجديدة حتى في طور التدريب، فكل مؤسسة غيتو صغير مغلق على أهله وعماله ولا يقبلون أي غريب ومن لحظاته الأولى في الممرات سيدرك ذلك، فمن لحظات العيون والنظرات لن يتأخر في فهم أنه على وشك أن يثير غضب وحنق الكثيرين ومن غير أي جرم اقترفه، فقط لأنه يحاول أن يجد موطئ قدم في مسيرته المهنية.
رجعت مختارا من الديّار الأوربية، وكانت أيام ولد عبد العزيز في مبتدئها، وكان الأمل والشباب من عناوينها البارزة. وسعيت في أن أجد تدريبا في أي مؤسسة، لكن الأبواب كانت موصدة بالكامل. وتحركت لأجد تدريبا في القوات المسلحة وحتى لو كان السكرتاريا وطباعة الرسائل (وكنت متخرجا من دورة للمران على الآلة الطابعة)، لكن محاوري بهت ولم يدر جوابا حين كلمته في الأمر، وفهمت من نظراته أنني ارتكبت خطأ بسؤالي هذا، فالمدنيون لا يحق لهم حتى التفكير في مثل هذا بحسبه. عرفت بعد ذلك أن منهم من يشتغل في القوات المسلحة في وظائف محدودة، لكن محاوري لم يك من الكبار النافذين واكتفى بتعنيفي كتغطية على عجزه، وتفرقنا.
وكلمت النائب والقنصل الحالي السيد محمد ولد ببانه في أن يجد لي تدريبا في الإذاعة أو التلفزة، وبعد حوار قصير أرسلني إلى مدير التلفزة حينئذ (مستهل ٢٠١١)، واستقبلني ببشاشة وترحيب، ثم هاتف مدير الأخبار السيد الناجي، ولما جاء كلمه في أمري وجعلني في عهدته. وكان مدير الأخبار لطيفا وكيسا، فأخذني في جولة قصيرة في مباني التلفزة، وفي استيديو البث، وقال نحن عملنا أكثره في المساء، فاحرص على الحضور في هذا الوقت.وودعته وكنت راضيا عن الاستقبال والحفاوة التي تلقيت من المدير العام ومن مدير القطاع. لكن المفجآت مازالت في الطريق!
في المساء الأول والثاني وما بعده تعرفت على بعض الطواقم وكنت أحضر جلسات التحرير العربي والفرنسي، وتحضيرات النشرتين الرئيسيتين، لكن لم يسند إلي أي عمل في إعداد أو إنتاج، ولو أني شاركت في مناسبات في إعداد تقارير مع الزملاء لكن بدون ذكر اسمي. ويسلم عليك هذا الذي تعرف من تنمره على العاملين وسلوكه أنه أحد رؤساء التحرير، وهؤلاء ليس في الكون كله من يضاهيهم في الخيلاء والصلف والغرور، رغم تواضع حالهم المعرفي. وتحاول جاهدا أن لا تتصرف ولا تقول شيئا إلا إذا سئلت عنه، وهو لا يسأل لكنه حين يقف حماره في العقبة ولا يهتدي إلى الكلمة المناسبة أثناء تحرير سكريبت النشرات ربما سبقك لسانك إليها فتنطق بها، فيتحرج من قبولها أولا، ويقول لا نستخدم مثلها، ثم يراوغ قليلا، فإذا لم يجد غيرها، يقبلها على مضض ومن غير شكر.
وفي بعض المرات، طلب منك أحد رؤساء التحرير مشاركته في إعداد تقرير عن زيارة ولد عبد العزيز إلى تشاد، فوقفت معه إلى أن تم إعداد العنصر على أحسن ما يرام، ثم كان جزائي هو الهجران التام، وانكفأ على نفسه وانكفأت عنه. ولم أعرف السبب، ولم أسأل عنه، وهو ما شاء الله بعد بخير وأراه من حين لآخر على الشاشة وبنفس المستوى تقريبا دون تغيير.
ثم قررت بعد ثلاثة أشهر إنهاء التدريب غير المعوض، وترك التلفزيون، فلم أعد قادرا على تحمل هذه البيئة الطاردة. ثم أخذني هذا الأخ في أحد الممرات والذي صار الآن من مستشاري سفاراتنا في الخارج، وتوجه لي أن أصبر وأن أتحمل، فمع الوقت ستتغير الأمور، فشكرته كثيرا ، لكنني كنت قد عزمت على المغادرة.
من المهم لتشجيع العمل وترغيب الشباب في اقتحامه أن يصار إلى خلق بيئات مشجعة على العمل والانتاج ومرحبة بالوافدين والمتدربين، هذا يساعد في خلق أجواء ثقة وتعاون وعطاء؛ ترك البيئة الحالية بنفس التنمر ونفس الفظاظة يؤدي إلى إفشال كل مسعى جدي لتقليص البطالة والحد من بطالة الشباب على وجه الخصوص.
الكاتب الصحفي / سيد أحمد أعمر محّم