أيها الأحبة، ما سأقوله في هذه العجالة إنما هو صرخة وجع. وجع من استفاق فجأة ليجد وطنه قد ضاع على غفلة من زمنه أو من وعيه. وجع من تنبه من سباته المؤرق ليجد أحلامه العريضة الجميلة تتكسر على صخور واقع مرير وليتبين له أن كل ما جرى معه وله إنما هو من صنع يديه، أو أنه شارك بعملية تدمير الذات وتفتيت الحلم بشكل أو بآخر.
تحمل هذه الندوة عنوان: " لبنان.. نعمة الوطن ونقمة الحكام". وإذا كنا لا نختلف البتة عن الشق المتعلق بنقمة الحكام، إذ لا يختلف اثنان على حجم الفساد المستشري، وما ارتكبه الحاكمون بحق البلد وناسه.
لكن لي رأياً قد يكون مغايراً بالنسبة للشق المتعلق بنعمة الوطن، فعن أي نعمة نتحدث، وعن أي وطن؟! فهل يا ترى منذ البدايات وحتى النهايات الكارثية: هل كان لبنان وطناً حقاً ! هل كان وطناً حقيقياً كما سائر الأوطان؟!.
هل انبنى لبنان منذ إنشائه تحت مسمى "لبنان الكبير" ليصبح وطناً فعلياً، وطناً كبيراً، وطناً آمناً ومستقراً وهانئاً وعادلاً لكل بنيه، ومساوياً فيما بينهم؟!.
وهل يمكن لعاقل مدرك واعٍ أن يتجرأ ويقول إن لبنان الكيان المكتمل قد تحقق ذات يوم منذ أن أبصر النور قبل قرن وسنة من الزمن؟!.
إني والله لفي شكٍّ من كل هذا وذاك وذلك.
فأي وطن هو هذا الوطن الذي يأتي الشعور بالإنتماء إليه في آخر القائمة وليس في أولها!.
وهل يمكن لأحدنا أن ينكر أن الشعور بانتماء الإنسان عندنا يأتي بالمرتبة الأولى إلى العائلة
ومن ثم إلى الطائفة وبعدها إلى الحزب أو التنظيم السياسي وبعدها إلى المنطقة الجغرافية، وبعدها... وبعدها... وبعدها... وفي نهاية المطاف، يحل الإنتماء إلى لبنان، كما لو أنه الضيف الثقيل.
أي وطن هو هذا الوطن الذي مذ ركّبه المستعمر الفرنسي على عجل في العشرين من شهر أيلول سبتمبر سنة 1920، مقتطعاً أجزاء من سوريا الكبرى وفلسطين ليضمه إليه، وما رافق ذلك في حينه، ولعقدين من الزمن، من رفض قاطع للانفصال عن سوريا الكبرى!.
لكن الأمر تثبّت، وصار لبنان كما نعرفه الآن، ولكن، ولغاية في نفس يعقوب الفرنسي، أسس بنيانه على قواعد طائفية ومذهبية. وقد جاء الميثاق الوطني سنة 1943، ومن ثم اتفاق الطائف سنة 1989، واتفاق الدوحة سنة 2008، لتعزز هذه القواعد وترسخ التوزيع الطائفي للوطن بكل ما فيه.
أي وطن هو هذا الوطن الذي تشعر أن أحلامك فيه مؤطرة ومقيدة حتى النخاع، إذ لا يتوجب عليك أن تتجرأ وتقفز بأحلامك خارج الحدود المحرمة. فلكل طائفة حدودها، ولكل مذهب حدوده، وهذه الحدود، سياسياً واجتماعياً ووظائفياً ومناطقياً، تكاد تكون في خانة المحرمات على من لا ينتمي إليها، وبذلك يتوجب عليك أن تدرب أحلامك على أن تتقيّد بكل هذه التفاصيل الصغيرة والدقيقة والمرعبة.
تخيلوا وطناً بأحلام مقيدة. تُرى هل يستطيع المواطن الشيعي مثلاً أن يحلم، ولو مجرد حلم، بأن يصبح رئيساً للجمهورية؟ وهل يستطيع المواطن المسيحي مثلاً أن يحلم بأن يصبح ذات يوم رئيساً للحكومة؟ وهل يستطيع المواطن السني مثلاً أن يحلم بأن يصير ذات يوم رئيساً لمجلس النواب؟ وقس على ذلك في كل المجالات.
وأي وطن هو هذا الوطن الذي تُوزَّع المناصب والمراكز والوظائف فيه على أساس طائفي مذهبي وليس على أساس الكفاءة والأهلية؟.
وأي وطن هو هذا الوطن الذي لا ثواب فيه ولا عقاب! هل سمعتم، ولو لمرة واحدة، أن أحداً جرت محاسبته ومعاقبته على جرم قام به أثناء ممارسته لوظيفته؟ وهل تناهى إلى آذانكم ذات مرة أن موظفاً ما تمت ترقيته لأنه أحسن في أدائه لعمله؟
أليس غريباً حقاً أن تكون المحسوبيات والولاءات السياسية والحزبية هي المعيار، وأن يكون الإنتماء الطائفي والمذهبي هو الذي يحدد مسار المحاسبة، ثواباً أو عقاباً!.
أليس غريباً حقاً أن ترى بأم العين والقلب والعقل أنه حين يُوجَّه اتهام ما إلى مسؤول كبير بخصوص شأن عام أو جرم يطال المجتمع، يهب المسؤولون الروحيون للطائفة التي ينتمي إليها للاستماتة في الدفاع عنه وللإعلان صراحة إن هذا الإتهام إنما يطال الطائفة بأسرها وليس المسؤول بذاته؟!.
ولقد رأينا أمثلة كثيرة عن ذلك ولدى مختلف الطوائف وبذلك تكون الحكاية جلية كعين الديك فالمسؤول إن سرق أو ارتكب جريمة ينبغي ألا يُحاسب على فعلته لأن في ذلك مساساً بطائفته وليس به فقط!.
فأي وطن هو هذا الوطن الذي تحمي كل طائفة فيه الفاسدين من أبنائها ولو كان ذلك على حساب الشأن العام؟!.
وأي وطن هو هذا الوطن الذي يصبح التوجه العام لدى الجميع بأن تتكتل كل مجموعة مذهبية بمفردها وليس على أساس تكتل جماعي تحت عنوان وحيد وضروري، هو الوطن، الذي ينبغي أن يكون واحداً لا ثاني له، ولكنه ليس كذلك!.
ونحن في بلد لا تستطيع أي طائفة أن تدعي أنها تشكل أكثرية. هنا كلنا أقليات، ولآننا كذلك، فإن كل طائفة تتقوقع حول نفسها مشكلة كياناً منفصلاً مستقلاً عن الوطن لكنها تعمل من أجل اكتساب حصصها فيه، ومن أجل الحفاظ على وجودها وحقوقها تسعى للبقاء قوية، لأنها إن ضعفت، تضيع حقوقها وتأكلها الجماعات الأخرى، ولكي تبقى قوية عليها أن تبقى متضامنة فيما بينها وملتزمة بالولاء لزعمائها. وكلما كان الزعيم قوياً، كانت الطائفة كذلك، واستطاعت نيل حصتها وأكثر!.
فأي وطن هو هذا الوطن الذي نشعر بالولاء لزعيم الطائفة أكثر من ولائنا له؟!
وأي وطن هو هذا الوطن الذي نشعر بأننا جزء أساسي من الطائفة وليس حزءاً منه؟!
وأي وطن هو هذا الوطن الذي يؤمن بعضه أن قوته في ضعفه والذي لا يسعى لتأمين الحماية لنفسه بنفسه، ومن مقوماته، وإنما لكل طائفة جهة خارجية تحميها وتدافع عنها! وبذلك نكون قد ركبنا ولاء إضافيا إلى جملة الولاءات الخارجة عن مفهوم الولاء الحقيقي والطبيعي للوطنهو الولاء للخارج!.
وأي وطن هو هذا الوطن الذي تختلف مكوناته على جنس الملائكة فيما المخاطر تحدق به من كل صوب والأعداء يدكون حصونه المتهاوية؟!.
وأي وطن هو هذا الوطن الذي منذ إنشائه لم يحكم نفسه بنفسه ولو لمرة واحدة، فهناك على الدوام جهة خارجية تتبرع لتحكمنا، فكأننا قاصرون عن ذلك أبد الدهر!.
ألا تذكرون أثناء الوجود السوري في لبنان، على سبيل المثال، كيف كانت الحكومات تتشكل خلال أيام إن لم يكن ساعات، وكيف صارت الأمور بعد الخروج السوري، حيث بات تشكيل الحكومات يحتاج إلى أشهر طويلة!
وبعد، قد يكون الفنان زياد الرحباني من أوائل من فهم هذه المعضلة وعبّر عنها فنياً، إذ يقول في أغنية غناها جوزف صقر، في مسرحية فيلم أميركي طويل:
(قوم فوت نام وصير حلم أنو بلدنا صارت بلد
قوم فوت نام بهالأيام حارة بيسكرها ولد
هاي بلد، لأ مش بلد، هاي قرطة عالم مجموعين، لأ مطروحين، لآ مضروبين، لأ مقسومين)
فأي وطن هو هذا الوطن المقسوم على نفسه بعدد مذاهبه وعدد أحزابه وتنظيماته السياسية
والذي لا يفرز العقل الجمعي فيه إلا انقساماً بحيث بات المفهوم السائد هو الإنقسام، وليس التوحد!
وبما لا مجال للشك فيه، فإننا ننقسم حول كل شيء، ولم يعد يجمعنا شيء، فأي وطن هو هذا الوطن الذي لا يجمعه كتاب تربية أو تاريخ موحد! فلكل طائفة كتبها، ولكل طائفة مفاهيمها ورموزها، فأدهم خنجر وصادق الحمزة ورفاقهم مثلاً، والذين نفذوا عمليات ضد قوات الإنتداب الفرنسي في الجنوب، هم رجال مقاومة في نظر هذه الطائفة، لكنهم رجال عصابات ومجرمون في نظر طوائف أخرى! وقس على ذلك.
وأي وطن هو هذا الوطن، التي لا تجمعنا فيه حتى الأحلام! بل إن الأحلام التي بناها الأخوان رحباني والسيدة فيروز في مسرحياتهم وأغنياتهم، والتي ظننا في لحظة تخلٍّ أننا توحدنا حولها ذات مرة، سقطت بالضربة القاضية تحت جسر اللوزية ولن يصل القطار الذي ينقلها، لأن المحطة ليست موجودة في الأساس، ولأن بياع الخواتم وجد أن بيع الخواتم لم يعد يجدي نفعاً فهاجر مع خواتمه وأحلامه إلى البرازيل!.
ذات يوم كتب جبران خليل جبران يقول: (الويل لأمة مقسمة.. كل ينادي أنا أمة) وكأنه كان يستشرف حالة بلده منذ ما يقرب من قرن من الزمن. فنحن الآن منقسمون حتى النخاع، متشرذمون حتى قرارة الكأس، واللبنان الجميل الذي لطالما فاخرنا بروعته، و(بهالكم أرزة العاجقين الكون) بات أثراً بعد عين.
فالفساد المستشري قضى على أصغر بارقة أمل وتركيبة النظام، منذ إنشائها، كانت نقمة وظلت نقمة وستبقى كذلك. والمشكلة الكبرى أنك إذا نظرت في هذا النفق الطويل الذي يمر به لبنان فلن ترى أي نقطة ضوء في نهايته، مهما صغرت، والمشهد القائم، والذي لا يبدو لي أن هناك أملاً في تبدّله، لا في المدى المنظور، ولا المدى البعيد، هو سواد في سواد في سواد!.
وأخيراً، وإن كنت لا أؤمن بالمعجزات، فإن الأمل الوحيد الذي يمكن أن يساعد في تلمس الوطن أو في بناء قواعد مختلفة لوطن مختلف، يكون فقط في تدمير النظام السياسي الطائفي القائم بأسره. في اقتلاعه من جذوره، والتأسيس لنظام جديد ينبني عليه وطن جديد، وطن حقيقي.
ولكن السؤال الكبير والمرير في آن هو: هل يمكن لهذا الأمر أن يتحقق؟ هل يمكن تدمير النظام الطائفي في لبنان؟ الجواب رهن بمعجزة تحدث، علماً أن زمن المعجزات قد ولّى منذ زمان بعيد!.