كان في نيتي منذ يوم 31 أكتوبر أن أضع بين يدي القراء و الطلبة، مقالا أو مقالين أشرح فيهما فكر العالم و المفكر الجزائري مالك بن نبي ، و ذلك بمناسبة الذكرى الثامنة و الأربعون لوفاة هذا العلامة المسلم المجدد، و قد توفي في الجزائر يوم 31 أكتوبر 1973، لكن فضلت أن أتيح لطلبتي فرصة البحث الرصين في فكر و كتابات هذا الرجل، خاصة و أني ألزمتهم بإعداد بحث جماعي عنه، سيكون محورا لنقاش مفتوح يوم الإثنين المقبل إن شاء الله تعالى، و بعد ذلك أعدكم بنشر مقال أو أكثر عن هذا المفكر العظيم، بل سوف يكون لفكره حضور في حلقات برنامج إقتصاد×سياسة على إعتبار أنه من القامات و الهامات المغاربية، و الذي لم تعرف مكانته و قيمته و قامته العلمية و النهضوية إلا بعد رحيله بعقود.. لذلك، فإن أعمار الأشخاص محدودة بين الستين و السبعين، لكن الأفكار لها عمر أطول يتعدى عمر البشر، لذلك فقيمة المرء تتحدد بإنتاجه المعرفي و مساهمته في نصرة قضايا دينه و أمته و وطنه و نصرة الحق بغض النظر عن صاحبه أو قائله او كاتبه، و للعلماء الربانيين أعمار أطول من غيرهم من البشر خاصة من أصحاب الثروات القارونية و المناصب السلطوية، رحم الله الرجل و أسكنه فسيح جناته، و أنزله منازل الصديقين و الشهداء و الصالحين و حسن أولئك رفيقا..
لكن مع ذلك فمقال اليوم قريب من مقال الأمس، و الذي دافعت فيه عن تصور و قناعة السيدة نبيلة منيب، بالرغم من أني لا أعرفها معرفة شخصية، و لكن ما يجمعنا هو الإيمان بنفس الفكرة و رحم الله مالك بن نبي الذي ميز بين عالم الأشخاص و عالم الأشياء و عالم الأفكار ، و سأحاول مجددا الدفاع عن موقف لشخص ليس لي به سابق معرفة، و لكن نتفق على نفس الفكرة و أعني الإعلامي اللبناني، ووزير الإعلام في الحكومة اللبنانية المعينة حديثا” جورج قرداحي” ، و ذلك على خلفية الهجوم الشرس الذي تعرض له من دول خليجية عندما عبر عن رأي لا يوافق هوى السعودية و دول التحالف …
فقد اعتبر “قرداحي” في مقابلة تلفزيونية بثت الإثنين الماضي، أن الحوثيين المدعومين من إيران “يدافعون عن أنفسهم.. في وجه اعتداء خارجي” من السعودية والإمارات، وقال قرداحي في برنامج “برلمان الشعب” الذي يذاع على موقع “يوتيوب” في إشارة إلى الحوثيين، “منازلهم وقراهم وجنازاتهم وأفراحهم تتعرض للقصف بالطائرات” التابعة للتحالف الذي تقوده السعودية. و بعد الضجة التي أثيرت حول تصريحاته رفض “القرداحي” الرد يوم الأربعاء الماضي على أسئلة الصحافيين كما رفض “الاعتذار” عن “آرائه الشخصية”. وقال “أنا لم أخطئ في حق أحد، ولم أتهجم على أحد، فلم أعتذر؟”. وأوضح أن الحلقة المثيرة للجدل تم تصويرها في آب/أغسطس قبل توليه منصبه بشهر…
هذا و قد أثارت تصريحات “قرداحي” موجة كبيرة من الغضب في عدد من بلدان الخليج ، خاصة و أن “القرداحي” له شهرة واسعة بأغلب البلدان العربية، و خاصة في دول الخليج على إعتبار أن برنامجه كان يبث على قنوات فضائية مملوكة لأمراء في الأسرة الحاكمة بالسعودية.. ولعل جبروت المال الخليجي و سطوته، هو الذي جعلهم يتهجمون على الرجل و على لبنان “الجريح”، بهذا الشكل الشرس و صدق من قال ” أاأسد علينا و في الحروب نعامة” ..
هذه الهجمة الشرسة دفعت الحكومة اللبنانية الثلاثاء الماضي، إلى إعتبار كلام قرداحي “مرفوض ولا يعبر عن موقف الحكومة إطلاقا، خصوصا في ما يتعلق بالمسألة اليمنية وعلاقات لبنان مع أشقائه العرب”، مشيرة إلى أنها جاءت في مقابلة أجريت معه قبل توليه منصبه الوزاري بعدة أسابيع…وقالت الرئاسة اللبنانية إن الرئيس ميشال عون “تابع المداولات التي طرحت خلال اجتماع” خلية الأزمة…وأضافت أن الرئيس جدد “التأكيد على حرصه على إقامة أفضل وأطيب العلاقات مع المملكة العربية السعودية الشقيقة، ومأسسة هذه العلاقات وترسيخها من خلال توقيع الاتفاقات الثنائية بين البلدين الشقيقين، بحيث لا تؤّثر عليها المواقف والآراء التي تصدر عن البعض، وتتسبب بأزمة بين البلدين لا سيما وأن مثل هذا الأمر تكرر أكثر من مرة”…
صراحة قد أسجل تحفظي على التمدد الإيراني في المنطقة العربية، و إن كنت أعتبر ذلك أمر طبيعي من زاوية العلاقات الدولية و الجيوإستراتجية، فكل الدول تسعى لتوسيع مجال نفوذها الحيوي، و تقوية نفوذها الاستراتيجي دفاعا عن مصالحها العليا و امنها القومي، و كنا نأمل لو أن البلدان العربية كانت قادرة على مواجهة هذا التمدد بنفس المنهجية، من خلال بناء قوة عسكرية و سياسية و اقتصادية قادرة على حماية المصالح الوطنية ، لكن المنطقة العربية شبه فارغة، و لذلك فهي ساحة لتنافس القوى الإقليمية و الدولية..بل بلداننا العربية و في المقدمة السعودية تحارب حلفاءها الطبيعيين و تدمر قوتها الناعمة بسلوكها العدواني و سياساتها الارتجالية و تبعيتها العمياء للأجندة الأمريكية ، فهل من المنطق أن يتم تدمير اليمن من قبل طائرات و سلاح مصدره بلاد الحرمين؟!.
ففي نشرة سابقة لمنظمة التغذية والزراعة “FAO” حذرت دول العالم بأن المجاعة تهدد ثلثي الشعب اليمني، هذا في الوقت الذي تستمر فيه العمليات العسكرية للتحالف العربي بقيادة العربية السعودية “جار اليمن”، هذه اليمن مهد للحضارة و شعب عريق و أصل العرب، يعاني اليوم خطر الجوع من التهجير و التدمير بأيدي و أموال خليجية …
الغريب في الأمر هذا التحول الراديكالي في توجهات السياسة الخارجية للمملكة العربية السعودية و تحولها من لعب دور “الحكم إلى الخصم” و من “الحليف إلى العدو”، فالمملكة كانت منذ نشأتها داعمة لقضايا الأمة الإسلامية والعربية… لكن هذا الموقف تغير بعد مشاركة المملكة بشكل سافر في الإطاحة بالرئيس المنتخب في مصر “الدكتور محمد مرسي” و استقبال قائد الانقلاب “عبد الفتاح السيسي” و تقديم الدعم المالي و السياسي لانقلابه على الشرعية و السلطة المنتخبة ديمقراطيا…
واستمر الانقلاب السعودي في السياسة الخارجية بالتدخل العسكري في اليمن و حشد تحالف يضم العديد من الدول العربية لتدمير شعب لم يكد يتخلص من استبداد سياسي تلقى الدعم من الغرب و الجار السعودي على وجه التحديد، لا نعلم على وجه التحديد دوافع هذا الانقلاب في السياسة الخارجية للمملكة السعودية، هل هو الخوف من تيار الإخوان المسلمين خاصة والإسلام السياسي عامة ؟
إذا كان هذا هو الدافع “فوبيا الإسلام السياسي” فإن المملكة السعودية تناقض نفسها، فهي في الأساس نشأة نتيجة لتحالف بين حركة إصلاحية دينية تزعمها الشيخ عبد الوهاب “الحركة الوهابية”، و أحد زعماء العشائر الأقوياء الذي قدم للحركة الوهابية الدعم المالي و العسكري بهدف توحيد قبائل الجزيرة العربية و إخضاعها لسلطة أل سعود، فالغطاء الديني لحركة “آل سعود” لا يمكن إخفاءه، بل شكل أساس “العصبية القبلية” التي أنشأت المملكة السعودية فيما بعد…
و العامل الثاني الذي – قد- يفسر عسكرة السياسة الخارجية للمملكة السعودية هو التخوف من المد الشيعي و التمدد الإيراني في المجال الحيوي السعودي، نعم من حق الدول أن تحمي مصالحها و مجالها الحيوي، لكن لا ينبغي أن يكون ذلك عن طريق اللجوء المفرط للقوة الصلبة لا سيما مع الإخوة الأشقاء و الجيران الأقارب ، فمخزون السعودية من القوة الناعمة لو استغلته بشكل ايجابي لجعلها قاطرة للعالم الإسلامي ، و التخوف من المد الشيعي هو دعاية أجنبية في الأساس وظفها الاستعمار الغربي لتوغل في المنطقة ونهب خيراتها ، فالكل يتذكر السياسة الانجليزية القائمة على مبدأ فرق تسد …
فتوغل الانجليز في نهاية القرن 19 و مطلع القرن 20 في الجزيرة العربية ومنطقة الشرق الأوسط كان بتأليب القبائل العربية على الوجد التركي و تسويق هدا الوجود التركي لعرب على أنه احتلال و استغلال و تأجيج النزعة القومية على حساب ضرب مفهوم الأخوة الدينية ، فمذكرات “لورانس العرب” تعطينا تفاصيل دقيقة عن ما سمي بالثورة العربية ضد الأتراك ، و لنا اليوم أن نتساءل ماذا جنى العرب من ثورتهم على الأتراك و ماذا حققوه من هيمنة الانجليز والغرب على مصيرهم و مقدراتهم..؟
فالغرب اليوم يسوق للفتنة الطائفية الشيعة والسنة ، و “للإسلام المتطرف” مقابل “الإسلام المعتدل”، و “الإسلام الأصولي” و “الإسلام الجهادي” إلى غير ذلك من المصطلحات التي تقود جميعها إلى محاربة الإسلام و قتل كل أفق للوحدة بين الشعوب الإسلامية …و الواقع أن الجميع لم يقترب من حقيقة الإسلام و التي لم و لن يستطع أحد على وجه البسيطة تحريف مدلولها لأن منزل القران و الوحي على النبي محمد عليه الصلاة والسلام التزم بحفظ القران من كل تحريف مصداقا لقوله تعالى في محكم كتابه: ” نحن نزلنا الذكر و نحن له حافظون”…
إن حقيقة الإسلام تنافي ما يحدث اليوم في بلاد الإسلام من قتل للآمنين و سفك دماء المستضعفين و تجويع البطون و تشريد النساء و الولدان… فالإسلام جاء لحفظ النفس و العرض و المال، الإسلام جاء لتحرير الإنسان و إخراجه من عبودية الناس لعبودية رب الناس، الإسلام جاء لإرساء قيم العدل و المساواة بين الحاكم و المحكوم ، الإسلام جاء لنبذ الظلم و الجور ، الإسلام جاء لنبذ الفرقة و إشاعة التسامح بين الناس و ترسيخ حرية المعتقد و تمجيد حرية الفكر و الإبداع…
فهل ما يحدث اليوم في حق شعوب عربية وإسلامية بيد إخوة في الدين و التاريخ و الجغرافيا هو من روح الإسلام كلا تم كلا…ما يحدث هو نوع من القرصنة والاستعلاء على المستضعفين، كنا سنؤيد هجمات التحالف العربي لو دافعت عن حق الشعب الفلسطيني ضد العدوان الصهيوني، كنا سنؤيد رفض السعودية و حلفاءها لتدمير العراق من قبل الاحتلال الأمريكي، و كنا سنؤيد انحياز المملكة للشعوب العربية التي ثارت ضد الظلم و الاستبداد و توسطها لدى الحكام لترك مناصبهم دون إراقة الدماء…
أما أن تدعي السعودية و حلفاءها في الخليج أنهم يدعمون الشرعية في اليمن فهو إدعاء باطل من الأساس، فلماذا دعموا الانقلاب على الشرعية في مصر و تحملوا تكاليف الانقلاب ؟ للأسف انه نوع من النفاق لسياسي و “سياسة الكيل بمكيالين” ، غن الدافع الحقيق وراء عسكرة السياسة الخارجية السعودية و الخليجية لقمع حرية الشعوب العربية المستضعفة هو نوع من الحرب الاستباقية خوفا من انتقال المد التحرري لبلدان الخليج و هو ما يشكل تهديدا لمناصبهم و مكاسبهم…
الواقع أن الاستبداد السياسي داء قاتل للأمم و حتى للأنظمة المستبدة، لو فكرت بلدان الخليج بمنطق برغماتي، لوجدت أن التنمية خير سبيل لدعم الاستقرار و السلم (على سبيل المثال النموذج الأوروبي و الآسيوي)، فلو وظفت السعودية نصف ما أنفقته في حملتها العسكرية للاستثمار في اليمن لتمكنت من كسب شعبا حرا وعزيزا حليفا لها و لقضاياها، و ليس مجرد شخص أو جماعة… ونفس الشيء ينطبق على الحالة المصرية فنصف الأموال التي تم ضخها في خزائن الانقلاب العسكري، لو استثمرت في مصر أيام وجود نظام شرعي منتخب لا تمكنت اليوم مصر أن تبني ذاتها و تصبح قوة إقليمية مساندة لحق الشعوب العربية المستضعفة، ودون شك كان لمثل هذا المنحى الايجابي دورا في تعزيز أمن الخليج في مواجهة الابتزاز الإيراني و الأمريكي الذي لن ينتهي إلا بإفراغ خزائن الشعوب الخليجية… … “هذا بيان للناس وهدى و موعظة للمتقين” (الآية 138 آل عمران) ..و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون..
د. طارق ليساوي إعلامي وأكاديمي متخصص في الاقتصاد الصيني والشرق آسيوي، أستاذ العلوم السياسية والسياسات العامة..