إنه بمقتضى وفاء الزمالة والصداقة -رغم فارق السن بيني مع المرحوم الزايد ولد خطاط - أجد نفسي من الواجب علي أن أ ذكر بعض ما ا عرف عنه من حسن الخلق بمقتضى علا فتي به ، وكذا ما اطلعت عليه من تضحياته ومناقبه مما سمعت منه شخصيا او عرفته من اصداقاء ناصريين يستحيل تواطؤهم على الكذب في شأن ما ينقلون عنه .
إني قد تعرفت على المرحوم بعد تخرجي من جامعة المرحوم الملك الحسن الثاني في الدار البيضاء في شهر يناير سنة 1986م
لقد قابلته ولأول مرة في إحدى الملتقيات الناصرية الكثيرة في انواكشوط يوم كنا معا نحاول لملمة شتات التنظيم الناصري الذي فكك - عمليا - من طرف مخابرات الدولة بعد حراكه الشامل الذي عم معظم التراب الوطني ، سنة 1984م حيث تعرض لهجمة شرسة من نظام محمد خونا ولد هيداله ، تلك الهجمة التي أسفرت عن شهيدين ومئات السجناء ، حيث أثخنت تلك الهجمة في كيان التنظيم الحديث النشأة نسبيا ، والذي لم تسبق له تجارب نضالية مماثلة .حيث كانت بداية نشأته الأولى بعد إنقلاب 1978م مباشرة .
إذا لقد التقيت المرحوم لأول مرة ضمن مجموعة من الناصريين تسمي نفسها ب ( جماعة الطرح )
ولقد تجاوزته نظراتي لأول مرة بسبب صغر سنه وهو ذلك الشاب الأسمر الوسيم ذو الشعر الهندي الكث . ولكن سرعان ما تكلم الفتى بارقة عيناه ثم ابتسم فافترت شفتاه عن أسنان أغلب الظن أن صاحبها لم يدخن ابدا من قبل واعتقد كذلك أنه لايتعاطى شرب القهوة ولا الشاي وذلك لنضارة أسنانه ، ولقد شدني إليه أكثرما استهل حديثه بأحسن منطق وأعذب نبرة واكثرها إيضاح رؤية ، وانبل أهداف وحدوية جامعة متصالحة مع الذات النضالية الناصرية ، كماعتها أيام كان ذلك النضال نقيا طهوراخاليا من شوائب الأغراض النفعية الذاتية الآنية .
ثم بقينا بعد ذلك اللقاء على اتصال وقد كان المرحوم شعلة نور مضيئة لا تعرف الخلود إلى الراحة أو الكسل .
إنه قد كان يحضركل تجمعات المصالحة بين المجموعات الناصرية المختلفة ، وقدكان في نفس الوقت يبحث عن قبر الشهيد سيدات من اجل بناء ضريحه ، وقد حقق كل ذلك بمساعدة إخوته الناصريين ، ثم لليقوم لاحقا بجمع المال لمساعدة بعض المحتاجين من الناصريين وغيرهم من الفقراءالوطنيين .
وفي نفس الوقت يداوم في عمله بإنتظام ويعد كذلك العدة لإيجاد صندوق خاص على مستواه هو وزميلنا السالك عمار - أمد الله في عمره - وكذا بعض الممرضين الشرفاء وذلك من أجل مساعدة المرضى المعدمين .
وظل الأمر على ذلك المنوال إلى أن أصبت في احد أيام غشت من سنة 1997م بوعكة صحية قادتني إلى قسم المستعجلات في المستشفى الوطني ، حيث كانت تلك المناسبة التي جعلت المرحوم الزايد يبقى بجانبي معظم أوقات فراغه من عمله الرسمي . وكان رحمه الله يشرف على تمريضي ، ولما يخلو المستشفى من الموظفين والزوار فيبدأ يطرح علي بعض الأسئلة المتعلقة ببعض الممارسات النضالية التي كنّا نقوم بها ، ولم تنشر يومئذ لعموم الناصريين وذلك خوفا عليها من الضياع إذا ماوافاني الأجل حينئذ وهو أمر كان محتملا . وقد كنت أبوح له بما كان يسمح به التنظيم في تلك الفترة من أمور تتعلق بنضالنا . وكنت أنا بدوري أسأله -لما يتوقف عني الألم - عن تجاربه هو ايضافي العمل النضالي الناصري حيث كان هوالآخريمدني بما لديه من معلومات يسمح له بها فرعه التنظيمي ، لأن معظم انشطة الناصريين يومئذ تخضع للسرية التامة وليس مسموحا بالبوح بها .
ومما أخبرني به يومئذ مما لم يكن لي به علم سابق ، هو فترته في الجزاير كمتدرب فني عالي في مجال تحاليل الدم ، حيث قال لي بأنه قد استغل فترة وجوده في الجزاير حيث يوجد قادة تحرير الثورة الجزائرية( ثورة المليون ونصف المليون شهيد ) لكي يتعلم منهم الكثير ، وقد ظل يرحمه الله يستغل أوقات فراغه بحثا عن اولئك القادة حتى اهتدى بعد جهد جهيدإلى المسجد الذي يرتاده المرحوم بنبله -وذلك بعد إطلاق سراحه من سجنه الطويل - وقد أصبح هو أيضا يصلي في ذلك المسجد ويوما بعد يوم صار يقترب من مكان مصلى الرئيس الجزائري الأسبق المرحوم بنبله ، إلى أن جلس بجانبه تماما في ذلك المسجد الفسيح ، ومن متابعة بنبله لخطب المرحوم الزايد قبل خطبة الإمام ، حيث جذبته ، والذي كان بعد تعرفه عليه ومعرفة ما مدى مصداقيته واخلاصه لمبدئهما المشترك ، فحينئذ دعاه بنبله ذات يوم إلى منزله ، ومع طول الوقت صارا زميلين يتواصلان على الدوام رغم الفارق في السن والتجربة وحتى الوظائف ، فذلك رئيس سابق والزايد مجرد طالب متدرب ، وغير ذلك من الفوارق ، مثل كون بنبله عمره يقترب من الثمانين سنة .أما الزايد فلا يكاد عمره يبلغ بعد 25 سنة من العمر !
وقد قال لي رحمه الله بإنه قد استفاد كثيرا من افكار الثورة الجزائرية من خلال ماحدثه به عنها المرحوم بنبله كما استفاد ايضا من افكار الرجل وشجاعته وإقدامه. حيث حدثه أنه مثلا قدقاد فرقة عسكرية من الجيش الفرنسي قوامها خمسمائة جندي وهاجم بها تحت قيادته فيلقا عسكريا في الهند الصينية أبادوا معظمه ، وعاد هو من فرقته بخمسين جنديا فقط . وبتلك العملية نال أعلى وسام فرنسي وقد شفع له ذلك الوسام لاحقا و نجاه من تنفيذ حكم الإعدام الصادر عليه في فرنسا لدوره القيادي في جبهة التحرير الجزائرية ! ولولاطموح الزايد وثقته في نفسه لكان دوره في الجزاير كأي طالب يأخذ دروسا ثم شهادة ويذهب بذلك دون الإستفادة من تراث ثورة الجزائر العظيمة !
إذا بقيت عدة أسابيع في ذلك المستشفى واحاديثي متواصلة مع المرحوم حسب ما يسمح به الوقت إلى أن لاحظ الطبيب المشرف على علاجي حينئذ استمرارية حضور الزايد معي على الدوام -غير المبرر من وجهة نظر ذلك الطبيب - مماجعله يسأله أمامي قائلا له السيد الزايد فما قرابتك بهذا المريض ، فهل هي قرابة نسب أم مصاهرة أم ما ذا ؟، فقد كان رد المرحوم سريعا وجازما وبدون تردد -قائلا - بل أقرب من كل ذلك ، فحول الطبيب سؤاله إلي هذه المرة قائلا فلان ماهي قرابتكما انت والزباد فقلت له فهو ماذكرلك الزياد ، وفِي حقيقة الأمر هي قرابة لاأعرف مصطلحا يترجمها من أي لغة ! فسكت الطبيب وأظنه غير مقتنع بما سمع منا !
وقد أنتهى ذلك الحديث يومئذ مع ذلك الطبيب ، وقد بدأت بعد ذلك بعدة أيام حالتي الصحية تتدهور ، مما تطلب رفعي فورا إلى دكار قصد العلاج . و قد تقرر أن يكون ذلك في الرابعة صباحا من مساء تلك الليلة ، ورما قد علم الزايد بذلك الخبر وفِي ما صديقي محمد الامين ولد محمد الحسن ، وزميلي محمد محمود ولد امحمد ، واخي دحيد يحالون حملي في سيارة اسعاف لتقلنا إلى دكار ومعنا الممرض الزنجي ، وإذا بالزايد قادما إلينا وعلى كتفه الأيمن حقيبة صغيرة وقبضة يمناه مفركة عن ورقة نقدية من فئة خمسمائة أوقية خضراء ، ثم قال : فهذه هدية يجب عليك تقبلها مني لأني لم يحصل لي العلم بسفرك الا في وقت متأخرمن هذه الليلة ، وأعلم أنها هدية متواضعة جدا وإلم تقبلها مني فربما ذلك يؤثر على صحة قلبي المتعب اصلا كما حدثتك عنه سابقا ، وعسى أن تكون فيهابركة موروثة من جدود صالحين .
وقد كان ذلك آخرلقاء بيننا على مستوى ماذكرت .
وبعد ذلك سافرت إلى السنغال وتعالجت فيه في مستشفى (ابرينسبال ) وقد شفيت ولله الحمد من ذلك المرض وعدت إلى الوطن ، لترغمني الظروف لاحقا على الهجرة من جديد إلى الولايات المتحدة الآمريكية قصد العلاج من جهة ، ثم العمل من أجل إعالة الأسرة من جهة ثانية .
وفي الولايات المتحدة وأنا أتابع خبر المرحوم كباقي الأصدقاء حيث قد علمت بإحدى بطولاته ، وهي تتلخص في كونها لما زار وفد طبي صهيوني موريتانيا في إطار التطبيع ، مع العدو من أجل إنشاء قسم لمكافحة السرطان . وكان حضور ذلك الوفد إلى مكتب الدكتور الطبيب الجراح صديقي المحترم باب الطالب الذي رفض مصافحة أفرادالوفد اليهودي ، وقد كان ذلك بحضور المرحوم الزايد الذي بادر بصع رئيس الوفد الصهيوني على وجهه ، حيث اعتقلته الشرطة التي كانت في معية الوفد اليهودي تحرسه، وقد أصر رئيس الوفد الايغادر المكان حتى يطلق سراح الزايد ، لا شفقة به ، ولكن حسدا وخوفا من ان تشيع تلك الحادثة البطولية و تشجع الشباب الوطني على المزيد من إيذاء الصهاينة الذين بدأوا يومئذ يتقاطرون كالجراد على بلادنا للأسف الشديد .
فهذا كل ما أستطعت استخراجه من ذاكرة بدأت تنتقل إليها عدوى الشيخوخة للأسف .
وفِي يوليو من سنة 2004 م قد بلغني ببالغ الحزن والأسى نبأوفاة المرحوم الزايد الذي عمق في جداني نبأ وفاته جرحا عميقاكان دفينا لم يندمل بعدو منذ وفاة المرحوم محمد الأمين ولد محمد الحسن ، الذي أتمنى له وللمرحوم الزايد ولوالدي ولكافة المسلمين الرحمة والغفران وجنة الرضوان ، وأن يلهم ذويهما الصبر والسلوان وأن يعوض أمتهم العربية والاسلامية من يخلفهما في ذلك الفراغ الذي تركا ، كما أطلب من عائلتي المر حومين بأن يخلدانهما من خلال تسمية مايزدادون به من أبناء أو أحفاد باسميهما ، واطلب من الله العلي الكريم أن يمن على اولئك الابناء و الاحفاد( سمييهما ) بالسعادة في الدنيا ، والرحمة والغفران في الآخرة .
إسلمو محمد المختار ولد مانا .