لقد حاولت الولايات المتحدة الأمريكية في بداية الأزمة السورية، عام 2011، أن تلعب دوراً رئيسياً فيها، يتماشى مع ما كانت تتصوره آنذاك من قدراتها “غير المحدودة” في الهيمنة على العالم.
قامت حينها القوات الأمريكية باستخدام سلاح الجو ضد مواقع الإرهابيين على الأراضي السورية، دون التنسيق مع سلطات دمشق، وهو ما يخالف أبسط الأعراف الدولية فيما يخص احترام سيادة الدول على أراضيها.
كذلك قامت واشنطن وحلفاؤها بتدريب وتسليح مجموعات المعارضة السورية، التي ينتمي بعضها لأفرع ترتبط من قريب أو بعيد بتنظيمات مصنفة بأنها إرهابية، لتتواجد قواتها فيما بعد على الأراضي السورية في الشمال الشرقي والغربي وسيطرتها على حقول النفط التي تشكل أحد أهم مصادر الاقتصاد السوري، وفي بعض مناطق الجنوب، في تناقض صارخ مع قرار مجلس الأمن رقم 1373، لسنة 2001، الذي صدر بالإجماع ودون مناقشة مباشرة بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر، والذي “يحظر على رعايا الدول أو الأشخاص أو الكيانات داخل أراضي الدول إتاحة أي أموال أو أصول مالية أو موارد اقتصادية أو خدمات مالية أو غيرها، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، للأشخاص الذين يرتكبون أعمالاً إرهابية، أو يحاولون ارتكابها، أو يسهّلون أو يشاركون في ارتكابها، أو للكيانات التي يمتلكها أو يتحكم فيها، بصورة مباشرة أو غير مباشرة هؤلاء الأشخاص، أو للأشخاص والكيانات التي تعمل باسم هؤلاء الأشخاص أو بتوجيه منهم”.
نذكر جميعا كيف وقف العالم حينها بجانب الولايات المتحدة الأمريكية، ووفرت الجمهوريات المتاخمة لروسيا، طاجيكستان وأوزبكستان وقيرغيزستان قواعدها العسكرية لفرنسا وألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية لتسديد ضرباتها ضد تنظيم القاعدة، الذي كانت ترعاه حركة طالبان المصنفة إرهابية حتى يومنا هذا، ولحين إشعار آخر.
لكن العقد الماضي، وباندلاع الأزمة السورية، شهد خلافاً استراتيجياً وتكتيكياً بين موسكو وواشنطن بشأن سوريا، حينما اعتدت الولايات المتحدة الأمريكية، وهي قوة عظمى، وعضو دائم في مجلس الأمن، على سيادة دولة أخرى، عضو في هيئة الأمم المتحدة، بل وساندت بعض الإرهابيين بدلاً من القضاء عليهم، تحت شعار “عدو عدوي صديقي”، حتى وصل الأمر لاقتراب هؤلاء من محيط دمشق، التي كانت على وشك السقوط، لولا التدخل العسكري الروسي، الذي جاء بطلب رسمي من السلطات السورية الشرعية، المعترف بها من المجتمع الدولي شئنا ذلك أم أبينا.
من هنا، ظهر أحد جوانب الخلاف الاستراتيجي بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية، وهي مشاركة روسيا في الدفاع عن الدولة السورية أمام خطر وجودي يتمثل في تنظيم داعش المصنف تنظيماً إرهابياً دولياً في الوقت الذي كانت الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها على الجانب الآخر من المعادلة.
تكتيكياً، لا تعترف الولايات المتحدة الأمريكية بـ “نظام الأسد”، وبالتالي فهي لا تستطيع التعامل معه رئيساً للجمهورية العربية السورية، وتعتبره فاقداً للشرعية، في الوقت الذي لا ترى روسيا ممثلاً شرعياً عن الدولة السورية، في إطار القوانين والأعراف الدولية سوى القيادة الراهنة في دمشق، وعلى رأسها الرئيس السوري، بشار الأسد.
كذلك فقد فرضت الولايات المتحدة الأمريكية عقوبات وحصار اقتصادي خانق على سوريا، ما أدى إلى تدهور الوضع الاقتصادي بشكل حاد للغاية، ووقع غالبية الشعب السوري ضحايا لهذه العقوبات، ووصل المستوى المعيشي اليومي للسكان إلى مستويات كارثية، حيث تنعدم أبسط مقومات الحياة في أغلب المناطق السورية، من ماء وغذاء وعلاج وتدفئة وتعليم وغيرها.
لقد سعت روسيا منذ البداية أن تكون جميع نقاط القرار رقم 2254 لمجلس الأمن شديدة الوضوح، حتى لا تتكرر تجربة تفسير قرار مجلس الأمن رقم 1973 لعام 2011، بفرض حظر جوي على ليبيا، الذي امتنعت روسيا والصين عن التصويت لصالحه، ثم اتخذته واشنطن وحلفاؤها ذريعة لقصف ليبيا، ففتح الباب أمام حرب أهلية لا زلنا نتابع تفاصيل تداعياتها حتى يومنا هذا.
أقول إن روسيا شاركت بمداخلات كان الهدف منها دائماً توضيح كل نقطة من هذا القرار، أذكر هنا أبرزها:
أن الحل لابد وأن يكون سوري سوري.
أن يكون التوافق بين طرفين أحدهما النظام، والآخر المعارضة، وتم تحديد من يمثّل المعارضة من منصات الرياض وموسكو والقاهرة، وأضيفت كذلك كلمة “وغيرهما”.
الحفاظ على سيادة الجمهورية العربية السورية ووحدة أراضيها.
كذلك فقد قامت موسكو على أثر ذلك بأنشطة كثيرة للمساعدة في تنفيذ القرار، من بينها كان لقاء موسكو-1، وموسكو-2 في عام 2015، ثم لقاء سوتشي 2018، وكانت كل هذه الأنشطة تهدف لإتاحة الفرصة لإجراء الحوار السوري بين النظام والمعارضة، بغرض وضع خارطة طريق تسمح بتنفيذ القرار 2254، وكانت موسكو تصرّ دائماً على مشاركة هيئة الأمم المتحدة في جميع هذه الجهود.
كان ذلك ولا زال يتم بالتوازي مع مئات اللقاءات مع مختلف الأطراف والشخصيات السورية التي زارت موسكو، وكذلك الزيارات الرسمية للمسؤولين الروس إلى دمشق، كذلك فقد تم التوصل، بمبادرة من موسكو، إلى اتفاق أستانا، الذي يشمل أربع مناطق للتهدئة، ووقف لإطلاق النار، وهو ما أسهم في تفادي وقوع معارك بين تركيا والأكراد في شمال شرقي سوريا.
إلا أن جميع هذه الجهود، لا يمكن أن تكلل بالنجاح، طالما كان الولايات المتحدة الأمريكية لا تساهم بشكل فعلي في تنفيذ القرار 2254، بل وتعمل في كثير من المناسبات على تعطيله، بتجاهلها النظام في دمشق كطرف أساسي، معتبرة إياه كما أسلفت “فاقداً للشرعية”. كذلك فمن غير الواضح بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية تمثيل المعارضة السورية، ومع من تتعامل، وتفسيرها للقرار. فكما يتضح من سلوكها، فإن الولايات المتحدة الأمريكية هي أول من يخالف هذا القرار، ويعرقل تنفيذه، خاصة وهي ذاتها الدولة المعتدية على السيادة السورية، دون أي مسوغ من القانون أو الأعراف الدولية، وهو ما أدى عملياً إلى تقسيم شمال شرق وشمال غرب سوريا.
بل إن واشنطن تشجع الأكراد على عدم التجاوب مع جهود روسيا للتواصل بينهم وبين القيادة في دمشق، للتوصل إلى اتفاق يرضي جميع الأطراف بشأن شكل النظام الذي يراعي حقوقهم القومية، والثقافية في مناطق تجمعهم ضمن الدولة السورية الواحدة، دون اللجوء لأي مشاريع انفصالية.
وأدى عدم تعاون الطرف الأمريكي في الجهود التي تقوم بها روسيا والمبعوث الشخصي للأمين العام لهيئة الأمم المتحدة، إلى تجميد تنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 2254، وهو ما خلق أرضية لبعض أجنحة القيادة في دمشق كي تتجاهل القرار، لعدم رغبتها في التنازل وتقاسم السلطة مع المعارضة، خاصة وأنها قد حصلت على معظم مآربها بالقتال، وهو ما جعل أيضاً أطرافاً في المعارضة تتخذ مواقف مقابلة متطرفة وغير واقعية، ثم جاءت العقوبات الأمريكية، وبخاصة قانون “قيصر” لتشكل عقاباً جماعياً للشعب السوري بأسره.
في الوقت نفسه، يواجه الوضع في الجنوب السوري هو الآخر وضعاً معقّداً وخطراً، وتلك هي المنطقة الرابعة من مناطق خفض التصعيد التي تم التوصل إليها خلال اتفاق شاركت فيه روسيا والولايات المتحدة الأمريكية والأردن وإسرائيل (الدولتان اللتان تربطهما حدود مع سوريا)، ولم تشارك فيه إيران وتركيا، بمعنى أن الاتفاق بشأن هذه المنطقة جرى خارج إطار مجموعة أستانا، وهو ما تسبب في لوم تركيا وإيران لموسكو على الرغم من تقديم موسكو تفسيرها بعدم وجود حدود مشتركة لتركيا في هذه المنطقة، وخصوصية هذه المنطقة بسبب الحدود المشتركة مع الأردن وإسرائيل.
فمن ناحية ترى دمشق ضرورة عمل مؤسسات الدولة السورية على جميع التراب السوري دون استثناء، وتجد ذلك من جوهر مقومات سيادة الدولة على أراضيها، في الوقت الذي تعارض فيه الأغلبية الساحقة من الأهالي في الجنوب السوري النظام الحالي في دمشق، ويعتبرون الوعود التي قدّمتها إليهم مجموعة أستانا وهيئة الأمم المتحدة لم تدخل حيز التنفيذ بعد، وطال أمد تنفيذ عملية الانتقال من 6 أشهر إلى أكثر من 3 سنوات الآن، وعلى الرغم من تسليمهم الأسلحة الثقيلة، لم يتم الإفراج عن الموقوفين أو حدث أي تقدّم بشأنهم، على العكس من ذلك تستمر عمليات الاعتقال، وتحاصر قوات النظام درعا البلد، وتتبع سياسة تجويع سكان مناطق بأكملها.
أما روسيا، فتقف وسيطاً بين الحكومة السورية والمعارضة، لعدم حدوث صدام عسكري، وتتفهم مشاعر أهالي الجنوب، لكنها لن تسمح بنشوب حرب هناك تحت أي ظرف من الظروف.
إن الخلاف الروسي الأمريكي في طريقة التعامل مع الملف السوري ينطبق كذلك على باقي ملفات الشرق الأوسط، والتي يعد أهمها وأقدمها القضية الفلسطينية، التي لا زال الموقف الروسي حيالها واضحاً وجلياً وشفافاً، وهو تنفيذ قرارات مجلس الأمن والقرارات ذات الصلة الصادرة عن هيئة الأمم المتحدة، وقيام الدولة الفلسطينية المستقلة على أراضي الرابع من يونيو حزيران عام 1967، بما في ذلك القدس الشرقية، في الوقت الذي تقوم فيه الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل بتجاهل قرارات الأمم المتحدة، بل وتعملان على تعقيد الأزمة بمبادرات سياسية وهمية مثل “صفقة القرن”، والاعتراف بمرتفعات الجولان السورية “أراضٍ إسرائيلية” في خرق صارخ في وضح النهار لجميع قرارات الشرعية الدولية بشأن الجولان المحتلة، ثم ما حدث مؤخراً من محاولات التهويد والاستيطان والحد من الترابط الجغرافي الفلسطيني مع أسوار القدس القديمة، باستهداف الاحتلال لقرية الشيخ جراح التابعة لمحافظة القدس المحتلة. فالولايات المتحدة الأمريكية ترى في تقديرها أن قرار مجلس الأمن رقم 242 لم يعد واقعياً نتيجة الوضع الراهن على الأرض، وأنه يجب العمل على استصدار قرار جديد!
إن خروج الولايات المتحدة الأمريكية من أفغانستان، بعد عقدين من الزمان، وما يقدر بـ 176 ألف قتيل، وإنفاق ما يربو على تريليوني دولار، يضع أمامنا حقيقة في منتهى الوضوح، وهي أنه لن يمكن التوصل إلى حل الكثير من الأزمات حول العالم دون دور فعال لهيئة الأمم المتحدة، وخاصة مجلس الأمن الدولي، الذي تقف واشنطن عائقاً أمام قراراته. من الواضح كذلك أنه لا يمكن التوصل إلى حل للأزمة السورية وإزالة خطر تقسيم سوريا دون وفاق روسي أمريكي، يدفع كافة أطراف الأزمة نحو تنفيذ القرار 2254، ويجنب الأوضاع في سوريا مزيداً من التعقيد، ومزيداً من التدهور، ويضع حداً لمعاناة ملايين السوريين في الداخل والخارج على حد سواء.
لن يستفيد أحد من سوريا “المقسّمة”، أو سوريا “الدولة الفاشلة”، كما لن يتمكن أي من الأطراف من بسط سيطرته بالقوة وحدها، ولن يستفيد أحد من دفن القرار 2254، الذي يمثل المخرج الوحيد من الأزمة السورية. ويجب على الجميع الالتفات إلى الأزمة الإنسانية العميقة التي يعيشها الشعب السوري، الذي لا زال ينتظر قرارات حاسمة من المجتمع الدولي كي تمضي الدولة السورية الجديدة قدماً نحو التقدم والازدهار وتضميد الجراح الغائرة.
رامي الشاعر