أي جهود إقليمية مشتركة يمكن الحديث عنها مع استمرار العداوات والخلافات بين معظم دول المنطقة، وقد كانت جميعاً في خندق واحد مع أميركا والدول الغربية ضد سوريا وإيران التي دعمتها؟
مجرد أن نُلقي نظرةً عاجلةً على المشاركين في "مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة" سنرى معاً مدى نجاح مصطفى الكاظمي، المدعوم أميركياً وفرنسياً، في جمع كل التناقضات على طاولة واحدة. فقد شارك في المؤتمر الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الذي التقى الأمير القطري، تميم بن حمد، الحليف الاستراتيجي بلا رجعة للرئيس التركي رجب طيب إردوغان، العدو الأكبر للسيسي الذي أطاح بحكم الإخوان المسلمين وهو ما لن يغفره له إردوغان حتى يوم القيامة!
فبعد مساعي التودد التي بدأها إردوغان للمصالحة مع السيسي بوساطة قطرية استمرت في بغداد، ما زال السيسي يضع بعض الشروط، وأهمها عدم التدخل في سوريا وليبيا والعراق والصومال، وهو ما لن يقبل به إردوغان بأي شكلٍ كان، حتى وإن تصرف عكس ذلك. كما لن يقبل إردوغان التخلي عن دعم الإخوان المسلمين والإسلاميين عموماً، سياسيين ومسلحين، والذين بسببهم جاء تميم إلى السلطة خلفاً لوالده قبل أسبوع من انقلاب السيسي في 3 تموز/يوليو 2013، حيث وقفت السعودية ومعها الإمارات إلى جانب القاهرة ضد أنقرة والدوحة اللتين تحالفتا في السراء والضراء بعد التوتر الخطير بين دول الخليج، في حزيران/يونيو 2017، حين أرسل إردوغان جيشه إلى الدوحة لحماية آل ثاني.
لم يمنع كل ذلك أيضاً محمد بن راشد من اللقاء مع الأمير تميم ليقول عنه إنه "شقيق وصديق" ناسياً أو متناسياً ما قاله كل طرف عن الطرف الآخر، خلال السنوات الأخيرة، وهذا هو حال الرئيس إردوغان الذي استقبل الأسبوع الماضي طحنون بن زايد آل نهيان في أنقرة.
الموقف المبدئي الوحيد أتى من وزير الخارجية الإيراني الجديد أمير عبد اللهيان الذي زار ضريح الشهيدين قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس قبل أن يلقي كلمته في المؤتمر باللغة العربية عسى أن يفهم الزعماء العرب الموقف الإيراني.
بوضوح، ومن دون أي تردد، هاجم عبد اللهيان أميركا مباشرةً محملاً إياها مسؤولية الوضع الحالي في المنطقة، وبشكل خاص في سوريا، وهو يعرف أنّ جميع الموجودين في الصالة هم من حلفاء واشنطن، والبعض منهم حليف تل أبيب.
وأما عن البيان الختامي للمؤتمر فقد كان في قمة التناقضات عندما "شدد على أهمية توحيد الجهود الإقليمية والدولية لضمان استقرار الشرق الأوسط، لأنّ المنطقة تواجه تحديات مشتركة تقتضي تعامل دول الإقليم معها على أساس التعاون المشترك والمصالح المتبادلة، ووفقاً لمبادئ حسن الجوار وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول واحترام السيادة الوطنية".
والسؤال هو: أي جهود إقليمية مشتركة يمكن الحديث عنها مع استمرار العداوات والخلافات بين معظم دول المنطقة، وقد كانت جميعاً في خندق واحد مع أميركا والدول الغربية ضد سوريا وإيران التي دعمتها؟
وبالتالي، كيف لنا أن نتحدث عن "مبادئ حسن الجوار وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول واحترام السيادة الوطنية" في الوقت الذي تتواجد فيه القوات التركية في سوريا والعراق وليبيا والصومال وقطر، وهو ما لم يتطرق إليه البيان أو أيٌ من المتحدثين بمن فيهم مصطفى الكاظمي الذي لم يتطرّق ولو بكلمة واحدة للغارات الجوية التركية اليومية على شمال العراق والذي يضم أكثر من 20 قاعدة تركية. واعتبر الوزير جاويش أوغلو هذا التواجد حقاً للأتراك، مؤكداً على أنّهم لن يقبلوا بأي تواجد لحزب العمال الكردستاني التركي في المنطقة.
ولم يتطرّق هو أو أي مسؤول عربي إلى مسألة التواجد الأميركي والفرنسي والبريطاني والإيطالي والألماني وحتى الإسرائيلي، ليس فقط في شمال العراق بل في شمال شرق سوريا. كما لم يتذكّر أحدٌ الدعم الغربي وخاصة الأميركي والفرنسي (ماكرون زار أربيل بعد المؤتمر) لكرد سوريا من أجل الانفصال، وهو ما يهدد تركيا أكثر من سوريا باعتبار أنّ الوحدات الكردية هناك هي الذراع السوري لحزب العمال الكردستاني التركي.
رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي الذي أكد على "أهمية أمن العراق بالنسبة للمنطقة" يبدو أنّ معلوماته الجغرافية ضعيفة، وإلا كان عليه أن يتذكّر أنّ لا أمن للعراق من دون سوريا، والعكس صحيح، وإلا لما سمّى البغدادي إمارته "الدولة الإسلامية في العراق والشام".
وإن قبلنا تفسير وزير الخارجية فؤاد حسين لعدم دعوة سوريا إلى المؤتمر، واعتبرنا ذلك جزءاً من تصرفاته لكسب ود واشنطن (بايدن هنأه لنجاح المؤتمر) وباريس، ودعمهما له في مساعيه ليصبح رئيساً للعراق، فما علينا في هذه الحالة إلا أن نسأل السيسي لماذا لم يحرّك ساكناً في هذا الموضوع، وهو الذي رضي لنفسه المصالحة مع أمير مشيخة قطر بعدما فعل ما فعله بمصر ومصالحها القومية ومعه الرئيس إردوغان. فهل قطر أهم من الإقليم السوري في جمهورية عبد الناصر المتحدة أم أنّ الزعيم القومي عبد الناصر لم يعد يعني أي شيء بالنسبة للرئيس السيسي طالما أنه يفكر بالبقاء في السلطة حتى العام 2034؟
في جميع الحالات وحتى يحين موعد القمة المقبلة التي ستعقد في الأردن، جارة سوريا الجنوبية، يبدو واضحاً أنّ الجميع سيبقى على نهجه التقليدي المتناقض في سوريا، مهما كانت الخلافات والعداءات بينهم. مع التذكير بأنّ كل هذه المواقف قابلة للتعديل والتغيير بناءً على توصيات وتوجيهات، إن لم نقل أوامر أميركية بنكهة فرنسية وأحياناً إسرائيلية. وإلا لماذا يتصدر الرئيس ماكرون المشهد في بغداد وهو يتآمر على سوريا ولبنان، من دون أن يخطر على بال أحد من الزعماء العرب أن يذكِّروه أنّ فرنسا ليست جارة للعراق وأنّ عهد الاستعمار الفرنسي في سوريا ولبنان قد ولّى بلا رجعة؟
كما أنّ الرهان على فرنسا وكل من معها قد سقط، كما سقط الرهان على الدور الأميركي في أفغانستان، وأياً كانت السيناريوهات الحالية والمحتملة هناك.
عسى أن لا يكون مؤتمر بغداد تحضيراً لهذه السيناريوهات، مع تبادل الأدوار بين السعودية والإمارات وقطر وحليفتها الأبدية تركيا، والتي كانت جميعاً في خندق واحد في سنوات "الربيع العربي الدموي". وبات واضحاً أنّ واشنطن تريد لهذه الحليفات أن تكون معاً من جديد في أفغانستان أو أي مكان آخر في المنطقة ضد روسيا والصين وإيران. وهو عداء لن ينتهي طالما أنّ معظم زعماء المنطقة رهن إشارة بايدن وهو ما أثبتوه في مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة ليس فيما بينهم بل مع أميركا ضد دولهم وشعوبهم.
ويبقى الرهان دائماً على قوة ومتانة وعمق التحالف الاستراتيجي الصادق بين إيران وسوريا وقوى المقاومة بكافة أطيافها، التي افشلت كل المشاريع الإمبريالية والاستعمارية والصهيونية، ولولاها لكان أبو بكر البغدادي الآن في بغداد وضيوفه هم نفس ضيوف الأمس!
باحث علاقات دولية ومختصص بالشأن التركي