إن تطور الفكر السياسي الحديث بمقارباته ومداخله وأدواته الحكمية، قد أفرز عدة نماذج للحكم وإدارة المجتمعات، وأضاف منظومة جديدة من القيم والأسس والأفكار التي تتماشى مع تطور الإنسانية وتقدمها الباهر في مجال التعليم والفكر القانوني والحقوقي والعلوم الإنسانية والإجتماعية والإقتصادية، كالحكم الراشد والتنشئة السياسية والترسيخ الديمقراطي والتداول السلمي على السلطة والتنمية السياسية والهندسة السياسية والشرعية legitimacy والمشروعية legality وأنماط الأنظمة السياسية وحوكمة التسيير وإدارة الجودة والسلطات الثلاث والفصل المتوازن بينها…الخ. وهي أطروحات ساهمت في تعزيز مستوى الوعي الجماهيري والتنشئة السياسية وتنمية الإدراك والذكاء الجماعي، كما شكلت من جهة أخرى تحديات وجودية للأنظمة الجامدة أو التسلطية التي تفتقد لمتغير الفعالية والكفاءة والشرعية، مما يجعلها متسببة في الإحتقان الإجتماعي والكبت النفسي للمجتمع، الذي يتعاظم مع تراكم الإخفاقات والسياسات الفاشلة وعدم فعالية الإصلاحات الشكلية في حل مشاكل المواطنين اليومية، الأمر الذي سيؤدي إلى انفجار مجتمعي شامل ويؤسس لمسار الثورة بكافة تبعاتها ورهاناتها ومجاهيلها الغامضة.
وإذا نظرنا إلى أغلب الأنظمة السياسية في الدول العربية فإننا نجدها بحاجة ماسة إلى إعادة هندسة عميقة تشمل فلسفة الحكم وبنية النظام السياسي وأداء المؤسسات، فأغلبها نظم موروثة عن الاستعمار ولا تزال مكبلة بقيود تراثية اجتماعية غير صالحة للواقع الجديد، وهي بحاجة إلى تحديث عميق يَطَالُ “العلبة السوداء” و”العقل المتسلط” و”الثقافة الرديئة” و”البنية المتكلسة للنظام”ويعيد تشكيل أنساقه وترابطاته ومؤسساته ومرجعياته، وفق مسار تدريجي مدروس، للإرتقاء بالمناخ السياسي، وتطوير الممارسات السياسية حتى تنسجم مع مستوى طموح الجماهير المعاصرة، التَّوَّاقَةِ إلى الإنعتاق وحرية التفكير والعمل والتحديث المستمر لكل نظم الحياة.
فأغلب أنظمتنا السياسية لازالت مكبلة بمخلفات الفكر الشيوعي الشمولي والمنطق الأحادي الأوتوقراطي في الحكم، وأغلب النخب الحاكمة التي عاصرت مراحل الثورات التحريرية وتشبعت بالثقافة الأحادية والفكر الشيوعي اللينيني، من الصعب جدا على هذه النخب أن تؤمن بالقيم الديمقراطية وتثق بوعي الشعوب فضلا على أن تؤسس لممارسات سياسية راشدة، بل هي ترى في معايير الحكم الراشد Good governance تهديدا وجوديا لكيان الدولة، فتُحْجِم عن إجراء إصلاحات صادقة تُسفر عن تمثيل حقيقي للإرادة الشعبية وتمتين البناء المؤسساتي وترسيخ الآليات الديمقراطية في ممارسة الحكم والتداول عليه، وهذا المنطق السائد في أغلب الأنظمة السياسية العربية يشكل خطورة بالغة على المدى القريب والمتوسط، وقد يترتب عنه انهيارٌ لكافة أشكال الدولة -لا النظام فحسب- على المدى البعيد، بسبب تماهي والتصاق مفهومَيْ الدولة Country والنظام Regime في السياق العربي، وعدم وجود حدود فاصلة بينهما لانعدام ثقافة التداول والمحاسبة واستقلالية الأداء المؤسساتي والفصل الحقيقي بين السلطات، مما يجعل سقوط النظام هو سقوط للدولة بحد ذاتها كما حدث في عدة دول عربية…وهنا مكمن الخطر !
على خلاف الدول الراسخة في التقاليد الديمقراطية والحوكمة الرشيدة، فإن سقوط نظام ومجيئ آخر هي حالة صحية في عُرْفِهَا السياسي، لرسوخ منطق المحاسبة السياسية واستقلالية المؤسسات وعدم احتكار السلطة والتحكم في مؤسسات الدولة وترويضها لتنساق وراء أهواء الحاكم المسيطر.
ومن الجدير بالذكر في هذا المقام أن معطيات القرن الواحد والعشرين تختلف بصفة جذرية عن معطيات وسياقات القرن العشرين من حيث: نوعية الأيديولوجيات السائدة والتوجهات الجديدة للمجتمعات وطبيعتها الثقافية التي سببها الإنفتاح والإنكشاف الإعلامي وثورة الاتصالات، والموازين الجديدة للقوى وانحسار الكيانات التقليدية، وتوسع مفهوم الأمن Security نتيجة توسع وتغير طبيعة التهديدات، وقوة تأثير الفواعل العابرة للدول على الأنظمة السياسية، وتراجع المنظور الواقعي التقليدي لدور الدولة المركزية Central state كفاعل رئيس ووحيد في رسم السياسات العامة…الخ، ومع كل هذه التغيرات الثورية والجذرية لا تزال الكثير من الأنظمة السياسية العربية مرتهنة بالنموذج الكلاسيكي في الحكم، الذي يفتقد للفاعلية اللازمة ولا يملك القدرة على إنتاج الأفكار الجيدة وتحقيق الجودة والفعالية السياسية.
وفي سياق تشخيص اعتلالات نظام الحكم في الدول العربية، لا بد من التنبيه إلى ملاحظة ذات أهمية بالغة، وهي أن الأنظمة التسلطية Authoritarian regimes هي من أكبر أسباب فساد الدول وتقسيم الشعوب شِيَعًا وجماعات؛ إذ قبل الحديث عن العامل الخارجي ونظرية المؤامرة، لابد من تشخيص الخلل الداخلي الذي يفعل فِعْلَتَهُ بالأوطان والمجتمعات، “فالحكم الإستبدادي” بأساليبه القمعية ونظمه الجامدة الفاقدة للفعالية، وأدواته الحُكمية الحَاجِرَةِ على الحريات والأفكار والسالبة للحقوق، وسياساته المعادية للعلم والإنسان كقيمة حضارية مطلقة، هو من الأسباب الرئيسية في إنتاج “التطرف Extremism ” سياسيا كان أو دينيا أو لغويا أو عرقيا، وتوليد شعور” المقت والنبذ” لدى الإثنيات Ethnics والأفراد المحرومة، فيدفع بها نحو “فكرة الإنفصال” أو “التمرد والانتفاضة” أو ” الهجرة غير الشرعية” أو “الإبتعاد القسري” عن الوطن، مما يجعل بعض أفراد المجتمع ومكوناته المهمشة طُعما سائغا للدوائر الإمبريالية العالمية، التي تسعى لتوسعة نفوذها الحيوي واختراق الأمن الفكري والمجتمعي للمجتمعات الهشة ثقافيا وعلميا وسياسيا.
و يقودنا الحديث عن نظام الحكم في الدول العربية إلى تناول مفهوم “السلطة السياسية Political authority” التي يضمنها الدستور ويجسدها رئيس الدولة ويمارسها عن طريق مؤسسات قانونية وشرعية منتخبة على أساس الفصل المتوازن بين السلطات الثلاث، وبناء على ما ذهب إليه مونتيسكيو Montesquieu في كتابه “روح القوانين The Spirit of Laws ” من أن: تَجَمُّعَ السلطات الثلاث في يد شخص واحد يؤدي إلى الاستبداد، فإن هذا النمط الحُكمِي الطاغي في أغلب نظم الدول العربية، يعتبر من أخص علل فساد الأنظمة السياسية وجنوحها نحو التسلط والجمود وعدم الفعالية، كما أن ذلك يؤدي إلى الإنفراد بالقرار ونشوء فكرة “القائد المسيطر” و”الغرور السلطوي”، الذي يدفع بصاحب السلطة إلى تعديل الدستور لتأبيد حكمه وتركيز السلطات في يده، وتعطيل مبدأ التداول على السلطة الذي هو سبب حيوية النظام وتجدده، لأن التداول الفعلي على السلطة عن طريق آليات إنتخابية صادقة ومعبرة عن الإرادة الشعبية، يضمن المحاسبة السياسية للمسؤولين الفاشلين، ويُطْلِعُ المجتمع على أفكارٍ وسياساتٍ جديدة، ويسهم في تقييم الساسيات السابقة ومدى نجاعتها، أما تضخم السلطات واحتكارها في يد “الزعيم” أو “النخبة الحاكمة” فهو جدير بإفساد المناخ السياسي وتعطيل مسار التداول السلمي للأجيال المتعاقبة على السلطة وقتل آمال البناء وآفاق التجديد الفكري والسياسي والتنموي، ولهذا قيل:” السلطة المطلقة هي مفسدة مطلقة”.
إذن فتوزيع السلطات بشكل عادل ومتوازن بين كافة المؤسسات كفيل بضمان الجودة السياسية واستمرارية النظام السياسي وتطوره بشكل مطرد مع متغيرات الواقع ومتطلبات المجتمع وتحديات النسق العالمي، وكما يفضي إلى تحقيق التنافس السياسي على أساس البرامج لا المصالح والولاءات، وبناء دولة المؤسسات القائمة على سيادة القانون وسلطان العلم، وصدق أحمد شوقي حين قال:
بالعلم والمال يَبْنِي الناسُ ملكَهُمُ … لم يُبْنَ مُلْكٌ على جهل وإِقْلالٍ.
د. حرزالله محمد لخضر أكاديمي جزائري